لا، أنا لستُ بايرون،
أنا مختارٌ آخر غير معروف،
غريب مثله، يلاحقه العالم،
ولكن بروح روسية.
يُعَدُّ ليرمنتوف واحداً من أرفع ممثلي القيم الروحية – الجمالية للثقافـة الروسية.
ولد ميخائيـل يورييفيتـش ليرمَنْتوف عام 1814 في موسكو في عائلة ضابط متقاعد. بعد وفاة والدته باكراً (في عام 1817) قامت بتربيته جدته لأمه الغنية بعيداً عن والده.
تأثّر في ريعان شبابه بالشاعر الإنكليزي العظيم بايرون، وهذا ما ظهر بشكل جليّ في قصائده الشعرية البايرونية بامتياز ("الشركـس"، "الأسـير القوقازي"، "المجـرم"، "الشقيقان"). جرّب على مدى عامي 1830 - 1831 مختلف الأجناس الشعرية من رثاء ورومانس وأيضاً الأناشيد والأشعار الغنائية، وقصائد المديح... إلخ. وراح يتأمل عالمه الداخلي محاولاً أن يعبِّر بالكلمة عن مكنوناته الروحية الدفينة. كما أنه لامس المسائل العامة للدنيا والحياة الجمالية للشخصية.
بيد أنّ خبر مقتل بوشكين هزّ كيانه، فكتب في اليوم التالي قصيدته "في مقتل شاعر"، وبعد أسبوع كتب الأسطر الستة عشر الأخيرة من تلك القصيدة، التي جعلته مشهوراً على الفور، والتي راح الجميع يرددونها عن ظهر قلب.. إثر ذلك وبتهمة "نشر وكتابة أشعار ممنوعة" جرى اعتقال ليرمنتوف في 3 آذار/ مارس 1837. وفي أثناء ذلك الاعتقال قام بكتابة مجموعة من القصائد: "السجين"، "الجار"، "صلاة"، "أُمنية". ثمَّ تم نفيه بأمر من القيصر إلى القوقاز. وفي طريق عودته إلى القوقاز، تقدم ليرمنتوف بطلب السماح لـه بالتوقف في
مدينة بياتيغورسك من أجل العلاج. وقد كتب هناك في دفتر يومياته آخر قصائده: "الجدل"، "الجلمود"، "الورقة"، "الحلم"، "اللقاء"، "النبي"، "وحيداً أخرج إلى الدرب"، وغيرها. ويشاء القدر أن يلتقي هناك بأصدقائه القدامى، ومن ضمنهم زميله في الكلية العسكرية ن. مارتينوف. وفي إحدى الأمسيات وبعد مزحة مهينة رماها ليرمنتوف له، دعاه مارتينوف إلى المبارزة. وجرت المبارزة في 15 حزيران/ يونيو 1841. وكتب بيلينسكي "أصابت الأدب الروسي المسكين فاجعة جديدة ـ لقد قتل الشاعر".
تمتاز أشعار ليرمنتوف بابتعادها عن الحياة الدنيوية وبالترفع والشموخ، مع النزوع نحو الخلود، نحو الله. وفي سعيه إلى الخلود كانت تنتاب ليرمنتوف مشاعر الاستكانة وهارمونيا روحية. كان عندئذ يدرك الله في السموات، ويبدع قصائد رقيقة للغاية من حيث نبرتها الدينية العميقة، وطفولية من حيث اندفاعها العفوي.. قصائد مثل: "في لحظات الحياة الصعبة"، "عندما يضطرب الحقل الأصفر"، "أنا، يا أم الرب" وغيرها. كان يرى أنَّ الحياة اليومية مبتذلة ولا معنى لها من دون دفقات روحية قوية باتجاه الخلود، نحو الكمال الرباني. وحتى الحب الأرضي غير قادر على ملء ذلك الفراغ.
أشعر بالسأم وبالحزن، وليس مَنْ
أَمدُّ له يدي في لحظةِ نكبةٍ روحية...
والأمنيات!.. ما فائدة التمني عبثاً وبشكل دائم؟..
والسنون تمضي ـ الأفضل من بين السنين...
