ابن رشيق
[390 456هـ / 1000 1070م]
إن الكلام على الحسن بن رشيق القيرواني هو أساسا كلام على أزهى عصرٍ من عصور العلم والأدب والسياسة بإفريقيةفي العصر الوسيط، إفريقية التي كانت تمسح كامل تراب الجمهورية التونسية وجزءا من التراب الليبي إلى حدود مدينة برقة وجزءا من التراب الجزائري إلى ما كان يسمّى إقليم الزاب. ونعني بهذا العصر، عصر الدولة الصنهاجية أو عصر بني زيري الذي امتدّ من سنة 362هـ سنة سقوط الدولة الفاطمية بإفريقية ورحيل المعزّ لدين الله الفاطمي إلى القاهرة وسنة 449 هـ. وهي سنة زحف الأعراب الهلاليّين التي أضعفت كيان الدولة الصنهاجية وأخمدت بها جميع الحركات الفكرية والأدبية.
ولا يخفى أن إفريقية قد ظهرت بها بعد عصر الفتح أُسَرٌ عريقةٌ ذات شأن تكوّنت بفضلها خمسُ دول كبرى هي الدولة الأغلبية و الدولة الفاطمية و الدولة الصنهاجية ثم الدولة الحسينية التي أنتهى حكمها قبيل استقلال تونس وخروجها من ربقة الاستعمار الفرنسي سنة 1956 وتكوّن أوّل دولة تونسية في التاريخ المعاصر بزعامة الحبيب بورقيبة. وليس من المبالغة في شيء القول إنّ الفترة الصنهاجية التي عاش فيها ابن رشيق هي الوحيدة التي ظهرت فيها مدرسة أدبية عاصمتها القيروان وانتشر إشعاعها في كامل التراب التونسي ووصل إلى صقلية والأندلس وحتّى إلى المشرق العربي.
وإنّ العصر الذي نشأ فيه أدبينا الحسن بن رشيق هو العصر الذي نشأ فيه صديقه ومنافسه محمد بن شرف وظهر فيه أيضا الوزير الأديب علي ابن أبي الرّجال والأديب إبراهيم النهشلي صاحب كتاب الممتع وإبراهيم الحصري صاحب زهر الآداب والرقيق القيرواني صاحب تاريخ إفريقية والمغرب وكتاب قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور إلى جانب الوليّ الصالح الأديب اللاّمع معلّم الصبيان محرز بن خلف الملقّب بسلطان المدينة. ولا نغفل عن ذكر عبد الله بن أبي زيد إمام علماء القيروان في وقته وقدوتهم وجامع مذهب الإمام مالك وشارح أقواله وصاحب الرّسالة المشهورة.
إنّ وجود رجال من هذا القبيل زيادة على المعزّ بن باديس وابنه تميم بن المعز - وقد كانا عالمين مولعين بمصاحبة العلماء ومجالسة الأدباء وسماع ما تجود به قرائحهم - قد ساعد على ازدهار الحياة الفكرية والأدبية بالقيروان في القرن الخامس الهجري. فزادت إشعاعا على إشعاعها القديم الذي أسهم فيه الأمراء الأغالبة ثمّ الأمراء الفاطميّون من بعدهم.
من هو ابن رشيق؟ وفيم تجسّد إسهامه في تطوير الحركة الأدبية بالقيروان عاصمة الدولة الصنهاجية؟ وما هي آثاره التي اشتهر بها حتى خلّدت اسمه عبر العصور؟
هو الحسن بن رشيق القيرواني. وكنيته أبو الحسن ولد سنة 390هـ / 1000م بالمسيلة المحمدية قريبا من قسنطينة. ورشيق هو اسم أبيه، وقد كان يمتهن الصياغة بمسيلة. فربّى ابنه على حبّ العلم والجلوس إلى العلماء. فتفتحت مواهبه الشعرية واللغوية وهو صغير السنّ. التحق ابن رشيق بالقيروان سنة 406هـ / 1015م وهو في سن الخامسة عشرة. وهي السنة التي اعتلى فيها سدّة الحكم الأمير الصنهاجي المعزّ بن باديس. فشهد ابن رشيق دروس كبار العلماء من مثل القزّاز النحوي وإبراهيم الحصري والأديب الخشني. وفي هذا الصدد يقول ح.ح. عبد الوهاب: "تربى [ابن رشيق] في القيروان وهي آنذاك معهد العلوم وكعبتها، فارتوى من صافي الأدب ونبغ فيه نبوغا باهرًا (مجمل تاريخ الأدب التونسي، ص143). ويقول الشاذلي بُويَحْيَى في أطروحته عن الحياة الأدبية بإفريقية في عصر بني زيري: التحق ابن رشيق بالقيروان حيث شهد دروس أساطين الأعلام من رجال الفترة الصنهاجية الأولى، وقد كانوا ينشطون في رحاب حياة ثقافية قطعت بعض أشواطها على درب الازدهار" (الأطروحة، ج1، ص192) وكان لمصاحبته ابن شرف ورجال العلم والأدب أن توقّدت قريحته وذاع صيته. وقد التحق ببلاط الأمير الصنهاجي المعز بن باديس بعد أن توطّدت علاقته براعي العلماء والأدباء وقتئذ. وهو علي بن أبي الرجال (ت426هـ / 1034م) الذي تربّى على يديه المعزّ بن باديس. وكان ابن أبي الرجال هذا عالما فلكيا وأديبا ضليعا. وهو المعروف بأوربا في العصر الوسيط بفضل علمه ونبوغه في الفلك بإسم (Alboacen Abenragel) وقد سمّاه المعزّ على رأس ديوان الإنشاء.
