1
يَسْقِي الْبَوْحُ نَسَمَاتِ الْقَلْبِ
تَغْفُو قُبَلٌ دَافِئَةٌ بَيْنَ أَوْرَاقِ الذّكْرَى
وَتَطِيرُ فَرَاشَاتٌ صَوْبَ
يَنَابِيعِ الرُّوحِ
هُوَ الْخَرِيفُ صَدِيقُ طُفُولَتِيَ الْأُولَى يَمْنَحُنِي
آيَاتٍ لاَ تُحْصَ
يُدَلِّلُنِي
حَدَائِقُهُ الْفَاتِنَةُ تَتَضَوَّعُ عِطْرًا كُلَّ صَبَاحٍ
تَتَشَمَّمُ أَنْفَاسِي ...
هَذِي الْأَقْمَارُ تَمْضِي صَوْبَ مَطَالِعِهَا
تُغْوِيهَا الْأَغْسَاقُ النَّاعِمَةُ
تَغْرَقُ فِي دَهَالِيزِ الْأَحْلَامِ
لَا تَطْلُبُ شَيْئًا
دُنْيَايَ تَغْرَقُ فِي أَضْوَاءَ خَرِيفِيَّةٍ
تَتَبَادَلُ أَشْعَارًا عِنْدَ بُزُوغِ الصَّحْوِ
لَا تُرْبِكُهَا رُؤْيَايَ حِينَ يَكْوِيهَا الْبَوْحُ
هَذَا بَحْرٌ مِنْ أَقْوَاسٍ عَائِمَةٍ سُرْعَانَ مَا يُغْوِيهِ الْغَوْصُ عَمِيقًا
يَغْرَقُ بَيْنَ مِجْدَافَيْنِ
مُمْتَلِئَيْنِ وَيَنَامُ هُنَاكَ طَوِيلًا
وَالْبَحْرُ الْآخَرُ لاَ يَرْغَبُ فِي تَجْمِيعِ الْأَلْوَانِ
وَيَفِرُّ مِنْ حَرْفٍ صُوفِيٍّ لَا تُدْرِكُهُ الْعَيْنَانِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ
الْبَحْرَانِ مُلْتَحِمَانِ
تِمْثَالَانِ رَمْلِيَّانِ مُنْتَشِيَانِ
2
خَرِيفٌ مِنْ نَسْجِ الذّاكِرَةِ يَطْرُقُ أَبْوَابِي
هَذَا رَذَاذٌ بَحْرِيٌّ
لاَ مِلْحَ فِيهِ
يَغْتَسِلُ عَلَى قَارِعَةِ الْمأءِ
يَشْكُو مِنْ عَطَشٍ لَا قَاعَ لَهُ
وَرَذّاذٌ ثَانٍ بِلَّوْرِيٌّ
يَغْرِفُ مِنْ عَيْنٍ دَافِئَةٍ
يَشْرَبُ مِلْءَ رِئَتِيْهِ ثُمَّ يَنْغَمِسُ فِي الْهَذَيَانِ
3
أُكْتُوبَرُ
جِسْرٌ مِنْ مِلْحَمَةٍ حُبْلَى
خِلْجَانٌ تَطْلُبُ غَيْثًا
غَثَيَانٌ مَا بَيْنَ نَافِذَتَيْنِ
أَحْذِيَةٌ تَرْكُضُ خَلْفَ أقْدَامٍ تَرْكُضُ
خَلْفَ صُوَرٍ تَرْكُضُ
لاَ تَدْرِي إلَى أَيْنَ
مَاءٌ لاَ لَوْنَ لَهُ وَ لاَ أَنْفَ وَلاَ شَفَتَيْنِ
يَجْرِفُ أَوْدِيَةً
وَيَصُبُّ فِي قِيعَانَ لاَ قِيعَانَ لَهَا
وَ خَرِيفٌ مُبْتَهِجٌ يَتَهَجَّى حَرْفَيْنِ مُذْ ظَهَرَ الْحَرْفُ الْأَوَّلُ مِنْ أُكْتُوبَرْ
4
يَنَابِيعُ الْبَوْحِ تَسْبَحُ فِي كَوْنٍ مِنْ كَلِمٍ لاَ يَنْضُبْ
ثَمَّةَ مُفْرَدَةٌ تَرْصُدُنِي
وَتَطِيرُ مِثْلَ خَرِيفٍ نَحْوِيٍّ وِجْهَتُهَا أَرْضٌ صَحْوٌ