أن أهوى... ولكن مَن؟.. لبعض الوقت –
لا يستحق الأمر،
وأن أهوى إلى الأبد لمستحيل...
كانت روح ليرمنتوف المتمردة في اشتعال دائم، طافحة بالطموح الساحر، مثقلة بالحزن.. وكان يحمل في طيات نفسه إدراك ما هو أبدي، ما هو محاط بصقيع الفضاءات السماوية، خارج الزمن وخارج الكون..
تجدر الإشارة إلى أن ليرمنتوف كشف عن موهبة كبيرة في الفن التشكيلي. وأكبر دليل على ذلك تلك اللوحات التي كان قد زيِّن بها مؤلفاته وأشعاره.
كتب ليرْمَنتوف قصيدة بعنوان "غصن فلسطين" بعد أن رأى سعفة نخيل ذكّرته بفلسطين، هنا ترجمتها:
غصن فلسطين
قلْ لي، يا غصن فلسطين،
أين نموتَ، أين أزهرت؟
أيَّ تلال وأية وديان كنت تُزيِّن؟
وهل داعبك شعاع الشرق عند مياه الأردن الطاهرة،
أم هزّتك رياح ليلية بحنق في جبال لبنان؟
وهل كان أبناء أورشليم الفقراء يتلون صلاتهم بخشوع،
أم كانوا ينشدون أغانيهم التراثية وهم يضفرون أوراقك؟
هل ما زالت تلك النخلة حيّةً حتى الآن؟
وهل ما زالت تجذب برأسها ذي الأوراق العريضة
عابرَ الصحراء في أوقات الصيف القائظ؟
أم أنها ذبلت، كما هي حالك، من جراء الفراق الشجي،
وليغطي غبارُ الوادي بلهفة تلك الأوراق المصفرّة؟..
الشاعر والقوقاز
خاطب ليرمنتُوف جبال القوقاز بكلمات دافئة ورقيقة، كما لو أنه كان يخاطب إنساناً عزيزاً على قلبه. إنها من أروع التحف النثرية:
"أحييكِ، يا جبال القوقاز الزرقاء! لقد احتضنتِ طفولتي؛ وحملتِني على قممك المستوحشة؛ ألبَسْتِني رداءً من الغيوم؛ أنتِ التي جعلتني أعتاد النظر إلى السماء باستمرار. منذ ذلك الحين وأنا أحلم بكِ وبالسماء فقط!
يا عروش الطبيعة التي تتطاير عنها سحب بلون الدخان؛ يا من إذا حدث وصلّى إنسانٌ للخالق
العظيم على ذراك الشاهقة، لا بد أنه سيحتقر الحياة الدنيا، وذلك على الرغم من أنه كان يفتخر بها في تلك اللحظة!..
كثيراً ما كنت أتطلع إلى الثلوج وإلى الجلاميد الثلجية البعيدة عند بزوغ الفجر؛ كانت تتلألأ في أشعة الشمس المشرقة وقد اتشحت ببريق ورديّ اللون، فكانت تعلن للعابرين عن قدوم الصباح في حين أنَّ كلّ شيء في الأسفل كان يغرق في الظلام.
كان لونها القرمزي أقرب إلى لون الخجل: كما يحدث للبنات إذا ما رأينَ فجأة رجلاً وهن يسبحن في مياه النهر، فلا يسعفهن الوقت لكي يرمينَ الثوب الأبيض على صدورهن بسبب الارتباك.
كم أحببتُ عواصفك، يا قوقاز! تلك العواصف الثلجية المدوية التي كانت تردِّد صداها الكهوف مثل حرّاس ليليين!.. حيث تنتصب شجرة وحيدة على تلٍّ أقرع، وقد انحنت نحو الأسفل بفعل الريح والأمطار، أو دالية تصرخ في أحد الثغور، ودرب مجهولة فوق هاوية حيث يجري مسرعاً في الأسفل نهر بلا اسم؛ وثمة دويُّ رصاصة غير متوقع، وخوف بعد إطلاق الرصاصة: هل هذا عدوٌّ خطير أم صيّاد بكلِّ بساطة... يا لروعة كلِّ شيء، كلِّ شيء في تلك الأنحاء".
ضفة ثالثة 28 يوليو 2019
Comments