لدى إبلاغه بفوزه بجائزة نوبل، بدا الكاتب الفرنسي باتريك موديانو مسرورا ولكن مندهشا ومتفاجئا من اختياره..في البداية، أقيم له مؤتمر صحفي في دار غاليمار للنشر، وحين وصل الى القاعة حيث احتشد الجمهور والصحفيون يرافقه الناشر انطوان غاليمار ومساعدوه سرت غبطة بين الحضور لاختيار كاتب فرنسي لنيل هذه الجائزة رفيعة المستوى..
في ركن القاعة، وقفت زوجة الروائي دومينيك زيرفوس برصانة وهي تبتسم بين الحين والآخر وتجيب عن اسئلة الصحفيين بإجابات مقتضبة، أما الروائي الفائز فقد تدبر أمره جيدا حين انتصر على خجله وتردده ليفرض نبرة صوته في القاعة..
لدى سؤاله عن رد فعله تجاه فوزه بالجائزة قال انه لم يكن يتوقع ذلك مطلقا وانه تلقى النبأ من بنته ماري بعد ان أعلنته جميع وسائل الإعلام في أنحاء العالم..وقتها، شعر بالدهشة وبانه انقسم الى نصفين وبأن شخصا آخر سيتلقى الجائزة نيابة عنه!
كانت قاعة دار غاليمار للنشر قد استقبلت الكاتب الفرنسي كليزيو الذي فاز بجائزة نوبل عام 2008 وعقد فيها مؤتمره الصحفي ايضا، لذا يفكر البعض بإطلاق اسم (قاعة الفائزين بجائزة نوبل) عليها..
في المؤتمر قال موديانو ايضا انه تلقى اتصالا من الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند حيث قال له انه يستحق الجائزة وانها مكافأة له ولبلده فرنسا، لكنه فوجئ باتصاله فقابله بالصمت ثم الكلمات المبعثرة..
وعن سؤاله عن أسلوبه في الكتابة قال انه تأثر بالأدب الأميركي والياباني والفرنسي ايضا وانه يفضل الأسلوب المختزل والجمل البسيطة،مؤكدا على ان فوزه بجائزة نوبل لن يمنعه من مواصلة الكتابة بلا كلل، وبالفعل فقد اجمع النقاد على ان موديانو يجيد تصوير الأشياء ورسم الأحلام بطريقة متواضعة وبسيطة ولكن بارعة وساحرة في الوقت نفسه..
لقد سحر أسلوب موديانو الأكاديمية السويدية التي رأت فيه مبدعا في (فن الذاكرة) الذي ناقش بواسطته المصائر البشرية الأكثر تعقيدا وكشف النقاب عن عالم التملك والاحتلال.
حاز الكاتب على جائزة غونكور للأدب عام 1978 عن روايته (شارع الحوانيت المعتمة) لكنه كان قد احدث دويا في عالم الأدب منذ صدور روايته الاولى (ميدان النجمة) عام 1968.. ويمتاز موديانو بأعماله الكثيفة المركزة المقتضبة في الرواية والسيناريو على السواء اذ خاض مجال كتابة السيناريو للسينما ايضا فضلا عن كتابة الأغاني.
من اهم الروايات التي ينبغي قراءتها والتوقف عندها خمس روايات مميزة صدرت جميعها عن دار فوليو للنشر، كما جمع عشر روايات اخرى في مجموعة اطلق عليها اسم (كوارتو)..اولى تلك الروايات هي رواية (ميدان النجمة) الصادرة عام 1968، وتروي قصة ساخرة الى حد ما ليهودي معاد للسامية يتصرف بجنون معتقدا ان كل العالم يريد منه شيئا..
الرواية الثانية هي (شارع الحوانيت المعتمة) الصادرة عام 1978 والتي استحق عنها جائزة غونكور للأدب، وتدور أحداثها حول قصة المخبر السري غي رولان الذي يفقد الذاكرة فيحاول استعادتها عن طريق البحث عن ماضيه بنفسه.
