top of page
Search

هذا ليس أنا نص حرّ للمبدع التونسي نعيم بن رحومة

Writer: asmourajaat2016asmourajaat2016

هذا ليس أنا

يوما بعد يوم

تأتي الحكايات والصّور

من ثقب في الذاكرة

أراه أمامي

ينفتح وينتظر !

لـم تـكـن هنـالـك سمـاء لمـا نـمـتُ، لكن لمـا أفـقـتُ :

رأيتُ الشمسَ

فوقي معلّقةً

في السّماء

كي لا تراني

وأراها عالقة

في الهواء

كحلم البارحة،

بقيتُ بائسا

في مكاني.

أنـظر إلى الشمس وأنـا جالـس على سـريـري من خـلال النـافـذة التي بقيـت مفتوحة طوال الوقت. أظلمت عيناي فأغمضتهما حتى أتجلّى تفاصيل حلمي. بعد لحظـات أدركـتُ أنّ مـا رأيـتـه ليس حلما بل هو ما عشـتـه وهـو الآن مستقرّ في داخلي لا يمّحي. هو لا وعي أقوى وأنصعَ من كل الوعي البائس.

رأيتُ نفسي أسيـرُ، وكنـتُ مـعـه، وهـو ليـس أحد آخرغيـري أنا. كنـتُ أقـطع مسافات طويلة تتجاوز العشرين كيلومترا في اليـوم ولا أشعر بأيّ تعب بل أرى ما لم أكن أراه من قبـل. تعوّدتُ على الابـتـسـام للمجانـيـن والإستماع إليهم وهـم يغـنـّون أو يخطبون أو يلعـنـون. كنتُ أرى المتبوّليـن على الحيـطـان والسّكارى والمحبـطـيـن ومدمني الحشيش. وذلك الذي يقسم أنه ابن الأمين باي ولن يعترف بأيّ أب آخر غيره. وآخرهم رأيته يوم أمس. كان يـرفعُ لافـتـة بيـضاء لم يكـتـب عليها شيئا وكان يصرخ بلا صوت. كلّ شيء رأيته، إخـتـزنـتـه في ذاكـرتي ولم أروِهِ لأحد.

منذ سنوات بدأت أقول ما أفعل وأفعلُ ما أقولُ. لم أعـد أخفي شيئا ولا أخـاف شيئـا. كنتُ أعبّـر عن حبّي وكرهي بصدق وأعلنُ إيمـاني وكفـري بـلا وجـلٍ أو خجلٍ. استعدتُ شجاعتي وطردتُ خوفي وارتحتُ لـنـفـسي، وقنـعـتُ بـما أفعـلُ. شيئا فشيئا إنفضّ عني أصدقائي ومعارفي وصرتُ وحدي. لم تُزعجني وحدتي بل بالعكس كنتُ سعيدا بها. ومع مرور السنين حاولت مرّات العودة إلى مخالطة الأصدقاء ومجالسة الغُرباء وإيهام نفسي أني كنتُ ككلّ النـاس، كـائن إجتمـاعيّ يحتاج إلى الأُنس والثرثرة والموافقة والإدّعاء. وما دفعـني إلى ذلك هو الرّغبـة في التأكّد من سلامة سلوكي وتفكيري عن طريق التجربة. لكني إثر كلّ محاولة، أزداد اقتناعا أني أتيتُ إلى الدنيا لكي أكون وحيدا، وأن محاولاتي هذه ليست إلا تعذيبا للنّفس التي تأبى العدد. كنتُ وما زلتُ أعتقد أنه بإمكاني التخلّي عن النّاس جميعا، والقيام بكلّ المهام اللاّزمة بمفـردي. كنتُ أستطيعُ مثـلا مُجـالـسـة نفـسي ومحادثتها واستدعاؤها إلى حفل عشاء أو جولة مسائية أو مشاهدة فيلم أو سماع موسيقى. وكنتُ أستشير نفسي في كلّ عمل ٍ أُزمع القيام به. ولم أقم مثلا بكتـابةِ هذا النصّ إلاّ بعد مشاورات طويلـة مع نفـسي وتفكيـر عميق. فأفـكـاري أحيـانا تكون مختلفة عن أفكار نفسي، فنتجادلُ ونتّـفـق أخيـرا أو لا نتّـفـقَ أبدا وينـتـهي الموضوع. والحقيقة أنّي لستُ وحيدا بل واحدا. واحد في أعين النّـاس، بمـعـنى أني مفرد ولستُ عددًا، ومعزول لأنّي مُبتعد عن الإختلاط بهم لكنّي لستُ وحيـدًا البتّة. فأنا أعيـش مع نفـسي وهي غنـيّـة جدّا، ولا أحد يعلمُ إلى أيّ حدّ هي غنيّـة وإلاّ لاختطفوها منّي. نـفسي ملـيـئـةٌ بالأُدبـاء والـمـؤرخيـن وعـلـمـاء الإجتـمـاع والفلاسـفـة والموسـيـقـيـيـن، والـمـوسـيـقى والصّور الفـوتـوغـرافـيـة والأفـلام والمسرحيات والشّـعـر والشعـراء. لذلـك أجدني محظـوظا لأني أتعايش مع بشر على درجة عالية من الذكـاء والحساسيـة والشـعـور الإنسـاني. لُغـاتهم مخـتـلفـة وعصورهم أيضا ومع ذلك فهم جميعـا أصدقائي. فتحتُ عينيّ ووقفتُ وبدأتُ في ارتداء ملابس الخروج.

