وقفت بين الزّحام كقصبة في مهبّ الرّيح..لا تعرف لها مستقرا..تدفعها المناكب يمنة ويسرة..هذا يجرّ حقيبة سوداء داكنة..سواد ليل حالك الظّلام..غادره الوئام.. وذاك يدفع بيمينه عربة ملآ بالأنين.. يجرّ معها عذاب السّنين وويلات المصير في ردهة ألفته منذ سنين تراه كلّ يوم وعلى إمتداد السّنة..لا يتوقّف صيفا ولا شتاء.. لا ربيعا ولا خريفا.. يدفع أمامه عربة مثقّلة بحقائب المسافرين عبر الزّمان والمكان.. ألفه المكان فبدا كجزء من أجزائه المتحرّكة.. بيساره اشتعلت سيجارة يتيمة..يلتهمها في عصبيّة جليّة.. ينفث دخانها سموما تملأ الفضاء وتزيده اختناقا حرارة الجوّ الثّقيل الغارق في سبات عميق.. غير بعيد تحضن سيّدة في مقتبل العمر رضيعها..يصرخ فتحاول إسكاته بوضع مصّاصة في فمه.. يدفعها بلسانه الصّغير ويضاعف الصّراخ.. تهبه ثديها بعد أن تحكم حجبه عن أعين المتطفّلين.. يضع يده الصّغيرة عليه بحنان ويشرع في التهام لبنه بشجع.. تتأمّل نرجس المشهد فتختطفها الأحلام بعيدا عن المناكب وتحلّق بها على غيمة صافية.. ترى مصطفى يداعب بطنها المتكوّر أمامها.. يقبّله.. يضع رأسه عليه يتسمّع حركة الجنين داخله.. يقول:"أريدها بنتا تشبهك.. شقيّة.. مشاغبة.. تملأ البيت مرحا". تبتسم وتقول:"أريده صبيّا حنونا مثلك.. يكون سندي ورفيقي يملأ حياتي بشرا وغبطة" يخرجها من أحلام اليقظة منْكب صُلب.. يعيدها مكرهة الى واقعها.. فتجد نفسها من جديد بين منكب واخر تترنّح وتستقيم.. تتأفّف من كثرة المزدحمين.. يدفعها الحنين الى رؤية الحبيب البعيد القريب.. صفّر القطار مُعلنا عن موعد انطلاق الرّحلة.. اختطفها لبرهة من أحلامها وأعادها الى واقعها.. امتطت عربة في الدّرجة الأولى.. انطلق القطار يتهادى في مشيته كأنّه يخاف على ركّابه من مغبّة المسير بين الحقول والمزارع وأشجار الصّنوبر الشّاهقة في شموخ وعلياء.. ألقت برأسها الى الوراء تستريح قليلا وتراجع صورا ارتسمت بهيجة على مخيّلة خلت من كلّ الصّور عدا صورته.. أغمضت عينيها لتنال قسطا من الرّاحة قبل خوض غمار الرّحيل.. تركت سيّارتها في مأوى خاص من المآوي التي ازدحمت بها المدينة فتزيد من اختناقها.. امتطت القطار للتفادى حركة المرور العصيّة .. ترنو الى العودة قبل حلول الظّلام.. وعدته بالزّيارة.. هاهي بعد عدّة أشهر من انتقاله هناك تفي بوعدها.. لم تعلمه بالموعد .. تريد مفاجأته وادخال البهجة على قلبه.. تطير بها الأشواق الى لقائه ودفن رأسها بين أحضانه والنّهل من سخاء عطائه.. ستطفئ لهيب الحنين المشتعل ونيران الأشواق المتأجّجة.. نظرت الى الحقول المنتشرة هنا وهناك.. أطربتها ألوانها الخضراء وأغصانها المتعانقة.. كأنّها تتهامس وتتناجى.. القطار يطوي الأرض طيّا.. الوقت يمرّ متثاقلا .. تنظر من حين إلى آخر إلى معصمها.. تتأمّل ساعتها وكأنّها تستعجل الوقت لتصل حبيبها قبل أن يغادر المنزل وينتقل إلى عمله.. أدرك القطار ما يرهقها.. فأطلق العنان لمحرّكه وراح يجرّ عرباته المكتضّة بالمسافرين جرّا .. وزاد من سرعته غير عابئ بالمسنّين والحوامل والرّضع.. سابق الأطيار.. وكأنّ للحبّ سحرا ينثره على الجماد فيبثّ فيه الحياة.. فتغدو سكرى وماهي بسكرى.. سايرت سرعته بأحلامها وأمانيها.. راحت تنبش الذكريات الجميلة.. تبتسم لطيفه .. تدغدغ الأماني العذاب.. بنت الجسور وشيّدت القصور.. سكنتها مع طيف الحبيب.. عطّرتها بأريج حبّها.. نمّقتها بأعذب ما عندها من مشاعر العشق والحنين.. دثّرته برموشها.. كسته نبضات فؤادها.. هدهدته قبل النّوم كهدهدة أمّ رؤوم لطفلها المدلّل .. لم تبخل عليه بعواطفها الجيّاشة.. لم تمّن عليه بما فعلت له ولأجله.. هو حياتها وبهجة أيّامها.. بعد زمن قصير ستكون معه.. له.. بعيدا عن أعين