top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

ميزابُ الرّحمةِ... فاطمة سعدالله / تونس



أعشقُ المطر بلا حدود..كلّما تلبّدت السماء..واتشحت بالسّحبِ المتراكمة والراكضة في كل مداراتها..داعبت خياشيمي رائحةُ الماء تعانق العشبَ والترابَ وصفّقت بين جوانحي أصواتٌ قادمةٌ من البعيد ..البعيد..عندما يهطلُ المطرُ تستيقظ الطفلةُ المشاكسةُ ..تلك الفراشة الممدّدة في أوردتي..تفردُ جناحيْها..تركض مع كلّ قطرة دمٍ تنسابُ بحرارةٍ في شراييني..توشْوشُني تحثّني.."تحرّري..أطلقي جناحيْكِ..دوري..ارقصي مع خيوط اللجيْن الواصلة/الفاصلة بيْن الأرض والسماء..شيء ما يشدّني إلى الخلْفِ..يوقفُ الطفلةَ الجامحةَ..فأكتفي بالمتابعة خلف النافذة..وكثيرا ما تتسلّلُ راحتي لتلتقط حبّاتِ الماء التي تغريني وتناديني..أشتمّها.. أغسل منها وجهي..أبلّلُ طرفَ لساني أروي شغفَ تلك الطفلةِ لنقاء الثلج والبَرَدِ يحطّ عن كاهلها ثقل السنين.وينقّيها مما علق بها من وجعٍ وكدَرٍ.. ـــــــــ وذاتَ طوافٍ..وأنا أرفع عينيّ وكفّي بالدعاء اكتشفْتُ " ميزابَ الرّحمةِ"..ذاك الذي يقعُ في الجانب الشمالي من الكعبةِ الشريفةِ..ميزابٌ قديمٌ متجدّدُ..هيكله من خشب "التيك" وكساؤه من الذهب الخالص..تعلّقت به عيْنايَ..ولهجَ بالدعاء لساني.."يا أرحم الرّاحمين لا تحرمْنا من رحمتك..رباه قطرة واحدة من ميزاب الرحمة تكفيني بقيّةَ العمر".. وفي كلّ طوْفةٍ كنتُ أكرّرُالدعاء وألحّ في طلب الرحمة والغفران لي ولوالديّ ولكلّ المسلمين.. كنتُ أتمنّى أن تهطلَ الأمطارُ أثناء الطوافِ فتنساب الرحمةُ من ذاك الميزابِ وأمدّ كفّيّ ..أعبّ منها حدّ الارتواءِ ..ولكنّ الزيارةَ شارفتِ على الانتهاء ومغادرتي لمكّة المكرّمة لا تفصلني عنها إلّا بعض ساعاتٍ..وبدأت رياحُ الفراقِ تهبّ من كل الجهاتِ..وبدأ الاحساسُ بالإحباط يراودُني...المطر لم ينزل...والرحمة لم تسقني...هممتُ بلملمةِ أشيائي وإذا بصوتٍ خفيّ يتحرّك في داخلي ..صوْت ينبضُ ناعماً..تماماً كصوْتِ أمي عندما تشدّ أوَدي..وتنفخ في رمادي نارًا ونورًا يجدّدان عزمي..صوتٍ حثني على العودة الى الحرم المكّي..قال لي: ؛ عودي الى هناك..ودّعي الكعبةَ بطوافٍ أخير..ودون تردّد تهيّأتُ..ولا أدري كيف طويتُ المسافة الفاصلةَ بين النزل والحرم.. عدتُ إلى الكعبة الشريفة..طفتُ..وطفتُ..والطمعُ في الرحمة يدفعني..وفي كلّ شوْطٍ تورقُ على شفتيّ هذه العبارات يا أرحم الراحمين..قطرات قليلة ترويني وتكفيني بقيّة عمري..ربّ جدْ بها يا أرحم الراحمين.. وانتهت الأشواطُ السبعةُ..وصليْتُ الصبحَ وسنّته..وغادرتُ الحرم صحبة رفيقتي في الغرفة.. كانت خطواتي تتجه نحو الأمام ثقيلةً..وعيْنايَ تفرّاني منّي إلى الخلّفِ..فجأة انفتح جوْفُ السماءِ شلالاتٍ فضيةَ الهديرِ..السّماءُ تمطرُ رحمةً..صحنُ الحرم الخارجي يتحوّلُ بركة مفتوحةَ الجنباتِ..لجيْنيّةَ الانسيابِ ..ولا تسألوا عن تلك الطفلة المشاكسة..لاشيء كان قادرا على إيقاف جنونها..كانت تمدّ كفيها..تلتقط حبات الماء تتشرّبها لجينيّة عذبةً..قطرات الماء الزلال تغسل الألم وتسقي بذور الأمل...كانت تلك الطفلة التي لا تفارقني ترغبُ لو تركض تحت المطر..لو تدور ..تدور ..لولا ذاك الوميض الذي وَخَطَ المفرقين لما تردّدتْ.. ـــــــ منذ عشراتِ السنين لم أجدْ نفسي في هذا الموقف ولا عشْتُ هذا الشعورَ..التقطتُ قطراتِ الرحمة وسارعْتُ بها إلى وجهي أعطّره..إلى شفتيّ أبللّهما..إلى كلّ مسامّي أرويها وفي وقتِ قصير صارت القطراتُ أنهاراً تتدفّقُ..ولو طالت مدّةُ الهطول لتحوّل الوضعُ إلى فيضاناتٍ..كنتُ أحرّك قدميّ بحذرٍ ووجلٍ فرخام الصحن الخارجي زجاجيّ الملمس..والمياه تهدرُ بقوّة والسقوط ممكنٌ جدّا.. لم يملأ الميزابُ كفّيّ بما تمنّبته من قطرات المطر ولكنّ الله جعل الرّحمةَ أعمّ..استجاب لدعائي..وسقانا جميعا من فيْضهِ وخيْره..وأحيا كلّ ذرّةِ أملٍ اعتراها الذبول..حمدًا لك يا ربّ رحمتك أوسع مما نتصوّر..تجيبُ دعوة الداعي إذا دعاك وتعطي السائلَ أكثرَ ممّا طلب..


إن أول ميزاب عمل للكعبة كان الميزاب الذي عملته قريش عند بنائها لها قبل البعثة النبوية.[8] ثم ميزاب عبد الله بن الزبير عند بنائه للكعبة عام 65هـ / 684م.[9] ثم ميزاب الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أعاد بناء الكعبة عام 73هـ / 692م.[10] ثم ميزاب الشيخ أبو القاسم رامشت، الذي وصل به خادمه بعد موته عام 537هـ / 1142م.[11] وميزاب الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله في عام 541هـ/1146م.[12] وميزاب الناصر لدين الله العباسي عام 622هـ / 1279م.[13] وميزاب السلطان العثماني سليمان القانوني عام 959هـ / 1551م.[14] والميزاب الذي ورد من مصر عام 962هـ / 1554م.[15] ثم ميزاب السلطان العثماني أحمد الأول بن محمد الثالث عام 1021هـ /1612م.[16] فميزاب السلطان عبد المجيد الأول بن محمود الثاني عام 1273هـ / 1856م. والذي تم ارساله بصحبة الحاج رضا باشا عام 1276هـ / 1859م.[17] ميزاب عهد الملك فهد بن عبدالعزيز عندما استبدل بالميزاب القديم لسطح الكعبة المشرفة آخر جديد أقوى وأمتن وبنفس مواصفات الميزاب القديم.[18]

فاطمة سعدالله / تونس .

15 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page