كان مشروعي أن أواجه هذا النصّ (القرآن) بالفلسفة، بطريقة صريحة ومختصرة ودون تلاعب، مثلما واجه لوفيناس (Emmanuel Levinas) (1906-1995) التّوراة بالفلسفة، ومثلما واجه دو شاردان (Teilhard de Chardin) (1881-1955) المسيحيّة بالفلسفة، وغيره كثيرون الذين واجهوا المسيحيّة بالفلسفة مثل الوجودي المتديّن كارل ياسبرس (Karl Jaspers) (1883-1969). وكان لا بد قبل أن أبدأ في هذا المشروع أن أقدّم له أوراق اعتماد، فلا يمكن لي أن أتناول هذا النصّ الكبير، النصّ العظيم، النصّ المؤسّس، دون أن ألمّ بما أحاط به من نصوص حواف، لذلك واجهت أوّل ما واجهت نصّ ''تفسير الأحلام لابن سيرين'' وهذا ما أعانني على أن أجازف بالتّفسير في تصديق الرّؤيا عند إبراهيم وعبور الرّؤيا أو تعبير الرّؤيا عند يوسف مثلا، وكنت أوّل من صرّح أن إبراهيم في الصّافات كان يلام من اللّه، عزّ وجلّ، على أنّه كان صدّق الرّؤيا، فالرّؤيا لا تصدّق، وإنّما تعبر كما عند يوسف، ولذلك كان يوسف يشكر المولى على أنّه علّمه تأويل الأحاديث إلخ... ويوسف، بمثابة ريكور (Paul Ricœur) (1913-2005) وفرويد (Sigmund Freud) (1856-1939)، يعبر الرّؤيا كما تعبر بين ضفّتي نهر، بينما إبراهيم كان بدائيا، وقد لامه الله وفداه بذبح عظيم، يعني أنه صدّق الرّؤيا في حين لم يكن عليه تصديقها. لقد تبيّنت هذا من معاشرتي لنصّ لم أقم بترجمته حرفيّا أو معجميّا أو ترجمته مجرّد ترجمة فقط، وإنّما تفاعلت مع هذه القضيّة الكبيرة الّتي يمثّلها كتاب ابن سيرين الذي كان نواة تاريخيّة.
د. نادر الحمامي: تقصد بذلك الحواشي التي كتبتها على ترجمتك لابن سيرين؟
د. يوسف الصدّيق: وفي مسألة الكتاب في اللّغة والحضارة العربيّة، التي ينفرد بها القرآن، نجد الكتاب الأوّل الذي تصدّى لكلمة ''كتاب'' هو كتاب سيبويه، و"الكتاب" اسمه كذلك إذن فله مؤلّف، وكذلك كتاب ألف ليلة وليلة الذي نطلق عليه اسم ''كتاب'' دون أن يكون له مؤلّف معروف، لأنّ المؤلّف الوحيد هو اللّه في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، وانطلاقا من ذلك ترجمت لابن مالك المؤسّس لتقاليد في ممارسة النصّ الديني. وعندما ترجمت رسائل ابن سينا التي لم أعثر على أصلها اليوناني، وإنما كان يوجد النص العربي فقط، كنت أريد أن أظهر للقارئ الفرنسي الذي أتوجّه إليه أنّنا ذوو منطوق آخر للفكر، منطوق متميّز، وليس المنطوق الّذي يتلقّاه الأوروبيّ عنّا بأنّنا أهل نقل وبأنّنا أهل تراكم للمعرفة فقط، كما تتراكم الكتب فوق بعضها في رفّ معيّن أو في صندوق معيّن. وقد وجدت استجابة كبيرة لهذا، لأنّني أعتقد من خلال المراسلات ومن خلال المقالات التي كُتبت عن ترجماتي ومن خلال الدّعوات في وسائل الإعلام، أعتقد أنّي نفذت إلى ما كان يمكّنني من أن أقول: ''لم نقرأ القرآن بعد'' للفرنسيّين.
