top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

٠٠حافية على الأشواك قصة من دفتر ابداعات الأديبة والشاعرة التونسية الرقيقة نعيمة المديوني


افترشت حصيرا قُدّ من سعف النّخيل وجعلت من جذع شجرة وارفة الظّلال متّكأ لها.. أمسكت عودا يابسا من بين تلك الأعواد الملقات هنا وهناك..مدّت يدها الى نبع ماء عن يمينها وشرعت تداعبه.. فتتكوّن له هالات ودائرات..لم تعد ترى غير ملامح حزينة ارتسمت على ذلك الوجه الوسيم بعد أن أفقده الأسى نظارته..لملمت شتات نفسها ومسحت دموعا أدمت مُقلتيها وانسابت حارقة على خدّيها.. فتحت حاسوبها وكتبت على شاشته بخطّ غليظ "حسبي الله ونعم الوكيل" ومن لها غير الله توكله أمرها..أطلّت على الشّاشة صور متزاحمة..أعادتها الى الماضي الذي تأباه وتهرب منه.. نبشت ذكريات تسترّت برداء النّسيان..تهرّأ النّسيان وتعرّت الذّكريات فأضحت صبّية عذراء افتضّ طهارتها الغربان..تجلّت صورة طالما أغرتها بفتنتها..ابتسمت الصّورة وانفرجت منها شفتان جذّابتان يغّطيهما شاربان سودوان..زاداها فتنة وإغراء..ابتسمت لتلك الشّفتين ورحلت معهما في رحلة عناق طويل..

أغمضت عينيها فتناهى الى مسمعها صوت يأتي من أعماق الماضي..يلقي بظلاله على ساعة لم ترحل مع الأيّام.

_آه حبيبي..خذني بعيدا..حيث أنا وأنت والهوى..تعال نحلّق مع الأطيار نبني لنا عشّا بين الخمائل.

همس بين أحضانها..فجاءها الصّوت رسالة عطرة

_لا تبالي حبيبتي..أنت هنا..وأشار إلى صدره..هذا موطنك..لا تخافي..

_لست خائفة..بل أبحث عن الأمان..والأمان معك وفي غير هذا المكان..مكان انفجرت فيه براكين الغدر والنسيان..

داعب خصلات شعرها الملقى بدلال على كتفيه..سرى فيها دفء.. خفق قلبها وصرخت الشّهوة في أعماقها..كبّلتها رغبة جامحة في التّيه بين أحضانه..احتضنها وألقى بشفتيه تعتصران شفتيها..التحم الجسدان واشتعل فيهما لهيب متأجّج..جذبها برفق وألقى بها في جنّة الهوى..ارتويا حتى الثّمالة..غنما من اللّذة ما طاب لهما..انتقل بهما الشّوق إلى عالم زاخر بفنون الجمال..سرعان ما يفترقان حتى يلتقيان من جديد..يُذيبان الشّوق ويؤجّجان نارا ملتهبة..وتمرّ الأيّام يغنمان فيها من اللذة ما طاب.. يرويان الحدائق العطشى أحضانا وقُبلا..ليالي مجنونة..تأخذهما بعيدا عن هنا..عن أرض اثخنتها الجراح وعفّنتها القروح..ويأتيها الحبيب ذات صباح..بشوشا..ضحوكا.. يطلب مبلغا من المال بعد أن سُدّت جميع الأبواب أمامه..يعلمها بصوت منهزم أنّه يحتاج ذلك المبلغ ليسدّد به دينا فات ميعاد تسديده ..الحبّ أعمى ..أصمّ كما يقولون..تضع كفّها على ثغره وتسلّمه ما طلب رافضة سماع مزيد من الأعذار.. غمرها بالحبّ والكرم..كيف لها أن ترفض مساعدته..كيف تتردّد في تسديد ديونه وقد أضحى كلّ دنياها..كانت قبل لقائه زهرة ذابلة هجرها الحبّ وكساها الجفاف..وها هي اليوم زهرة يانعة تحسدها الزّهرات..يزيد الحبيب من العطاء..وتزداد العاشقة حبّا للحياة وتعطي بسخاء..وأصبحت اللعبة مكشوفة..لذّة وجنون..سحر وفنّ..عطاء بدون حساب..بدأ وضعها المالي يتدحرج كوضع هذا البلد المنكوب..وبدأت الحبيبة تشتكي قلّة الحيلة..وأدرك الوسيم أنّ عطاءه سيكون بدون مقابل..فشحّ واقتصر على القليل..يروي رغبته ويذبح نهمه..لكنّها لا ترتوي..تطالب بالمزيد..أدمنت الحبّ وحذقت فنونه..وهل يكفيها منه ذلك النّزر القليل..أخافتها تلك الدّقائق وقد تعوّدت منه البقاء اللّيالي الطّوال.. خافت أن يهجر أحضانها..أن يستبدلها بأخرى أكثر كرما ..داست على القيم وباعت شرفها في سوق النّخاسة..انقلب السّحر على السّاحر..بات يختلق الأعذار ليبتعد عنها..تشبّثت به..ركعت أمامه تستجديه الغرام..ركلها..أهانها.