فكان ابن أبي الرجال وزيرا أديبا عالما. فضمّ إلى ديوان الانشاء الذي كان يشرف عليه شعراء فحولا وكتّابا بارعين وعلماء مشهورين من أبرزهم ابن رشيق وابن شرف.فكانت هذه العناية بشاعرنا فرصةً له ليصبح شاعر البلاط بلا منازع. فانقطع إلى خدمة المعزّ. وكان رفيقا له في أسفاره، مشيدا بمآثره وأخباره، مادحا لكرمه وشجاعته، مطنبا في ذكر جليل خصاله. ولم يكن ينافسه في هذه المنزلة سوى ابن شرف الذي حظي هو أيضا بمكانة عليّة عند المعزّ. وقد عرف ابن رشيق بنفسيته المرحة وحبّه للنكتة وشغفه بمجالس اللهو والمرح يحضرها ويشارك في المساجلات والمناظرات ويطرب الحاضرين بأشعاره في جميع الأغراض والموضوعات. يورد ابن شرف خبرا يقول فيه: دعاني المعز بن باديس يوما واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق، وكنّا شاعري حضرته وملازمي ديوانه، فقال: أحبّ أن تصنعا بين يديّ قطعتين في صفة الموز على قافية الغين، فصغنا حالا من غير أن يقف أحدنا على ما صنعه الاخر، فكان الذي صنعته (أي ابن شرف):
يا حبّذا الموزَ وإسعادَهُ من قبل أن يمضغه الماضغ قد لان حتّى لا مجسّ له فالفم ملآن به فارغ
والذي صنعه ابن رشيق:
موزٌ سريعٌ أكلُهُ من قبل مضغ الماضغ فمأكلٌ لاكل ومشربٌ لسائغ فالفَمُ منْ لينٍ به ملآنُ مثلُ فارغ
يعلّق ح.ح. على هذه الأبيات وعلى غيرها ممّا ذكره في كتابه بساط العقيق في حضارة القيروان وشاعرها ابن رشيق، بقوله: "وكثيرا ما كان المعزّ يظهر الميل إلى أديب دون آخر...." فيقع بينهما تنافس أدبيّ ينشأ عنه تسابق في اختراع المعاني وتوليد المبتكرات وحصل بسبب هذه المنافسات نهوض في سوق الأدب وظهرت حركة علمية فكريّة اجتنت إفريقيةمن ثمراتها اليانعة ما يحقّ لها الافتخار به...