من حوار مع المفكر يوسف الصديق 2
(مؤسسة مؤمنون بلا حدود)
د. نادر الحمامي: قبل "لم نقرأ القرآن بعد" هناك مرحلة سابقة، أو هي بمثابة "البرزخ" بين ترجمتك لجزء من "الموطّأ"، ولابن سيرين، ولأقوال النبيّ، ولأقوال علي إلخ... قبل كتاب "لم نقرأ القرآن بعد" هنالك القرآن ترجمة أخرى، قراءة أخرى، وربّما ما مهّدت به من ترجمة تلك المتون أوصلك إلى هذه التّرجمة الأخرى والقراءات الأخرى. أليس كذلك؟
د. يوسف الصدّيق: هذا الكتاب الأوّل ''قراءة أخرى ترجمة أخرى'' كان بمثابة المقدّمة، بكلّ تواضع طبعا، لابن خلدون، لأنّني كنت أجهّز القارئ لأن يتلقّى شيئين خطيرين، وأعتقد أنّ المنظومة الذّهنيّة العربيّة الإسلاميّة لم تستوعبهما إلى حدّ الآن؛ الأولى أن النصّ القرآني ليس المصحف، أردت أن آخذ آيات وأن أفكّكها على سبعة، أن أفكّكها على هرم قمّته اللّه وجانباه المعرفة والأخلاق إلخ... وأن أضمّن في كلّ مرحلة بنائيّة أو بنيويّة الآيات الّتي نتحدّث عنها، ولكن الأهمّ من هذا هو الحواشي في هذا الكتاب، يعني مثلا من هو ذو القرنين؟ كيف يمكن إلى حدّ الآن أن نقرأ لمفسّرين في القرن العشرين يقولون إن هذا الرّجل جاء قبل الطّوفان، وليس بتلميذ أرسطو، وأن تلميذ أرسطو وثني، فكيف يمجّده اللّه؟ وكيف يقول اللّه مخاطبا له ''قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا''؟ كيف يمكن أن يقال هذا لنبيّ أو لرسول؟ كيف يمكن أن يقال لتلميذ أرسطو، وهو إمبراطور ولا يمتّ للرّسالة ولا يمتّ للوحي بصلة؟ لكنني أظهرت في الحواشي وفي "نحن لم نقرأ القرآن بعد" بأنّه هو بعينه في كلّ مراحله، وقد سمّي من خلال الآثار اليونانيّة التي رجعت إليها ''قرنَا الكبش'' سمّاه الإله آمون، إلخ... وقد أظهرت أنّه هناك أنثروبولوجيا للرّهبنة في زمن أمون إلخ... عندما يقول يسمع الرّاهب الرّياح في المعبد بطريقة معيّنة يترجمها للزّائر، سواء كان زائرا عاديّا أو إمبراطورا أو مرشّحا للإمبراطوريّة كالإسكندر ذي القرنين، وممّا قال له؛ لقد قبلك ابنه على أن تكون "قرني الكبش"، ومن الواضح أن انتهاء الأمر في تفسير شخصيّة ذي القرنين أنّه هو الإسكندر. لكن لماذا اصطفاه اللّه، في الحكم على الأقل؟ لأن هناك أفلاطونيّة عميقة في القرآن أظهرتها ولو باحتشام فقد سحبت من الكتاب أشياء "فجعتني أنا"، أي أنني صُدمت، وخفت على القارئ لو وضعتها أن يُصدم. "فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ'' نجدها حرفيّا في الكتاب العاشر لأفلاطون من الجمهوريّة، حتّى كلمة صُوَر التي أعطت كلمة (corps) بالفرنسية، "وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ" هي نفسها في نص أفلاطون... إذن هناك أفلاطونيّة عميقة جدّا في القرآن، وهذا لا يمنعه من أن يكون وحيا. يعني أنني لمّا أقول أنّك مثلا كتبت كتابا وفتحت ظفرين ثمّ جئت بقول من هايدجر أو غيره فلا يعني ذلك أنّك سرقت أو أنّ كتابك مسروق.
