*من قضايا نظرية التناص العربي*
*1* إن الأمر الذي دعا البلاغة إلى التدخل في نظرية تعالق النصوص وادعاء حوزها ثم ضمها إلى فرع من فروعها وهو البديع مقولة من المقولات المركزية في النقد العربي القديم هي "مشاعية المعنى". وبناء على هذه المقولة يصبح النظر النقدي موجها إلى كيفية إكساء المعنى بإهاب اللفظ أي سكبه في أسلوب مما يدخل تحت طائلة البلاغة، وهذا ما جعل ظاهرة تعالق النصوص في وضع تقلقل أصوليّ بين النقد الأدبي والبلاغة وجعلها محل تنازع بين الفرعين المعرفيين. هذا الوضع غير المستقرّ سوف ينعكس على المصطلح ذاته فهو عند النقاد سرق وتضمين وعند البلاغيين احتذاء واستعارة وأخذ.
*من ايام عمران لمحمود المسعدي*
*2* لم يُقسّم الكتابُ إلى أحاديث كما كان الشّأن في حدّث أبو هريرة قال ولا إلى فصول كما في مولد النسيان وإلى إلى مناظر كما في السّدّ...ولكن إلى أيّام... وهو شكل تراثيّ يذكّرنا بأيّام العرب التي تروي وقائعهم قبل الإسلام. وسواء اعتمد التقسيمُ الحديثَ أو الفصلَ فإنّ الشكل ينخرط في ما دأب عليه المسعدي في كل مؤلفاته الإبداعية من اعتماد الأشكال الوجيزة المستوحاة من التّراث العربيّ والتي ينظمها خيط الدّلالة بحيث تكوّن على انفصالها لحمة قوية ونصّا متصلا ومرحلةً من نظام.
*من مسائل البيان والتبيين*
*3* ... ومن ذلك أيضا ما نجده شديد البروز لدى الجاحظ في البيان والتبيين من أنّ اللغة في مختلف مراتبها، مشكّلة (أيْ في مستوى الخطاب) كما في معجمها مشروطة باشتراطات غير لغويّة وهذا يمثل أيضا مبحثا لسنايّا وأنثروبولوجيّا معاصرا نجده منتشرا لدى فلاسفة اللغة ولدى من بحثوا منزلة الخطاب في الحياة المعاصرة مثل ميشال فوكو ومن ذلك أيضا علاقة الخطاب بالسّلطة وبالفكر في مجتمع مضطرب كثرت فيه الممل والنّحل واهتزت كينونته بفعل الضغط الحضاري الذي تمثله شعوب أشد ترسّخا في الحضارة مما انبرى الجاحظ إلى مقاومته وفضلا عن ذلك نجد لدى الجاحظ أمرا طريفا بحثه فلاسفة اللغة المعاصرون وأفاضوا فيه وهو مراقبة الخطاب لذاته وسلطته على نفسه وابتداع آليات ذاتية لهذه المراقبة. وخلاصة القول إن الجاحظ في البيان والتبيين أظهر بواسطة النّصوص المنتقاة وبواسطة ما كان يسوق من تعليق ونقد أنّ الخطاب مشروط وجوبا بإرهاصات غير لغوية نتيجة لصبغته التّداولية ولوظائفه الأساسيّة في صياغة الفكر وفي العلاقات الاجتماعيّة وفي العلاقة بالسّلطة تأييدا ومناهضة.....
*اندريه شديد*
*4* من الناس من يغفل عن الكاتبة الفرنسية من أصل سوري لبناني أندري شديد Andrée Chedid بل إن اسمها لا يتداول بين الأدباء التونسيين ولم أسمع من يذكرها ولم أقرأ عنها فيما يتداول من أسماء الأدباء (لو كان هناك بالفعل تداول لأسماء من تميز منهم). يكفي القول إنها كاتبة يقدرها الفرنسيون كثيرا فقد نالت وسام الشرف الفرنسي وعديد الجوائز الكبرى منها جائزة قونكور مرتين وبعد وفاتها حملت اسمها في فرنسا شوارع ومدارس ودور ثقافة.