الْمُفْرَدَةُ لاَ تَفْقَهُ
نَحْوَ الشِّعْرِ
تَنْشُدُ حَفْلَ خَرِيفٍ وَ مَوَاوِيلَ تَنْهَضُ مَا بَيْنَ النَّخْلاَتِ
" هَاتِ الْبَلَحَ هَاتِ، وَلاَ تَنْسَ الرَّاحَ هَاتِ ... "
قَالَتْ تِلْكَ الْمُفْرَدَةُ: " لُغَتِي مَقَامُ خَرِيفِي ... "
5
تَمْرٌ يَتَكَوَّرُ مِثْلَ وَمْضّاتٍ تَتمَرأَى عِنْدَ رُؤُوسِ النَّخْلِ
شِعْرٌ سُورْيَاليٌّ يَتَدَفَّقُ بَيْنَ سَعَفِ تَتَقَاذَفُهُ الْأَمْوَاجُ
وَرِيَاحٌ تَتَجَاذَبُهَا الصَّحْرَاءُ
وَاحَاتٌ تَتَحَدَّى
أَشْعَارٌ تَغْرَقُ فِي الْفَوْضَى
رَايَاتٌ تَعْلُو خَافِقَةً
وَ نَوَامِيسُ
وَالنَصُّ التَجْرِيدِيُّ يَخْتَطِفُ الْأَبْصَارَ
لَمْ يُفْهَمْ شَيْءٌ
... ... ...
6
مَطَرٌ يّسْقِي أَوْرَاقِي
... ... ...
هِيَ الْأَحْرُفُ
عَارِيَةٌ
تَتَجَلَّى
أَوْرَاقٌ تَشْطَحُ وَسَطَ الْمَاءِ
تَحْمِي أَحْرُفَهَا مِنْ اَقْلاَمٍ تَتسَكَّعُ
عِنْدَ سِيقَانِ النَّخْلِ
لَا تَخْشَى هُطُولَ التَّمْرِ غَزِيرًا
هَذِي تَمْرَتِيَ الْفُضْلَى تَتَشَمَّمُنِي
ثُمَّ تَحْضُنُنِي
وَتَغِيبُ ...
7
هَا أَنِّيَ أَشْرَبُ مِنْ رَاحِ التَّمْرِ
تَأْخُذُنِي قَدَمَايَ بَعِيدًا فِي مَلَكُوتِ النَّشْوَةِ وَ الْتَّجْدِيفِ
بَحْرٌ يَتَرَنَّحُ بَيْنَ الْأَمْوَاجِ لاَ يَلْوِي عَلَى خَبَرٍ
وَالرَّاحُ يَمْتَلِئُ
بَلَحًا
مَا ذَا دّهَانِي تُرَاقِصُنِي نَخْلاَتٌ؟
وَ أَهِيمٌ فِي صَحْرَاءِ التِّيهِ
صَلَوَاتِيَ تَتْلُونِي
تَتَوَعَّدُنِي
فَأَعُودُ ثَانِيَةً مِنْ حَيْثُ أَتَيْتُ
لَا أُدْرِكُ آفَاقَ الْبُرْهَةِ، تَجْذِبُنِي رَغَبَاتِي صَوْبَ مَفَاتِنِهَا
فَأَتِيهُ وَ أَتِيهُ
ثُمَّ أُفِيقُ فَإِذَا النَّخْلَةُ تَأْخُذُنِي
تَسْقِينِي مِنْ شَهْدِ التَّمْرِ تَحْضُنُنِي مِثْلَ وَلِيدٍ
تَسْقِينِي ...
هَا أَنْتَ تَتَقَوَّى
لاَ تَخْجَلْ مِنْ صُوَرٍ أَنْتَ تَرْسُمُهَا
لاَ تَخْجَلْ مِنْ قُبَلٍ
أَنْتَ تَسْقِيهَا
تَقُولُ النَّخْلَةُ ... تَكْسُونِي سَعَفًا
ثُمَّ تَغِيبُ
8
فِي قَاعِ الصَّحْوِ تَوضَّأْتُ
وَتَلَوْتُ أَنَاشِيدِي
شَمْسٌ لَا أَعْرِفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ
تَرْصُدُنِي
طَافَتْ بِقَصِيدِيَ مَرّاتٍ عِدَّة
غَمَزَتْنِي ثُمَّ رَاحَتْ تَبْتَعِدُ
... ... ...