ولقد أجبت عبد الفتّاح مورو الشّخصيّة الثّانية في النّهضة هكذا لمّا سألني، وفسّرت له أنّ هناك "وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ" في إنجيل حنّا حرفيّا، وكذلك "حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ" توجد حرفيّا في إنجيل متّى، عندما كان المسيح يتصارع مع تجّار المعبد قال لهم لن تدخلوا ملكوت اللّه "حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط". إذن فالنصّ ليس في إعجازه الحرفيّ، فدعنا نتخلّص من الإعجاز الحرفي، وإنما إعجازه في استيعاب شخص واحد اسمه محمّد لمعلومات العالم، هذا هو الإعجاز وهذه هي رفعة الإسلام. فالكلمات غير مهمّة، أي ليست أهم من أنّه استوعب حمّورابي (1792-1750 ق. م) وفيثاغورس (570-495 ق.م) وكل الكتب الّتي نعلمها أو التي لا نعلمها. ما تعلمون وما لا تعلمون موجود "في القرآن" وكذلك الذرّة والمعارف الكبيرة ومستقرّ الشّمس و "كلّ في فلك يسبحون" كلّ هذا هو الإعجاز، لذلك فأنا لا أستحي أن أقول يوجد هذا في "إنجيل متى" وغيره، فاعترافنا بالتّوراة وبالإنجيل اللذين فيهما هدى ونور، وبنصّ القرآن، يجعلنا نعتقد بوجوب أن نراجع قضيّة التّحريف، فصحيح أن التوراة والإنجيل حرّفا تاريخيا من طرف اليهود والمسيحيين، لكن عندما تقول لي إنّ هذه الرّسالة محرّفة فلا بدّ لي أن أعرفها حتّى أعرف المحرّف منها وغير المحرّف، حتّى أعيد النّظر فيما حرّف وفيما لم يحرّف، هذا هو الشّيء الأعمق الّذي لم نقم به إلى حدّ الآن ترفيعا لمنظومة دينيّة نحن نعتزّ بها ونعترف أنّها من ضمن معارفنا ومن ضمن إبستيميّتنا.
من حوار مع المفكر يوسف الصديق 3
(مؤسسة مؤمنون بلا حدود)
د. يوسف الصدّيق: انظر، لقد سحبت منظومة بناء مؤسّسات الإسلام من النصّ طاقته، أوّلا بتوخّي التّلاوة والتّرتيل دون القراءة، نُسيت القراءة تماما، ونحن نتذكّر لمّا كنّا نُسأل ونحن صِبية في تونس، عن السّورة الّتي وصلنا إليها في الحفظ، نقول كلاما ليس له معنى، من قبيل أنا وصلت "سبّح اسم"، وهي ليست جملة (سبّح اسم ربّك الأعلى)، أو أنا وصلت "لم يَكُ"، أو "قد أوحي"، أو "جزء عم"... المثقّف عندما يذكر هذه السّورة يقول عمّا يتساءلون. أو أشياء صغيرة لأنّ التّلاوة الشّكليّة اللفظية هي الّتي غلبت بصفة عامّة على مواجهة النصّ ومواجهة طاقة النصّ الكبرى الّتي كانت سواء في المأثور يقولون أنّها تُبكي، وأنّها تجعل في لحظة واحدة عمر يؤمن عندما سمع سورة طه، وفي القرآن نفسه "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ربّهم"... إذن، هذه الطّاقة سُحبت بتوخّي التّلاوة فقط، ثمّ سحبت أيضا ببناء عكسي أي أن محيط النص هو الذي أصبح يفسّر هذه الطاقة، والأحاديث... مثلا لم ينتبه فقهاؤنا والقائمون على ما أصبح شبه كنيسة ورهبنة في الإسلام، إلى أنّ كلمة سنّة لم تأت أبدا في القرآن، هناك معنيان للسّنة: السّنة المغلوطة أي سنّة الأوّلين، وقد انتهت سنّة الأوّلين. والسّنة الثّانية الّتي هي فلسفيّة بامتياز سنّة اللّه ''ولن تجد لسنّة اللّه تبديلا'' يعني القانون؛ قانون العالم وقانون الآفاق وقانون المجرّات... واللّه نفسه مربوط بهذه السّنة الّتي اعتمدها لنفسه أن تكون في العالم، هذا نسيناه... فكلمة سنّة وحتّى كلمة شيعة تعني معجميّا مجرّد الطّريق، وأن سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قد فرضت بطريقة سفسطائيّة في سورة الحشر يقول: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" هذا لا يعني السنّة أبدا، وإنما يعني العطاء وإيتاء الرجل أجره، وإيتاء المرأة مهرها، ويعني الغنيمة؛ ''فما أعطاكم الرّسول خمسة إبل... فارضوا به وما منعكم أن تأخذوه فلا تأخذوه''...