وروى ابن خلّكان في وفيات الأعيان أن المعزّ كان يوما جالسا وعنده جماعة من الأدباء وبين يديه أترجّة ذات أصابع - فأمرهم المعز أن يعملوا في وصفها شيئا. فقال ابن رشيق:
أترجّةٌ سبطة الأطراف ناعمةٌ تلقَى العيونَ بحسنٍ غير منحوس كأنّما بسطتْ كفّا لخالقها تدعو بطول بقاءٍ لابن باديس
هذه نماذج قليلة من شعر ابن رشيق ولُمَعٌ خاطفة من حياته. وقد قال شعرا كثيرا في جميع الأغراض من رثاء ومدح وغزل وهجاء وفخر. وقد جَمَع ديوانه ونشره عبد الرحمان ياغي منذ سنوات. وستكون لابن رشيق حياة ثانية بعد حياته الأولى بالقيروان. ذلك أنّ تخريب القيروان سنة 449هـ / 1057 على أيدي بني هلال سيكون سببا في هجرة الكثير من العلماء والأدباء إلى كلّ من صقلية والأندلس وفي خفوت جذوة الأدب وانتكاس تلك الحركة الأدبية والفكرية النشيطة التي دامت قرنا كاملا في ظل بني زيري. فالتحق ابن رشيقبالمهدية التي فرّ إليها المعز بحاشيته وأتباعه. وانضمّ إلى مجالسه. وظل يمدحه ويمدح ابنه تميما. ولكنه لم يكن مرتاحا ولا مطمئنا على مصير بلده. فآثر الهجرة إلى صقلية سنة 454 هـ / 1062م وهي السّنة التي توفّي فيها المعزّ. وقد سبقه إليها صديقه ومنافسه ابن شرف ليكون التصالح بينهما هناك وليزدهر بلاط الأمير ابن متكود بنشاطهما الأدبي وبفضل ما كان يغْدقُهُ هذا الأمير على العلماء والأدباء من العطايا وما يظهره لهم من التشجيع والعناية والاكرام. فأقام ابن رشيق بمازرة بصقلية. وهناك درّس للطلبة كتابه المشهور العمدة في صناعة الشعر بعد أن درّسه لطلبة العلم بالقيروان. وظل في خدمة الأمير ابن متكود حتى توفي سنة 456 هـ / 1070م ودفن بمازرة.لم يكن رحيل ابن رشيق عن القيروان رحيل محبّ للهجرة طامحٍ إلى الشهرة. فقد ذاع صيته مشرقا ومغربا بفضل مؤلفاته وهو مقيم بالقيروان. وإنّما فارقها متحسّرا عليها راثيا لحالها. فقد صنع قصيدة مطوّلة في خرابها يقول في أوّلها:
أترى الليالي بعدما صنعتْ بنا تقضي لنا بتواصلٍ وتَدَان وتُعيدُ أرض القيروان كعهدها فيما مضى من سالف الأزمان [ّ...] والمسلون مقسّمون تنالهم أيدي العصاة بذلّة وهوان ستبصر خون فلا يغاثُ صريخهم حتّى إذا سئموا من الأزمان فتفرقوا أيدي سبا وتشتّتوا بعد اجتماعهم على الأوطان
وفي السنوات الأخيرة من حياة ابن رشيق وابن شرف بصقلية استقدمهما أمير إشبيلية المعتضد بن عبّاد لمَا سمعه عنهما من نشاط فكري وأدبي زيادة على شهرة مؤلفاتهما. فتاقت نفس ابن شرف إلى هجرة ثانية بعد هجرته إلى صقلية وأبى ابن رشيق السّفر مرّة ثانية لتقدمه في السنّ من ناحية ولموقفه السلبي من أمراء الطوائف بالأندلس. فقد قال ابن رشيق عندما استنهضه ابن شرف على جواز الأندلس بيتين بليغين فيهماتهكم واستنقاص:
ممّا يزهدني في أرْض أندلسٍ سماعُ مقتدر فيها ومعتضد ألقاب سلطنة في غير مملكة كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
فأجابه ابن شرف ارتجالا جواب شاعر حنّكته التجارب:
إن ترمك الغربة في معشر قد جُبلَ الطّبعُ على بغضهم فدارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم
وارتحل ابن شرف إلى الأندلس ليمدح المعتضد أمير إشبيلية ثم المأمون بن ذي النون ملك طليطلة وهناك توفّي بعيدا عن وطنه سنة 460 هـ / 1067 مثلما مات ابن بلده ابن رشيقبعيدا عن وطنه. وقد خلّف ابن رشيق آثارًا عدّة لم يبق لنا منها سوى كتاب العمدة. وهو كتاب في النّقد لا يقل شأنا عن كتب النقد المتقدمّة عنه في الظهور مثل طبقات فحول الشعراء لابن سلام والشعر والشعراء لابن قتيبة ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، كما ترك لنا كتابا في السرقات الأدبيّة هو قراضة الذهب في أشعار العرب وديوانا تضمّن ما تبقّى من أشعاره وكتابا رابعا عن شعراء افريقية في عصره وهو أنموذج الزمان في شعراء القيروان.
لم تعرف إفريقية وعاصمتها القيروان في العصر الوسيط عصرا أكثر ازدهارا من عصر ابن رشيق ومعاصريه من مثل ابن شرف والنهشلي والرقيق وإبراهيم الحصري وعلي الحصريوابن أبي الرجال وعلى أيدي هؤلاء تكوّنت أوّل مدرسة أدبية في النقد والأدب لم يُرَ لها مثيل في العصور المتقدّمة ولا في العصور المتأخرّة. وهي جديرة بالاعتناء والانكباب على أعمال رموزها والكشف عن مؤلفاتهم المخطوطة والضائعة لمزيد التعرف إلى خصائص الثقافة العربية الاسلامية في عاصمة من عواصمها القيروان التي لم تكن أقّل شأنا من الفسطاط أو الكوفة أو البصرة.
Comments