- لكن إلى أين سنذهب ؟

- لا أعرفُ ! سنسير ! نسير فقط ! والأحداث ستـحـدث بنفسهـا. سيحدثُ كلّ شيء. كُن على ثقة من ذلك !

- كيف؟ وأيّة أحداث ستحدث؟

- سنسير وسيأتي من يُحـرّك كلّ شيء. سيأتي من يقـف ضدّنـا. سنجد أنفسنـا في خضمّ الصّراع. المهمّ أن نسير ونتحرّك من مكان إلى آخر! أن لا نبقى داخل البيت. البيت ضيّق ولا يتّسع لنا ولا لتحرّكنا. اليوم هنا وغدا هناك، ولـكـلّ مكـان أثره علينا وأثرنا عليه.

- أنت تتحدّث عن البيت وعن خارج البيت، وعن الحركـة وما سيحدث، لكنّـك لا تتحدّث عن المشاكل! المشاكل تحدث دائما ولا تنتهي.

- المشاكل لا تمثّل مشكلا لأنها هي نفسها أحداث تقع لنا ولكلّ أحد. المشـاكل دليل لا يحتمل الشكّ على أننا أحياء !

كنت أسيرعلى الرصيف وأفـكّر. هل نفسي رقيـب عليّ أم أنا عـليـها رقـيـب ؟ تساؤل غريب وخطير. أنا متأكد أني لا أراقب نفسي بل أراقب ما يحدث في هذه الدنيا التي أراها وأعبرها، أما نفسي فلست متأكـدا إن كانت تراقبني أم لا ! وإذا كانت تراقبني فـلـصالـح من؟ هل هذا يمكن أن يحدث؟ أصابـني الشكّ وأتعبنـي. من يعرف عنّي ما أعرف؟ أنا لم أتكلم مع أحد باستثناء المجـانيـن. كنـت أرتـاح لهم كلّما رأيتهم في فضاءات الآثار الرّومانية. هي أمكنة مغلقة، لكنهـم يـدخـلـون إليها يوميّا لبضع ساعات للصّياح والخطابة والسبّ والغناء والتبوّل، كـمـا أدخـل أنا ونفسي كلّما مررنا من هناك. لمّا يتكلّم معي أحدهم أو أتكلّم أنا، كانـت نفـسـي تقول الكثير عمّا نفكّر فيه وكيف نحيا ونرى الدنيا. نفسي تتحدّث عني لأني أكون أحيانا متعبا ولا أريد إلاّ الإصغاء. نفسي هي التي تجيب.

الآن أفهم أن نفسي هي الرقيب عليّ ولست أنا عليها، وهي التي تنقل أفكاري ورغباتي إلى من هبّ ودبّ. اللّعنة! المجانين ليسـوا معصوميـن من الخـطـأ ولا ممنوعين من نقل أخباري إلى من لا أعـرف ولا أحبّ أن أعـرف. المراقـبـة قد تليها معاقبة وهو ما قد يفسد حياتي كلّها.

كنتُ أسير وظلّي أمامي. توقفتُ والتفتّ ناحية الشمس. كانت ضعيـفـة الضوء إلى درجة أني أستطيع التحديق فيها. نظرتُ إلى ظلّي من جديد وسألت نفـسي :

- من أين يأتي هذا الظلّ الواضح المعالم وهذا الكونتطراست البيّن بين الظلّ والضوء ؟

- منّي أنا ! نعم! أنا أساعدك لتحتفظ بالشّمس عالقة دوما في السّماء.

- ما هذا الكلام؟ لا أفهم كيف أرى شيئا لا يوجد!

-أنت ترى الكثير ممّا لا يوجد بفضلي، لأني أحتفظ لك في داخلك بما تحبّ- لكي تأتيك الصّور والحكايات. أنا أعرف أنك لا تستـطـيـع العيش بـدون حكايات مليئة بالحياة!

- لا! هذا ليس أنا!

ما تقوله نفسي

وما قد يقولون!

هذا وذاك وكلّ شيء

ليس منّي

لا يحدث حقّا

وليس أنا!

ما أنا إلاّ

ما لا تعلمون!

نعيم بن رحومة

حقوق التأليف محفوظة

 
 
 

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating

Join our mailing list

Never miss an update

© 2023 by Glorify. Proudly created with Wix.com

bottom of page