فلماذا يذهب كل الفقهاء في تونس أو في إندونيسيا أو في القاهرة أو في غيرها، إلى القول بأنّ السّنة مبنيّة على هذه الآية؟ وذلك بصفة مغلوطة، فهذه الآية لا تعني شيئا في بناء السّنة. السّنة بنيت أوّلا على خيانة الدّولة الأمويّة للذِّكْرِ أي للطّاقة الكبرى الّتي في النصّ؛ نقرأ أنّ يزيد بن معاوية قال: "لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل". وهذه الخيانة دعّمت أحاديث عند ناس مشكوك فيهم. أظنّ أنّك اشتغلت أنت على شخصيّة أبي هريرة وشخصيّات من هذا النوع، الأقرب أن يكونوا أشخاصا خياليّين لم يوجدوا أبدا؛ لأنّنا لا نعلم عنهم شيئا تاريخيّا، كما نعلم عن عمر أو عن أبي بكر أو عن عثمان بن عفّان، ولا نعلم شيئا عن هذا الرّجل الّذي نجد 68 % من الأحاديث قد اعتمدها هو أو رواها في مسلم، فعل ذلك مع أنّه لم يعرف النّبيّ إلاّ سنتين أو ثلاثا قبل وفاته. وقد نعلم من التّراث أنّه جلد أو أنّه عوقب من طرف عمر عن فساد، فكيف يمكن أن تبنى هذه السّنة وهذا الهيكل الكبير على رجل كهذا؟ ولذلك لا بدّ لشبابنا أو لا بدّ لمؤمنينا أن يراجعوا هذه المسألة. من هم أهل الحديث وكيف يمكن أن نقرأ السنّة، وأُعطي مثلا من آلاف الأمثلة أو على الأقل مئات الأمثلة في هذا البناء الّذي نسمّيه السّنة ونسمّيه الحديث، عندما يقول أبو هريرة عن عائشة إنّها كانت تغتسل بإناء واحد مع رسول الّله صلّى اللّه عليه وسلّم فاغتسلت بمئزره وباشرها وهي حائض، بينما القرآن يقول: "وذلك إثم عظيم" فكيف يمكن أن نوفّق في هذا الحديث لأبي هريرة، وهو الاسم الأكثر ذكرا في العالم الإسلامي إلى حدّ الآن. لا بدّ من مراجعة هذا، كيف يمكن أن يغالط. محمّد بن عبد اللّه، صاحب الوحي، القرآن وفي سورة الأحزاب نجد الآية واضحة لا تُأتى النّساء في المحيض، ومن أتى ذلك فقد أتى إثما عظيما.
من حوار مع المفكر يوسف الصديق 4
(مؤسسة مؤمنون بلا حدود)
كان فهم المعتزلة ضدّ حرفيّة النصّ، لكنّ ذلك قُبِر منذ زمن المتوكّل، أي بعد انتصار ما يسمّيه محمد أركون "الأرثوذكسيّة الإسلاميّة"، وانتصار أهل الحديث. منذ ذلك الوقت أغلق باب الاجتهاد على محمد وأربعة مذاهب، دون أمل في فتحه أو في الإبقاء عليه مفتوحا، ولعلّ المشكل الأعمق يتعلّق بغلق باب القراءة الذي لم يفتح إلى حدّ الآن. باب القراءة الّتي هي أهمّ شيء، وثمّة آيات في القرآن ماتزال غير مقروءة إلى حدّ الآن، وهي ماتزال فلسفيّا وفكريّا وذهنيّا غير مفهومة؛ "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا". فمسألة القراءة مهمّة جدّا، وكلمة "قراءة" هي من أقدم الكلمات في اللّغات السّاميّة (وأنا لا أعتقد في التّقسيم إلى سامي وغير سامي في اللّغات، بل أعتقد أن ثمّة تقسيم أعمق من هذا)، وهي من قرّ، يقرّ، قرية... والقرآن ينبّهنا إلى أن ''القراءة'' هي أن تُلصق الشّيء في بطنك كأنّك امرأة ستحمل، وأن تلفظه من جديد ميلادا جديدا، يقولها عمرو ابن كلثوم حين يصف ناقة ضامرة جميلة، ويقول إنّها لم تقرأ فصيلة، أيّ أنّها لم تلد ولم تحبل؛ لأنّ القراءة هي ولادة من جديد. لذلك نجد كلمة قُرُوء (جمع قُرء) مستعملة في القرآن في ذكر شهور العِدّة، والقرآن يقول في زمن العدّة قروء ولا يستعمل كلمة شهور، لأنّ القروء، والقراءة فيها معنى الولادة. فيجب أن ننتبه إلى ذلك السبب وراء استعمال كلمة ''قروء'' عوض ''شهور'' المستعملة في موضع آخر من القرآن (عدّة من شهور أخر). وكلمة قروء وقراءة مهمّة جدّا؛ لأنّها تحيل على معنى الولادة من جديد أي أن نستقبل البذرة، وأن نلفظها ميلادا جديدا؛ وهذا ما لم نقم به إلى حدّ الآن.