الطّفيليين المتربّصين بالعاشقين.. أغمضت عينيها.. راحت في سبات عميق .. لم تدر كم مرّ من الوقت وهي في غفوتها.. أيقضتها تصفيرة القطار.. هو يعلن عن نهاية الرّحلة وبداية المسير عبر مسالك الأنين.. فتحت عينيْها.. عرفت أنّها وصلت بأمان.. حمدت الله على السّلامة.. وما أدركت ما تُخفيه لها هذه الزّيارة من وأد الأحلام.. جذبت حقيبة حمراء صغيرة تنمّ عن ذوق راق.. ترّجلت من القطار.. أوقفت سيّارة أجرة.. سلّمت السّائق ورقة كُتب عليها العنوان.. آنشغلت تهيئ نفسها للقاء والسّائق المتطفّل يراقب حركاتها ويقرأ ما يجول بذهنها.. تجربته الطّويلة مع الحرفاء جعلته خبيرا في معرفة أسرار كلّ حريف.. لم تهتمّ لأمره وتجاهلت نظراته الثّاقبة ولم تفكّر إلاّ في مصطفى وفي دفء أحضانه وفرحته بقدومها.. لم تمض دقائق حتى حطّت الرّحال أمام منزل هجره الحمام .. سكنه البوم وملأه نعيقا.. استغربت المكان واستنكرت تواجد حبيبها فيه.. هزّت كتفيْها مُستخّفة..لا تهتمّ لشيء قدر اهتمامها بذلك الحبّ الذي نما بين أحشائها وأينع.. ولجت حديقة صغيرة نبتت فيها الأشواك وترعرعت.. داست بيد مرتعشة على زرّ الجرس.. وصلت الى مسمعها أصوات جلبة.. ضحكات مُبتذلة.. طرقت الباب.. حتما لم يسمعها مصطفى..صوت المذياع يقف حائلا بينه وبين صوت الجرس.. هو منشغل في قضاء شؤون البيت.. كثيرا ما اشتكى من الطّبخ ومتاعبه.. أرهقه كيّ الثّياب.. تنظيف المنزل يجعله يذهب إلى عمله منهكا.. كم يعاني من الوحدة.. طالما همس في أذنيْها "متى يجمعنا مكان واحد يزيل غُربتنا.. مكان تكونين قناديله.. تعطّرينه بدفئك وتسكبين عليه فيض حنانك"
كيف سيستقبلها يا ترى؟ هل سيحضنها بلهفة تفوق لهفتها ويشبعها قبلات تذيب أشواقها؟ ها قد مرّ على انتقاله هنا أكثر من أربعة أشهر.. وهي فترة كفيلة لتؤجّج نيران الهوى في فؤاده.. أم ستصعقه الصّدمة فتُلجم لسانه؟ فترتمي بين أحضانه تطفئ ما اضطرم داخلها من شوق وتلجم الآهات التي استنزفت صبرها.. همّت بالطّرق من جديد.. وفجأة انفتح الباب.. أطلّت من ورائه شابة في عقدها الثّالث.. وجه طروب حجبت جماله المساحيق.. جسم فاتن ألقيت عليه بدلال قطعا من الملابس الدّاخليّة المُغرية فأبرزت مفاتنه غير عابئة بالأعين الملتهبة.. كل ما فيها يصرخ أنوثة.. صفعتها رؤية أمرأة في منزل حبيبها.. كبّلتها الصّدمة.. شلّ لسانها عن الكلام.. انفجرت الدّموع بركانا يسيل في غير انتظام.. تقهقرت الى الوراء.. خرجت الحروف من فمها متعثّرة.. قالت:"أخطأت العنوان.. حتما أخطات.. اعتذر عن الإزعاج سيّدتي" همّت بمغادرة المكان حفظا لكرامتها.. ارتجت قدماها.. تسمّرتا في المكان.. كأنّهما قُدّا من حديد.. أطلّ مصطفى يستفسر عن القادم.. كان بالأمس القريب نبض القلب الأمين.. نظر اليها.. كست الدّهشة محيّاه.. علقت الكلمات بين شفتيه.. حاول أن يقول شيئا ليحطّم جدار الصّمت المقيت.. ذلك الصّمت الذّي استتبّ على المكان فأرداه مقبرة للأحلام.. لم تسمع ما قال.. جرّت حقيبتها مذهولة.. غادرت المكان مكسوّة بكساء الأحزان وخيبة الأمال.. ماذا ستفعل في مكان غريب خاو من ذكرى حبيب.. قادتها رجلاها إلى السّراب.. إلى الخراب.. إلى بؤرة العذاب.. كيف السّبيل الى العودة الى موطن أحلامها بعد ان اضطهدت آمالها.. أوقفت سيّارة أجرى.. همست بصوت مبتور.."الى المحطّة لو سمحت..." سمعت صوتا يناديها :نرجس.. انتظري.. لا ترحلي.. سأشرح لك.." استعجلت السّائق تهرب من خيبتها.. من أحزانها.. ليت الزّمان يتوقّف.. ليتها تستيقظ من كابوس مميت.. ليت عجلة الزّمان تعود في سيرها الى الوراء.. فتمحي من ذاكرتها هذا الشّريط الأليم.. ليتها تجد نفسها من جديد.. فيولد النّور من عتمة الظّلمة.. وتولد البسمة من رحم الالم.
Comments