"بماذا الإيمان".. هوس الجموع بالآخرة وأخلاق العلمانيين
كتاب جمع محاورات في الفلسفة والأخلاق
بين إمبرتو إيكو والكاردينال كارلو مارتيني
بقلم حنان عقيل. (صحيفة العرب الأحد 2019/09/22
شكّلت الخطابات المُتبادَلة بين الفيلسوف والروائي الإيطالي إمبرتو إيكو، وكاردينال ميلانو كارلو مارتيني أحد أبرز الوجوه في الكنيسة الكاثولكية، والتي ضُمت في كتاب “بماذا الإيمان”، قيمةً جوهرية مُستمدّة من طبيعة ما يُتيحه الحوار من تبادل أفكار بين ما يُعتبر طرفي نقيض لقضايا مُهمة تُشكِّل همًا إنسانيا يتشارك فيه جميع الأطراف بغض النظر عن قناعاتهم أو أيديولوجيتهم، لاسيّما وأن هذه الحوارات دارت في فترة حساسة كان فيها العالم يستعد لاستقبال ألفية جديدة بتساؤلات فكرية مُلحّة لا تزال مطروحة إلى الآن.
في كتاب “بماذا الإيمان” الذي نُشر لأول مرة عام 1997، وترجمته عواطف السعدي في كتاب صدر حديثا عن دار أبكالو للطباعة والنشر، نجد حوارا متبادلًا بين طرف علماني يُمثله الفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو، والطرف الآخر الذي يُمثل وجهة النظر المُتديّنة ويمثلها كارلو مارتيني، كانت قد دعت إليه مجلة ليبرا الإيطالية عام 1995، وشمل ثماني رسائل، يطرح إيكو في ثلاث منها أسئلته التي يجيب عليها الطرف الآخر فيما تتبدّل الأدوار في رسالة وحيدة يُجيب فيها إيكو عن سؤال لمارتيني حول مصدر الفعل الأخلاقي عند العلمانيين.
أسس الأخلاق
في واحدة من أهم الرسائل التي تضمنها الكتاب، وجّه الكاردينال مارتيني سؤاله إلى إيكو حول الأساس الذي يبني عليه العلمانيون يقينهم وإيمانهم بضرورة العمل الأخلاقي المستند على قيم أخلاقية مُطلقة، وتساءل: كيف يمكن أن يكون للعلمانيين أساس واضح للأخلاق في إطار ما بعد الحداثة إن كانوا لا يؤمنون بإله محدد؟ أي مبرر نهائي يمنحونه لأفعالهم؟ وكيف تُحصّن تلك المبادئ من الارتباك وعدم اليقين مع عدم وجود أسس غير قابلة للتفاوض مثلما هو الحال لدى المؤمن بشيء غيبي؛ شيء أسمى وأكبر منه؟
يُجيب إيكو على السؤال الذي يُشكّل وجهًا من أوجه النقد لأسس الفكر العلماني لاسيّما لدى الفئة غير المؤمنة بإله، بأنه “عندما يدخل الآخر في المشهد تولد الأخلاق”، فكل قانون أخلاقي يُنظّم العلاقات الشخصية بما في ذلك العلاقة مع الآخر الذي يفرض القانون، وهو ما يعزز أهمية الاعتراف بدور الآخرين وضرورة أن نحترم ما فيهم من الموجبات التي لا نتصور أن نتنازل عنها لأنفسنا.
ينتقد إيكو ما أطلق عليه مارتيني الأسس المُطلقة، فهي غير قادرة على منع المؤمن من ارتكاب الخطأ والخطيئة رغم كل ما يمتلكه المؤمن من وعي بها، إذ أن إغراء الشر موجود حتى لدى الذي يتمتع بمفهوم ثابت عن الخير، وبالتالي فالأخلاق العلمانية يعترف بها حتى المؤمن، وهي نتاج الغريزة الطبيعية القائمة على نضوج عادل وعلى وعي ذاتي كاف لمنح ضمانات أساسية.