الرواية الثالثة هي (دورا برودر) الصادرة عام 1997، وتقوم قصتها حول إعلان صغير صدر في احدى الصحف عام 1941 عن اختفاء فتاة شابة مولودة عام 1926 في باريس..ويحاول الروائي هنا ملاحقة الفتاة وتتبع خطاها انطلاقا من فترة وأماكن طفولتها..الغريب ان الفتاة تظهر ثم تختفي من جديد ولا أحد يعرف سر اختفائها وأين تذهب؟
في الرواية الرابعة التي تحمل عنوان (نسب) يستخدم موديانو أسلوب السيرة الذاتية اذ يحاول استحضار طفولته حتى تاريخ نشر روايته الأولى في سن 22 عاما..ويقول موديانو عن هذه الرواية انه كتبها كما لو كان يكتب شهادة او بيانا وثائقيا وكأنه يكتب عن شخص آخر..اما الرواية الخامسة (لاكومب لوسيان) الصادرة عام 1974 فقد تحولت الى سيناريو فيلم للمخرج لوي مال الذي كتبه بالاشتراك مع موديانو، وقد اظهر هذا السيناريو ببراعة موديانو كسينارست، وتدور أحداثه حول شاب قروي فرنسي يريد ان يعمل في المقاومة فيجد نفسه مجندا من قبل الغوستابو!
اضافة الى هذه الروايات المتميزة، عمل موديانو على جمع عشر روايات في مجموعة (كوارتو) التي نشرتها دار غاليمار، وهي الروايات الصادرة ما بين عامي 1975 و2010، وتشكل هذه النصوص سيرة ذاتية متخيلة للكاتب اذ يشير بعضها الى فترة طفولته او الى سنوات مابعد الحرب وهي (الفيللا الحزينة)، (دفتر العائلة)، (شارع الحوانيت المعتمة)، (إعفاء من العقوبة)، (كلب الربيع)، (دورا برودر)،(حادث ليلي)، (نسب)، (في مقهى الشباب الضائع) و (الأفق).
من جهتها، نشرت دار لوهيرن كتابا تناول فيه رافاييل غيديه ومارلين هيك عرضا لأعمال الروائي عبرتضمين الكتاب دراسات متخصصة ومقالات نقدية ومقابلات وشهادات ومراسلات ضخمة له، كما ضم الكتاب نصوصا نادرة واخرى غير منشورة للكاتب.
برع موديانو ايضا في مجال كتابة شعر الأغاني وغنت له فرانسواز هاردي وريجين اغنيات حققت نجاحا كبيرا..اما في مجال السينما فقد كتب سيناريو عدة أفلام منها (لاكومب لوسيان) للمخرج لوي مال عام 1974، وفيلم (البريء) عام 1975، وفيلم (ابن غاسكون) لباسكال اوبييه عام 1995،وفيلم (رحلة سعيدة) لجاب بول رابينو عام 2002..كما كتب عام 1996 سيناريو (انها تدعى فرانسواز) بناءً على طلب النجمة الفرنسية كاترين دينوف لاحياء ذكرى شقيقتها المتوفاة.
وفي عام 2000، تم اختيار موديانو ضمن لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي حيث منحت جائزة السعفة الذهبية لفيلم (الرقص في الظلام) للمخرج (لارس فون ترييه)، وفي عام 2004، اصبح موديانو مرجعا للثقافة الفرنسية وتناول النقاد أعماله بالثناء والاستحسان لكن رواياته لم تصل الى أيدي الناطقين باللغة الانكليزية اذ لم تتم ترجمتها كلها وهو الأمر الذي عقد ألسنة الكتاب الانكليز والأميركيين بالدهشة حين سمعوا اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب من دون أن يعرفوه او يقرأوا أعماله.
* عن: صحيفة الفيغارو الفرنسية
*المدي
2015/02/24
Comments