ضرورة العودة إلى الأصل :
قد يأخذ البعض علينا أننا جعلنا من العودة إلى الأصل ضرورة، رغم دعوتنا للنظرة النقدية لكل تاريخ الفلسفة. ولكن أي أصل هذا ؟ ولماذا تكون العودة إليه ضرورية ؟
ليست العودة التي نريدها عودة تقهقرية، ليست تقدّم إلى الوراء، بل تخلُّف نحو المُقدِّمة، سقوطٌ نحو الأعلى الأكثر نقاءً. عودةٌ إلى أصل غير مشوب بكل ما تقدّمهُ، مُتحرِّراً من كل القيود الإيديولوجية التي حاولت قتله لإحياء ذاتها. الأصل الذي ينتظر عودتنا هو المعنى الأساسي الكامن في لفظ "فلسفة" نفسه، نبني عليه، ولا يبني علينا.
قلنا أن في عقل كل إنسان يكمن فيلسوف، لكن إيقاظ هذا الفيلسوف لا يكون عبر ممارسات طقسية، ولا عبر خرائط أو خطط مكتوبة سلفاً، إنما عبر العودة إلى المفهوم الأساسي للفلسفة، وهو محبة الحكمة، دون امتلاكها، ذلك أن ادِّعاء امتلاك الحكمة إنما هو ضرب من التعالي غير المُبرَّر، وخروج عن الحبكة الأساسية لمفهوم الفلسفة. عندما تكون مُحِبَّاً للحكمة، فإن هذا الحبّ يقودك إلى مزيد من المعرفة، وهذا المزيد يُظهِر لك جهلك جليّاً، ويدفعك إلى المزيد، كنار يُصَّب فوقها الزيت، فلا تعرِف الخمود.
في زمننا هذا، أضحتِ العودة إلى هذا المعنى الفضفاض للفلسفة ضرورية لنجاة الإنسانية. ذلك أن هذه الأخيرة تُعاني تشرذُّماً واضحاً، نتيجة الانغلاق المذهبي الإيديولوجي الجماعوي، والانحياز الدوغمائي للفكرة. الفكرة هي التي يجب أن تموت من أجل الإنسان، وليس الإنسان هو الذي يجب أن يموت من أجل الفكرة. إن هذه العودة تقودنا نحو الفرار من سياجٍ دوغمائي تغَّلفت به عقولنا قروناً عديدة. والدوغمائية بالتعريف هي : حالة من السُبات تُصيب العقل، فتقعدهُ عن التفكير خارج إطار نظرياته، فيشعر صاحبها بحالة من الوثوقية المطلقة في معتقداته وأفكاره، تثنيهِ عن قبول معتقدات الآخرين وأفكارهم. بمعنى آخر : "الدوغمائية هي صفة من يثق بعقله ونظرياته، ويعترف لها بسلطان عظيم، دون التفكير في اشتمالها على الخطأ و الضلال.
إن من يُلازمه هذا الوهم لا يستطيع أن ينظر أبعد من أنفه، فيتصور أن حقيقته الخاصة هي الوحيدة، وهي آخر الحقائق وأسماها، فيزهو متبختِراً بها، معتقِداً أن تمَسُّكه بها فضيلة الفضائل، وأنه بالتزامه بها يثأر لتاريخه وتراثه.
إذا ما تنبَّهنا لهذا المعنى الواسع للفلسفة، نكون قد أفسحنا المجال أمام عقولنا لتكون واعيةً لحقيقة الاختلاف، وليترسخ بين ثناياها أننا جميعاً في محكمة النقد، في الوقت الذي نعي فيه أن تاريخ الفلسفة ليس بمأمن من النقد هو أيضاً. ووفقاً لذلك فإنني أستطيع أن أدعو هذه الحالة صراعاً ودياً، يغدو فيه الجميع ماثِلون في محكمة النقد، بل وحتى أمام محكمة عقولهم أنفسهم، فالنقد الذاتي هو أعظم درجات الانفتاح الفكري. وهذا برأيي هو ما يضمن للفلسفة راهنيتها، وتجاوبها مع الواقع، من حيث أن الكل يبحث عن الحقيقة حتى وإن لم يجدها. ثمَّة جملة لا تزال تتسلق إلى ذهني كلما صادفتُ شخصاً يدَّعي حقيقة مطلقة، على المستوى الفردي أو الجماعي، جملةً قالها أستاذنا الجامعي في السنة الأولى من انضمامنا لقسم الفلسفة : "لسنا بحاجة لوجود قسم الفلسفة في الجامعة لو أننا عثرنا على الحقيقة !".