د. نادر الحمامي: هذا ما لم نقم به، ولكن يوجد سوء تفاهم كبير بين الشّق الإسلامي في مجتمعاتنا الإسلاميّة (التي لم تقرأ هذا النصّ الـتّأسيسي بعد) وشقّ آخر متمثّل في الغرب، وأنت كتبت في هذه المسألة وقلت بأن سوء التّفاهم كبير. إذن فالإشكاليّة مزدوجة، إشكاليّة المسلمين أمام النصّ المؤسّس وإشكاليّة الغرب أمام هذا القرآن، فكيف ترى الإشكال من الجهة الثانية؟
د. يوسف الصدّيق: من هذا الجانب، في الحقيقة، هذا ما أسمّيه نضالا مع المثقّف الفرنسي، فأنا درست على فطاحل الأساتذة في فرنسا، وقد صادفت في تكويني كوكبة مهمّة من العلماء الأفذاذ، فدرست على ألتوسير (Louis Althusser) (1918-1990)، وآلكيي (Ferdinand Alquié) (1906-1985)، ولوفيناس، وجاك لاكان (Jacques Lacan) (1901-1981)، وحتى جون بول سارتر (Jean-Paul Sartre) (1905-1980) الذي لم يكن يدرّس ولكنني كنت ألتقيه، وفوكو ودولوز، وليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998)، وكل أولئك العظماء الذين اجتمعوا في جيل واحد أكثر من خمسين اسما في نفس المساحة في باريس، في السّربون، في الحيّ اللّاتيني وفي بوردو وفي مرسيليا، ولكنهم ماتوا، والآن لا يوجد في فرنسا كلّها سوى أربعة أو خمسة أسماء معروفين يشبهونهم، مثل جاك رانسيير، وباليبار (Étienne Balibar) (1942). لقد كنت أحارب كل أولئك العظماء، لأنّهم تلقّوا تعريفا لهذا النصّ من تراثنا نحن، وكانوا يضحكون منه، ويعتبرونه نصّا بدائيا ولا يستحق الاعتناء حتّى كما اعتنى غابريال مارسال (Gabriel Marcel) (1889-1973) الفيلسوف الوجودي المسيحي بالإنجيل، فهو في نظرهم "كلام فاضي" لأنّهم تلقّوا التّراث والمأثور العربي وترجموه واهتمّوا به وتكوّنت لديهم قناعة بأن هذا النص لا يستحق التفكير فيه.
وكما قلت لك لقد كنت أتحدث مع دولوز، ومع مجموعة من أصحاب الدراسات الفلسفية المعمقة في ذلك، وقد أقحم دولوز في كتابه ''الرّأسماليّة والانفصام: أوديب المضاد'' (Capitalism et schizophrénie: L'anti-Œdipe. Livre de Félix Guattari et Gilles Deleuze) وهو في جزئين، أقحم قضيّة إنّما الأعراب أشدّ كفرا ونفاقا، وقضيّة الأعراب لا يعلمون حدود ما أنزل الله...وجعل من ذلك آلية لحرب البدو، وكان لي معه حديث في احدى الندوات التي كنا نقوم بها في باريس الثّامنة. لقد كانت مرحلة صعبة لم أساهم فيها وحدي في باريس، بل كان التّونسيون والمغاربة وكلنا ساهمنا، فالحقيقة إذا كان ثمة نص يستحق أكثر من التوراة والإنجيل بكتبه الأربعة استقباله في المنظومة الفلسفية فهو القرآن. لم أكن وحدي، بل كنا مجموعة حاولنا منذ سنة 1967 أن نقول للغرب إن هذا النص هو نص يستطيع أن يقبل النقاش من كبار أئمّة الفلسفة من أفلاطون إلى اليوم ولكن وجب فبل ذلك أن يتم تنظيفه مما بسّطه التّراث إلى حدّ الضّحالة.
باحث تونسي يقول إن القرآن لا يصلح لكل زمان ومكان...
و"الإفتاء المصرية" تصف كلامه بالجنون
خاص رصيف22
السبت 6 يوليو 2019
"القرآن تعرض للعبث بعد وفاة الرسول، وهو كتاب ليس صالحاً لكل زمان ومكان". هذا بعض مما صرح به الباحث التونسي المتخصص في أنثروبولوجيا القرآن، يوسف الصديق، يوم 5 يوليو، خلال ندوة عقدت في العاصمة المغربية، الرباط، تحت عنوان "الحريات الفردية بين التحولات المجتمعية والمرجعية الدينية".