لكن أبدا لن تستسلم..توسّلت..صرخت:

_أحبّك ولا يمكنني أن أعيش بدونك..سأبيع مصوغي.. سأشتغل ساعات إضافيّة..سأجيئك بالنّقود..لا تتركني..أموت إن هجرتني.

ابتسم ابتسامته الماكرة..تأكّد أنّ الفأرة علقت بالمصيدة وأنّها أضحت رهن إشارته..جذبها إليه بحنانه المسموم..همس في أذنيها..

_أحبّك.. ولولا حاجتي الماسة إلى المال ما هجرتك..أعشقك.. أنت حبيبتي..

سحبها كالعادة من ذراعيْها الى مخدع الأشواك ..جرّدها من كبريائها..ضاجعها كما لم يضاجعها من قبل..حلّقت في عالم الغرام من جديد.. صارت حبيسة الحبّ..سجينة العطاء..

غادر الوكر .. طلب منها أن تظلّ كما هي عليه..عارية من المخيط ومن الحياء..

_لحظة حبيبتي..سأعود.

غادر الغرفة وقام باتّصال هاتفيّ لم تعرف فحواه ثمّ عاد إليها..

غمرها من جديد بحبّ أفقدها القدرة على مقاومة فحولته..تاهت معه وفيه..لم تمض غير بعض الدقائق حتى طُرق باب المنزل... اضطربت..لا تنتظر أحدا..هدّأ من روعها..ستر عورته بلحاف أبيض وأسرع إلى الباب فتحه دون أن يسأل عن الطّارق..يُفتح الباب ويطلّ منه كهل أشعث كأنّ بركانا ألقى عليه حِممه..فبدا متلهّفا.....(يتبع)

٠٠٠حافية على الأشواك (ج2)٠٠٠٠

يلج الغرفة كهل جاوز عقده الخامس مُنتفخ البطن..أشعث الشّعر..جاحظ العينين..تتدلّى شفته السّفلى وكأنّها منفصلة عن شقيقتها العلياء..تبعث على القرف والإسمئزاز..تظهر من بينهما أسنان سوداء نخرة.. فوجئت بهذا الغريب يلج غرفتها يلتهم جسمها الممدّد على السّرير التهاما..أسرعت تستر جسمها باللّحاف المتكاسل على حافة السّرير مبعثرا..اقترب منها الغريب لاهثا يريد تمزيق أنوثتها..صرخت: "حاتم..حاتم من هذا؟"

ابتسم الحبيب المراوغ ابتسامة نكراء وقال: "صديق لا تخافي".