ولدت الكاتبة يوم 20 مارس 1920 بالقاهرة وتوفيت بباريس يوم 6 فيفري 2011 كان والدها مدرسا للبيولوجيا وباحثا بالقاهرة ثم هاجرت العائلة إلى باريس سنة .1946
بدأت الكتابة منذ 1952 وتنوعت أجناس كتبها بين الشعر والرواية والقصص القصيرة والمسرح وكلمات الأغنية والمواضيع المتنوعة وتجاوزت إصدراتها 70 إصدارا ويكفي ان تنظر في مغلفات كتبها لتستنتج ولع دور النشر المختلفة بإصدار إنتاجها.
لم تنقطع الصلات الفكرية والوجدانية ببلدها فكتبت عن الحرب ونشدان الحب والإصرار على الأمل والتطلع إلى عالم أفضل.
*الوصف في الرواية*
*5* الوصف في الرّواية
........ نقدّم في هذه الورقة ترجمة لفصل حامل لذات العنوان من كتاب هنري بناك الذي استخرجنا منه الورقة السّابقة. وقد عمدنا فيه إلى إدماج الجمل الاعتراضية التي تقوم مقام الهوامش في النّصّ الأصلي وأضفنا من لدُنّا نموذجا - في خصوص الوظيفة الكنائيّة للوصف - من الأدب الفرنسيّ لِمَا كان أستاذي طيّب الذّكْر الدكتور جاك لومير J. Lemaire يدعوه في تحاليله لوظيفة الوصف في السّرد ب "الإشارات المتقدّمة" signes- Super.
..... الوصف في الرّواية
.... حدّ الوصف
هو تمثيل للأشياء وللشّخوص، ويختلف عن السّرد الذي هو تمثيل للأفعال والأحداث وعن الحوار والمناجاة وعن التفكير الأخلاقيّ. أمّا في الشّعر فإنّ الوصف يتقابل وجميعَ الوظائف الأخرى غير الوصفيّة. وأمّا في المسرح فليس له مكان لهيمنة الفعل الحركيّ والغنائيّ.
وفي خصوص الرّواية فإنّه لم يوجد اتفاق حول ضرورة الوصف وقيمته في صلبها، بيد أنّه في الحقيقة عنصر لا غنى عنه، وهو، في ذات الوقت، متعلق بالسّرد ومستقلّ عنه وذلك في:
1/ في مجال الدّيمومة
بما أنّ السّرد قبل كلّ شيء نقل لفعلٍ فإنّ الوصف يمكن أن يجمّد هذا الفعل ثم يستغرق وقتا لتقديم الأشياء أو الشّخوص، لكنّ ذلك لا يعني بالضّرورة قطع الزّمن السّرديّ التّخيليّ، فالمسألة حينئذ متعلقة بزاوية النّظر التي يقدّم منها هذا الوصف: فإذا كان الوصف موضوعيا أيْ من دون تبئير داخليّ، بعبارة جيرار جينيت، فإنّه يقتضي حتما توقّفا للزّمن التّخيليّ (كما هو الشّأن في روايات بلزاك) أمّا إذا كان الوصف ذاتيّا محتويا على تبئير داخليّ يتبنّى وجهة نظر الشّخصيّة فإنّه يندمج في ديمومة السّرد. ذلك أنّ القارئ سيكتشف عالم الرّواية من خلال البطل (مثال ذلك وصف ورشة الحدادة في رواية L’assommoir أو معركة واترلو في رواية فلوبيرde Parme La chartreuse فما بالك بمارسيل بروست في إطار الرّواية الجديدة.
2/ في مجال الاشتغال
يمكن القول كذلك عن الوصف إنّه فراغ لا ضرورة منه أو إنّه يضطلع بوظيفة مخصوصة. فلو فكّرنا مسبقا فيما يخصّ الرّواية (الرّواية النفسيّة بله الكلاسيكية) لوجدنا أنّ أهمّ الأحداث إنّما مسرحها النّفس، فلمَ نحوّل اهتمامنا إلى ما هو ماديّ من الشّخوص ومن الأمكنة؟ لكن يمكن الاعتراض على هذا بأنّ للوصف:
• ذو قيمية زخرفيّة، فالوصف زينة مثل الأساليب البلاغيّة وهو مستجيب لإرهاصات جماليّة... كان هذا إلى حدود القرن التّاسع عشر وخاصّة في فترة الفنّ الباروكي (حريّة التّعبير وكثافة الزّخرف). لكنّ "أندري بروتون" ومِن ورائه السّورياليون تمرّدوا على ما أسموه بتراكم صور الكاتالوغ ومشاهد البطاقات البريديّة. وبناء على ذلك رفضوا أن تجسّد لحظات بلا قيمة من حياة المرء (مانيفست السّوريالية).
