كثيرا ما قوّضت إمكانية وجود تأثير بنائي لأعمال فريدريك نيتشه على النظرية السياسية ونظرية العلاقات الدولية بمواقفه الجليّة عن التفوّق الآري ومعاداة السامية، إلى جانب الاعتماد الصريح على كتاباته من قِبل بعض المعجبين على غرار هتلر وموسوليني،
إلاّ أنّ الأشياء المدسوسة في سيرته الذاتية بمثل هذه الطريقة الهزلية والتّي سُمح لها بالتطور قد تمّ الكشف عنها تدريجيا من قِبل ثلّة من الباحثين ابتداءً من والتر كوفمان فسمحت ببزوغ فجر “نيتشوية جديدة”، إذ يظنّ كوفمان أنّ لها في الحقيقة تأثيرا عميقا على أعمال عدّة كتّاب لاحقين على غرار دريدا، دولوز، فوكو، كلوسوفسكي وبلانكو.
بناءً على تمرّسه في حقل الفيلولوجيا الكلاسيكية فقد عُيّن نيتشه كأستاذ للفيلولوجيا الكلاسيكية في بازل بسويسرا سنة 1869، إلاّ أنّ تزايد اعتلال صحتّه العقلية والبدنية أدّت به إلى مغادرة منصبه سنة 1879 بعدما حصل على منحة معاش متواضعة من قِبل الحكومة السويسرية.
في سنة 1889 استسلم نيتشه أخيرا لاعتلال عقلي عانى منه خلال العقد الأخير من حياته. خلال 11 سنة الأخيرة من حياته ضلّ نيتشه تحت رعاية أخته إليزابيث فوستر نيتشه وهي التّي قد ساهمت في تحديد وانتشار مذهب نيتشه من خلال تهيئة أرشيفه.
فمن خلال عملها –لاسيما تحرير مجموعة من أعماله، جزئين عن سيرته الذاتية، وكذا إصدار مذكّرات عمله والتّي نُشرت في كتاب حمل عنوان “إرادة القوة”– قُدِّم نيتشه على أنّه بداية النازية حتّى أنّ الفوهرر كان قد حضّر بنفسه مراسيما مُسرِفةً لجنازة نيتشه مموّلة من قِبل الدولة سنة 1935.
إلاّ أنّ عمل فوستر نيتشه في حقيقة الأمر تضمّن تشويها شاملا لأفكار نيتشه، بدا ذلك أمرا ممكنا في جانب ما من خلال الأسلوب المعهود لنيتشه واللافت في الكتابة. فمع بعض الاستثناءات المسجّلة فإنّ أعمال نيتشه كُتبت على شكل حِكم وأقوالٍ مأثورة –والتّي تبدو عادة متناقضة- تُوِّجت بكتابه المذهل “هكذا تكلّم زراديشت”، إذ يسعى زراديشت لتلقين مجموعة من الصفات والخصائص التّي تُمهّدُ لقدوم الإنسان المتفوق “السوبرمان”: الأخلاق المابعدية -ما بعد التوحيد والإيمان- المتجاوزة للبشرية جمعاء، إلاّ أنّ زراديشت باء بالفشل الضمني في محاولاته تلك والسبب اعتقاده بعدم قدرة مريديه على فهم دروسه.
هكذا فهو يقود إلى تجربة أنماط وطرق جديدة دوما في محاولة تأهيل رسالته لتكون رسالةً مسموعة ومفهومة.
يرجع نصيبٌ من فشل طرقٍ وأنماطٍ كهذه إلى ما كان يؤمن به نيتشه بأن يكون الوضع المهيمن للبشرية نهاية القرن التاسع عشر هو: العدمية. تظهر العدمية نفسها في محيطٍ اجتماعي من الثرثرة الفارغة، مجرّدة من أيّ التزام حقيقي لنظام أخلاقي جديد وممكن.
فمثلما أشار دولوز، فإنّ العدمية تتضمّن في أعماقها حالةً تفاعليةً يُحدّدُ معالمها ميلٌ نحو الإنكار أو النفي. ويرتبط نقد نيتشه لتفسّخ الحداثة الأوروبية بموقفه الرافض للمُثل العليا للنمو والتقدم، وهذا البُعد في عمله يبقى في حدّ ذاته ذا أهميةٍ تأسيسيةٍ بالنسبة للنظرية السياسية المعاصرة ونظرية العلاقات الدولية.
يرجع مصدر هذه العدمية إلى فكرته عن “موت الإله”، ففي مقطعٍ مشهور من كتابه “العلم المرح” يُصوّر نيتشه رجلا مجنونا قادما إلى ساحة المدينة العامة مُعلنا موت الإله. يُقابَلُ المجنون بسخريةٍ لاذعة من طرف عدميّين منافقين “يدّعون الورع” ليس لكونهم يؤمنون بالإله ولكن لأنّ موته قد حلّ.
إلاّ أنّ حجّة نيتشه هذه هي بالذات ما نحن اليوم بصدد مواجهته، إنّنا نواجه عواقب...............
............................................................................................................
Comments