عاين الصّديق البضاعة..أعجب بجمال ذلك الجسم الغضّ..سال لعابه فآبتلعه..نزع عنه ثيابه وارتمى على السّرير يبتغي نهش الجسم العارئ بأظافره وتمزيقه بأنيابه..دفعته عنها بقوّة ونهضت تبحث عن ستار تختفي وراءه..تشعر بالخوف وتنتابها رغبة الغثيان..كفرت بالحبّ وبالمحبّين..كيف يهدر حبيبها شرفها ويهديها الى صديقه؟ كيف تسوّل نفسه أن يبيعها بيع المطيّة وقد أحبّته حبّا مجنونا تنهال الأسئلة على رأسها..لا تجد لها أجوبة..تسعى إلى إنقاذ نفسها من هذه الورطة التي وجدت نفسها فيها والتي ألقى بها فيها ذاك الذي أحبته وأفرطت في حبّه..التحق بها الغريب كثوْر هائج يروم وصلها حتى وإن كرهت..نظر إلى وجهها فبدا جميلا زاده الخوف جمالا فبدت كليلة مُقمرة زادها توهّج النّجوم رقّة.. تأجّجت نيران الشّهوة عند الغريب فصرخ وازبد وهدر كالأمواج المتصارعة.."أنت لي.. أنت لي.. دفعت ثمنك مقدّما ومستعدّ أن أضاعف العطاء"..صرخت الحمامة الجريحة: "يا ويل شقائي..أيّ ثمن دفعت؟"

-ثمن جمالك..ثمن أنوثتك..

وأدخل يده المرتجفة في جيب سترته..أخرج أوراقا مالية من فئة الخمسين دينار ونثرها عليها قائلا :"كوني لي..لساعة واحدة من الزّمن..أسعديني بجمالك..لا تبخلي عليّ بأنوثتك..وسأغرقك بخير وفير لم تعرفيه أبدا"

نظرت الى ذاك الذي أمِنت له وظنّته درْعا يقيها غوائل الزّمان.. صرخت ودقّات قلبها تكاد تخترق جدران صدرها:

-حاتم.. أرجوك ادفعه عنّي..ما بك لا تحرّك ساكنا..أنفاسه تخنقني..!؟

جرت الى الحبيب الماكر تحتمي به من الغريب..تتوسّل اليه..تسأله السّتر والأمان..عن أيّ ستر تتحدّث وعن أيّ أمان؟ ..امتدّت يده إليها وآنهالت على وجهها بصفعة أفقدتها رشدها وألقت بها على الأرض.

_كفاك مضيعة للوقت..انهضي..صديقي ينتظر لحظات سعادة منك..انهضي..

لم تحرّك ساكنا..ركلها برجله.. تيقّن أنّها فقدت وعيها..جثا على ركبتيه وجمع الاوراق المالية المتساقطة أرضا..قال الى الغريب.."هي لك افعل بها ماتشاء..إن راقت لك وأنا على يقين من ذلك ورغبت في لحظات ممتعة اتصل بي وستوافيك أين رغبت" ..نظر إليه الغريب مسترابا في أمره وأومأ برأسه موافقا..

لم تعرف كم وقت مرّ عليها وهي فاقدة الوعي ولم تعرف ما فعل بها ذاك الغريب..عندما استعادت وعْيها وجدت ذلك الرّجل مرتد لثيابه يجلس صامتا على أريكة في الغرفة وقد وضعها فوق سريرها وأسندها الى وسادة.

سألته: "من أنت وأين حاتم؟"

ردّ الغريب بصوت رقيق.."حاتم قبض ثمن بيْتعك وغادر المنزل وأنا من دفعت ثمنك وما نلت منك شيئا ومتنازل عن حقّي..المهم أنّك استعدت وعْيك..لقد انتظرت حتّى تستفيقي.. الحمدلله على سلامتك..سأغادر الآن."

أدركت أنّ الغريب كان أحنّ عليها من الحبيب..شكرت كرمه..تدحرجت دموع حارة من مقلتيْها..أدرك الغريب أنّ هذه المرأة الممدّدة على السّرير ليست متعوّدة على بيع لحمها كما أوهمه حاتم..استغلّ هذا اللّعين جمالها ليجعل منها مورد رزق يتمعّش منه..لعن حاتم في سرّه ورقّ قلبه لحال هذه المرأة التّي مازالت ترتعش كقصبة في حقل أجرد.. نهض وهمّ بمُغادرة المكان.. قطع سيره صوتها النّاعم "أشكر لك كرمك سيّدي ورحمتك بي".