ماذا يعني أن تتفلسف ؟
أن تتفلسف يعني أن تدق رأسك كما يدق الغربال، فتزول من فكرك كل شائبة، ولا يبق إلا ما يعينك على إكمال رحلتك الشاقة في هذه الحياة. أن تتفلسف يعني أنك أنرت عقلك بفتوحات المعرفة، ونبذت من طريقك كل مايعترض سلام نفسك من التقهقر الذي يجلبه الظلام.
إذا كنت ممن اختارتهم الحياة ليكونوا من أولئك، فاعلم أنك قطعت نصف الطريق، وما عليك إلا أن تلتزم العهد بإكمال هذه الطريق، والسير بخطى ثابتة غير آبه بما يعترض سبيلك، وبما تضعه الأيدي الخفية من عثرات، لأنك بالفلسفة وحدها ستنسف كل خرائطهم التي قضوا عمرهم برسمها عندما كانت ضمائرهم نائمة، وعقولهم غافلة، وأفواههم تتلوى ميوعة حين بدأوا برسم خارطة الحياة . تلك الحياة التي تعبت من تفاهتهم وميوعتهم، إن الحياة تحتاج رجالا لأن الحياة أنثى، والأنثى لا تحب إلا الرجل المكافح العنيد، وكفاحك لن يثمر إذا لم تكن كالغربال.
أن تتفلسفَ يعني أن تتعثَّرَ خُطاكَ بمُنعرجاتِ اللاّيقين. أن تبحثَ عمّا هو مغمورٌ في أُبَّهة اليقينِ، ألّا تستثني شيئاً من محكمةِ عقلكَ إلّا وتطعن فيه. أن تتفلسف يعني أن تعطِب غوائلَ الجامدين، و تُقحِم النشازَ في لُبِّ موسيقى القطيع. تمرّد، فالتمرُّد موسيقى الجاحدين. كن جاحِداً، لئلا تغرق في إيمان الباحثين عن مأمنٍ من المخاطرِ، خطر الإصابة بحُمّى الشك، وداء رفض السَّائد من الأحاديث. كن على يقين من أنّك لست على يقين.
أن تتفلسفَ يعني أن تقبِضَ على المعرفةِ من شتَّى وجوهها. أن تتفلسفَ يعني أن تحمِل على عاتِقكَ مسؤوليةَ المعرفةِ، وتبِعات حيازةِ المعرفةِ، أن تعيشَ في قلقٍ يُساوركَ آناءَ اللّيل وأطرافَ النَّهارِ، أن تبقى قلِقاً من فواتِ ثغرةِ معرفةٍ لم يتناولها عقلكَ. لا تتعلّم الفلسفةَ بل تعلّم كيف تتفلسفُ، تعلّم أن تجعل الفلسفة تفلّسفاً حقيقياً، ينقلُك من حيّز الرَّغبة إلى حيِّز التنفيذ. تعلّم ألّا تؤمن بالقوالب المُجهَّزة مُسبقاً، ألّا تؤمِن بما قد جُهِّز لك قبلَ ميلادِكَ، تعلّم أن تصنعَ الإيمانَ بنفسكَ. وعندئذٍ تغدو وحدَكَ خالقاً لقيمِكَ ومبادِئكَ، ونهجك المعرفي الأصيل.
انتهى
***********************************************
مراجع بعض الاقتباسات
١ - صحيفة الميثاق، عدد خاص باليوم العالمي للفلسفة، سوريا، 2017.
٢ - حميد زناز، المعنى والغضب (مدخل إلى فلسفة سيوران)، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009.
٣ - إدموند هوسرل، تأملات ديكارتية، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دار بيروت للطباعة والنشر، 1958.
٤ - محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997.
٥ - يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، دار القلم، بيروت.
٦ - نخبة من المفكرين، قوة الكلمات (حوارات وأفكار)، ترجمة لطفية الدليمي، دار المدى، بغداد، 2017.
٧ - الياس مرقص، نقد العقلانية العربية، دار الحصاد للنشر، سوريا، 1997.
٨ - جلال الدين سعيد، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس.
Comments