شَمْسٌ أُخْرَى تَظْهَرُ مِنْ بَيْنِ الْأَنْفَاقِ
تَرْصُدُنِي
رَاحَتْ تَتْلُو قَصَائِدَ لِي لَا أَحْفَظُهَا
تُلْقِيهَا بَحَمَاسٍ فَيَّاضٍ
تَتَرَنَّحُ حِينَ تُغْوِيهَا الْكَلِمَاتُ
تَتَوجَّعُ ثُمَّ تَتَوَجَّعُ وَ تَذُوبُ
لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطُّ
9
قَبْلَ مَغِيبِ الْأَضْوَاءِ
وَ وُلُوجِ الرِّيحِ صَوْبَ مَخَابِئِهَا
حَلَّ الرَّكْبُ
أَهَازِيجُ تَعْلُو ثُمَّ تَنْخَفِضُ
نَخْلاَتٌ تَتَبَرَّجُ مِثْلَ صَلاَةٍ تَسْتَسْقِي شَهْدًا
أَقْمَارٌ تَتَبَادَلُ صُوَرًا تَتَجَلَّى
أَوْدِيَةٌ مَلْأَى
وَطُبُولٌ تَعْزِفٌ لَحْنًا صُوفِيًّا
تَرْفَعُ رَايَاتٍ لاَ ألْوَانَ لَهَا
وَ نَوَاقِيسُ
... ... ...
فِي تِلْكَ الْبُرْهَةِ بَيْنَ الْغَفْوَةِ وَ الْأُخْرَى
انْطِلَقَتْ صَرَخَاتِي
أَيْنَ أَوْرَاقِي؟
أَيْنَ الْبَلَحُ الْأَحْمَرُ فَوْقَ مَائِدَتِي؟
أَيْنَ أَلْوَاحِي؟
ثُمَّ أَيْنَ ذَاكَ الْمُلْتَحِفُ بِالسَّعَفِ الْبَنِّيِّ
أَيْنَ خَرِيفُ أَيَّامِي تِلْكَ؟
ذَاكَ خَرِيفٌ قَرَوِيٌّ لاَ يُنْسَى
كَانَ يَصْحَبُنِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ اُكْتُوبَرْ
... ... ...
وَكَانَ يُلَبِّي رَغَبَاتِي
مِثْلَ أَبِي
10
هَلْ كَانَ يَرْكَبُ بَحْرَ وَاحَتِنَا لاَ يَخْشَى أَمْوَاجَ الْيَمِّ
وَ يَغُوصُ عَمِيقًا بَيْنَ اللُّجَّةِ وأللّجَّةِ
مِثْلَ أَبِي؟
هَلْ كَانَ يَحْفَظُ أَشْعَارًا وَ رِوَايَاتٍ ثُمَّ يَرْوِيهَا
مِثْلَ أَبِي؟
هَلْ كَانَ يَكْدَحُ لَيْلَ نَهَارَ حَتَّى يَمْنَحَنأ
أَيَّامًا دُونَ شَقَاءٍ مِثْلَ أَبِي؟
لاَ أَدْرِي
كَانَ أَبِي خَرِيفِيًّا يَعْشَقُ أُكْتُوبَرَ
أَوْرَثَنِي ذَاكَ الْعِشْقَ وَنَدَاهُ
وَ لَمْ أَدْرِ هَلْ مِنْ فَرْطِ ذَاكَ الْحُبِّ
اخْتَارَ أَبِي أَنْ يَرْحَلَ صُحْبَتَهُ
وَلَمْ يَظْهَرْ ثَانِيَةً
بَيْنَ نَخْلاَتِ الْوَاحَةِ وَ الْبَحْرِ
هَلْ أَوْصَاهُ بِنَا حَقًّا؟
وَهَلْ صَارَ خَرِيفُ الْعَوْدَةِ ذَاكَ
ذَاكِرَةَ الْأَيَّامِ
وَذِكْرَى مَلْحَمَةِ أَبِي؟
... ... ...
بوراوي بعرون
عضو اتّحاد الكتّاب التّونسيّين
شاعر وقاصّ وناقد
Comments