قال مبتسما: "أنا من يجب عليه الإعتذار لما بدر منّي، لم أكن أعلم حقيقة أمرك..ظننتك إمرأة سهلة في متناول من يدفع الثّمن..أوهمني حاتم بذلك سامحه الله..جئت طامعا في معاشرة سيّدة محترفة..تبيع الهوى لطالبيه..فوجئت بأنّك محبّة لذاك الذي لم يصن النّعمة..آحمدي الله سيّدتي الذّي أنار دربك.. أنصحك بالإحتياط منه ومن أمثاله..سوف يكرّر التجربة ولا سيّما وأنت على هذا القدر من الجمال..وسوف يحاول مرّة ومرّات لجرّك إلى أبواب الرّذيلة".

شعرت بدقّات قلبها تتسارع..هل أصدّق الغريب..كيف لحاتم أن يبيعني وهو حبيبي؟..لكن هذا الغريب دفع الثّمن أمامي وحاتم صفعني لأرضى بالبيعة..ويْل قلبي..هل وهبت حياتي لشخص عديم المروءة..بلا ضمير؟..تذكّرت كم أحبّته..كم حرمت نفسها لتعطيه المال الذي يحتاجه..سالت مدامعها تغسل جراحها..وأنّ للجراح أن تُغسل؟..سخرت من سذاجتها..سخرت من عطائها اللّا محدود..ها هو الحبيب يدير لها ظهره بعد أن غرس نباله في روحها..همست من بين دموعها..ضاع الضّمير.. كما ضاع الوطن..بيع الوطن كما بِعتُ..من يبيع شرف حبيبته، يبيع وطنه..والمقابل واحد....أكوام من الدوّلارات والدّينارات...

أحسّ الكهل بالألم يغتال روح هذه السيّدة السّاذجة..التي مازالت تؤمن بالحبّ والوفاء..

نظر إليها وقال:راجعي حساباتك سيدتي..مازلت في ريعان الشّباب والأفاعي تحيط بك من كلّ جانب..

أدخل يده إلى جيبه وجذب بطاقة تحمل اسمه وعنوان شركته..مدّها إليها قائلا "إن احتجت الى مساعدتي لا تتردّدي في الإتّصال..حفظك الله وردّ عنك شرّ المحتالين"وغادر البيت تتزاحم في مخيلته صور باهتة..صور الحبّ المبتور..صور الطّمع ..صور الشّجع..

استجمعت قوّتها ونهضت من على السّرير ..دخلت غرفة الاستحمام تطهّر جسمها من التلّوث وتداوي جراحا نبت في فؤادها..

حاول حاتم اقتحام حياتها من جديد واستغلال حبّها وحذقه التّلاعب بمشاعر الفتيات والسيّدات المتعطّشات للحبّ..رفضت العودة إلى الوراء..استعانت بالصّبر على مقاومة وعوده وإغراءاته..هدّدها بنشر صورها على مواقع التّواصل الإجتماعي..صمدت وحذّرته "إن فعلتها سيكون القضاء فاصلا بيني وبينك" أوْصَدت جميع الأبواب أمامه وفتحت أبواب التّوبة أمامها..سعت بكلّ ما أوتيت من قوّة الى التخلّص من سيطرته عليها..كانت تردّد" أعيش زهرة ذابلة وسط الحقول الرّيانة ولا أعيش زهرة فوّاحة وسط المستنقعات والأودية الملوّثة.."

ابتعدت عن الذّكريات المؤلمة..وعاشت هنا بعيدة عن الإنسان الذي سكنه الشّيطان.. قريبة من الطّبيعية ..تبثّها شكواها..وتستلهم منها القوّة..علّمتها الطبيعة أنّ الأيّام كفيلة بمداواة الجراح وأنّ الزّمن رفيق القلوب الحائرة......

نعيمة المديوني (تونس)

12 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page