تصريحات الصديق أثارت اعتراض دار الإفتاء المصرية، معتبرة أن كلامه "لا يستحق عناء الرد عليه".
وبحسب الباحث التونسي، فإن أحد الأمثلة على ما وصفه بـ"العبث بالقرآن" بعد وفاة النبي محمد هو مسألة "الناسخ والمنسوخ" التي وصفها بأنها اغتصاب للنص القرآني، واصفاً القرآن بأنه "حدث" قبل أن يكمل أن "هذا الحدث تم العبث به، بالضبط عند وفاة الموحى إليه".
وقال الصديق في الندوة إنه تم إلغاء طاقة النص القرآني تماماً منذ توفي الرسول ومنذ جاء المصحف، مؤكداً أن "القرآن ليس هو المصحف"، إذ "منذ اللحظة التي جُمع فيها وصار بين دفتين في المكتبات وبين أيدينا انطلق وتحرر من الطاقة الكبرى التي أحدثت الحدث".
وتحدث الصديق في الندوة عن بعض الآيات القرآنية التي يقول البعض إنها قد نُسخت، كآية "لا إكراه في الدين"، واستنكر أن يقول البعض إنه لا يجوز اعتمادها فيستدلون بدلاً منها بالآية الخامسة من سورة التوبة "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم"، وهي الآية التي قال عنها الصديق إنه تم نزع العامل الظرفي عنها لأنها "مرتبطة بمعركة".
وطالب الصديق المسلمين بضرورة "اليقظة لأمر آخر جاء بعد الناسخ والمنسوخ وهو إلزامنا بما تذكره البخاري بعد قرنين من وفاة الرسول"، في إشارة إلى "صحيح البخاري"، قائلاً إنه ليس ملزماً بالاعتقاد بحديث "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله"، والذي وصفه بالحديث الداعشي، ومتسائلاً بتعجب كيف يمكن أن يكون ذلك الحديث لرسول قال آية "لا إكراه في الدين"، وآية "وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون"؟.
وناقش الصديق في الندوة ما يؤمن به ملايين المسلمين من أن "القرآن صالح لكل زمان ومكان" قائلاً بلهجة استغراب: "كيف يكون كذلك وهو يقنن في بعض الأحايين للعبودية والرق؟" قبل أن يضيف: "إلا أن يكون هذا الرحمن قادراً على أن يجعلنا نتخطى نصياً ما أوحى وأن نسلخ من النص الموحى كل مرة ما يجاوزه".
وتابع الصديق أنه في هذا الزمن، وبحكم القيم الإنسانية لا يمكنه أن يحارب أو حتى يلوم من يعبد الشجر مثلاً، مؤكداً أنه من اللازم "جعل حد فاصل بين ما يعتقده المسلم كيفما كان وبين التفكير والعقلنة التي تنتمي إلى كل الإنسانية دون تحديد لمسألة المعتقد".
"جنون"
من جانبها علقت دار الإفتاء المصرية على ما قاله الصديق مؤكدة أن كلامه "جنون لا يستحق عناء الرد عليه"، وتابع الخط الساخن للدار الذي تواصل معه رصيف22 أن القرآن محفوظ ولم يتم العبث به، وأن القرآن جاء ليكون دليلاً للناس في الدنيا والآخرة، ومن أجل ذلك كان لا بد من بقائه سليماً، ولذلك قال الله "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".
وفي السنوات الأخيرة، تعرض الكثيرون للهجوم بسبب نقدهم للنص القرآني. ففي العام 2017 وصفت مجموعة باحثين جزائريين القرآن بأنه "تراث"، وهذا ما جعل الداعية الجزائري وإمام المسجد الكبير في العاصمة الجزائرية، علي عية، ينسحب من ندوة دينية حول نقد النص الديني، معتبراً ذلك "ردة عن الدين الإسلامي".
وفي العام 2015 قال الباحث المصري إسلام بحيري خلال ندوة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب تحت عنوان "نقد التراث والطريق نحو التنوير"، إن بعض آيات القرآن لا تناسب كل العصور، ومنها آية "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن نستخدمها أو نستعملها في هذا العصر، وذلك قبل أن يُحكم بالسجن سنة واحدةً لاتهامه بازدراء الأديان.
Comments