• ذو قيمة تفسيريّة: إنّ أداء بيانات عن الجسد وعن الثوب وعن الوسط الذي فيه الشّخص أمر مفيد باعتباره محدّدا أو مفسّرا أو مضيئا لحالته النّفسيّة. فوصف الطبائع يمكن أن يكون ذا فائدة... كأن يكون نقطة انطلاق على شاكلة تقديم الأشخاص في مجال الدراما. لكنّ هذا الأمر يبدو على قدر كبير من الهشاشة: فهل يقدر الرّوائيّ على اقتحام سيكولوجيا بطله؟ فنحن لا نرى من الكائنات إلا أعمالها، يمكننا أن نتوقع عنها أفكارا، لكنْ أن نحصي خصائص الطباع ونعتبرها مستقرّة قابلة للتّحديد فأمر مصطنع.
• ذو قيمة رمزيّة: يمثل الموضوع الموصوف بطريقة مجازيّة بعض حالات الشّخصيّة الرّوائية أو وضعا من أوضاع الفعل الرّوائي ويؤسّس صِلات بين الظاهر والباطن كما هو الشّأن لدى بلزاك أو زولا في روايته Le ventre de Paris حيث أن "بْرَارِكْ" باريس «Les Halles» التي لا يُباع فيها شيء غير مواد الغذاء هي صورة من المجتمع الباريسيّ برمّته. وفي هذه الحالة فإنّ الوصف هو رؤيا أكثر منه رؤية.
• يمثل الوصف حالة ديناميكيّة حيث لا يكتفي بتأسيس أحوال تدعم الدراما (مثال ذلك المائدة في رواية الشوانيون Les chouans لبلزاك وقد وضعت عليها لحوم طازجة يقطر منها الدّم في المطعم الذي اختاره الرّائد هولوHulot لاستراحة جنوده من الجمهوريين إشارة متقدّمة للهجوم الوشيك للشّوانيين حيث اخذوا الجمهوريين على حين غرة وقتلوا منهم عددا كبيرا (إضافة المترجم) بل هو جاعل القارئ يشعر بنوع من الحياة في الأشياء، في ذاتها (وصف مدينة لندن في روايات ديكنز). وفي أواخر القرن التاسع عشر لم يكن الوصف معتبَرا عنصرا دخيلا، بل كان النّخاع الشّوكي للرّواية، ولهذا نرى جيرار جينيت في (Figures I) يلاحظ أنّه، لدى فلوبير، إذا كانت بعض مقاطع الوصف تمثل إطارا تفسيريّا فإنّ أكثر الوصف عنده قد وُضع لذاته لغاية وقف الفعل الدراميّ أو استبعاده، فينازع بذلك الوظيفة السّرديّة التي كانت تُعتبر حتى ذلك الوقت أساسيّة. أمّا لدى بروست فليس الوصف مجرّد تقرير ولكنّه "إنتاج" للأشياء وللأمكنة وللرّغبات وللأحداث. وهكذا يصبح الفعل الرّوائيّ (أيْ الحدث الدرامي) نازلا نحو المرتبة الثانية.
هذه الظّاهرة تطوّرت بشكل أوضح مع الرّواية الجديدة التي سعى أصحابها إلى إدماج الوصف في الفعل الرّوائيّ، فقد سعى آلان روب قريي إلى إبداع السّرد انطلاقا من وصف يتنوّع اطّرادا مع تطوّر الحكي. وقد بيّن كلود سيمون (Nouvelle Critique, juin-juil. 1977, p. 32-44.(
أنّه جعل من الوصف المحرّك المولّد للفعل القصصيّ بطريقة أنّ الخيال يفقد وظيفته الاعتباطية بما أنّه يبيّن مصادره وآليات نشأته بشكل ذاتيّ.
Yorumlar