نهاية العالم
يتساءل إمبرتو إيكو في واحد من خطاباته عن ذلك الهوس الجديد بالحديث عن نهاية العالم، حالة الرُعب من النهاية والاحتفال بنهاية الأيديولوجيات والتضامن في دوامة نزعة استهلاكية لا مسؤولة. في ظل تلك الأوضاع، هل هناك مفهوم للأمل ولمسؤوليتنا إزاء المستقبل يمكن أن يكون مشتركا بين المؤمنين وغير المؤمنين؟ على ماذا يمكن أن يتأسس؟ وما هي الوظيفة النقدية التي تتبناها فكرة نهاية لا تنطوي على إهمال بالمستقبل وإنما بالدعوة المستمرة ضد أخطاء الماضي؟
يُجيب مارتيني على ذلك التساؤل بتوضيح أن أية كتابة عن نهاية العالم تحمل معنى طوباويًا كبيرًا واحتياطيا من الأمل لكنه يمشي جنبا إلى جنب مع استسلام مرير للحاضر، ويبقى الموضوع المهيمن على نصوص نهاية العالم هو الهروب من الزمن الحاضر والاحتماء بزمن مستقبلي من شأنه أن يخلق نظاما من القيم النهائية المتطابقة مع آمال وتوقعات مؤلف الكتاب، وهو ما يمكن أن نجد ما يشبهه في كتاب سفر الرؤيا، فقراءة الكتاب من منظور مسيحي لا تعود إسقاطا لإحباط الحاضر وإنما امتدادا لتجربة الامتلاء أي الخلاص فلا تستطيع أي قوة أن تعترض أمل المؤمن. ويضيف مارتيني: يُنظر في المسيحية إلى التاريخ بشكل أكثر وضوحا وكأنه خطوة نحو هدف يقع خارجا عنه وليس متأصلا فيه، فالتاريخ له معنى واتجاه وهو ليس تراكما لحقائق عبثية وغير مجدية، هذا المعنى يقوي الشعور بالأحداث الطارئة ولا يضعفها، ولكي تجعلنا فكرة النهاية متنبهين إلى المستقبل وإلى الماضي الذي نحن بحاجة إلى فهمه بشكل حاسم، من الضروري أن تكون غاية، وأن تمتلك طابع القيمة النهائية الحاسمة والقادرة على تسليط الضوء على جهود الحاضر وإضفاء معنى عليه.
حق الحياة
يطرح إيكو تساؤلات فلسفية متماسة مع الواقع حول من يملك حق سلب حياة الآخر؟ كيف يمكن الإقرار بحق الإجهاض ووأد حياة طفل على وشك التشكُّل؟ متى تبدأ الحياة الإنسانية؟ هل يوجد من غير المؤمنين من يمكنه التأكيد على أن كائنا ما ليس إنسانا إلا عندما تُقدِّمه الثقافة للإنسانية بعد أن تزوده بلغة وتفكير مفصلي إلى درجة أن قتل طفل حديث الولادة لا يعد جريمة؟
يعتبر إيكو تلك القضية واحدة من النقاط الحرجة، وهي في الآن ذاته دعوة إلى الاهتمام بالحياة في مواجهة التشريعات المتعلقة بالإجهاض، وعدم السماح للإنسان بأن يقتل نظيره أو يدمر ذاته فلا يمكننا السماح لأي كائن بأن يقطع مسيرة حياة قد بدأت، فولادة طفل شيء مثير للإعجاب ومعجزة طبيعية علينا قبولها.
ويشارك مارتيني إيكو في أفكاره حول حق الحياة لكنه يشير إلى أنه ثمة مشكلة أخلاقية وإنسانية تتعلق بانتهاك شرط المودة والاهتمام بالطفل والذي يولّد صراعًا في المجتمع، وهي مشكلة مدنية تتعلق بالسؤال عن الكيفية التي يمكن من خلالها مساعدة الأشخاص والمجتمع برمته لتجنب التمزقات، فالطفل كائن مثير للإعجاب ومعجزة علينا قبولها، وهناك مسؤولية تجاهه يجب العمل على تجنب انتهاكها بكل الأحوال لتحقيق قيمة الحياة الإنسانية.
المرأة والرجل
يتساءل إيكو في خطابه الأخير عن أسباب استبعاد المرأة من الكهنوت في المسيحية؟ هل لأن الكتاب المقدس كُتِب بطريقة التكيف مع سير الأحداث كي يتلاءم مع طبيعة الحضارة التي يخاطبها ومن ثم جاء تجسيد الأقنوم الثاني من الثالوث المقدس في هيئة رجل تماشيا مع طبيعة المكان والوقت؟ أليست هناك دلائل واضحة على أن المسيح أراد خلافا لقوانين زمانه أن يعطي توجيهات واضحة حول المساواة بين الجنسين على الأقل على مستوى الخلاص؟ ما الأسباب العقائدية التي تمنع النساء من ممارسة الكهنوت؟
يعرض إيكو أفكاره حول الحدود التي يظن أن له الحق كعلماني في أن يتخطاها لاسيّما إن تعلق الأمر بشؤون الكنيسة، مُبيّنا أنه عندما تقرر أي سلطة بغض النظر عن ديانتها قرارا حول القضايا المتعلقة بمبادئ الأخلاق الطبيعية يجب على العلمانيين الاعتراف بهذا القانون، فهم لا يملكون أي سبب للاعتراض على حق السلطة بالتصريح إذ أن العلمانيين اعتادوا أن يعترضوا في حالة واحدة فقط وهي أن هذه الديانة تسعى لفرض سلوكيات على غير المؤمنين أو يمتنعون عن سلوكيات أخرى تقرها الحكومة وديانتها. فإن كانت وجهة النظر الدينية تسعى دائما إلى اقتراح نمط حياة يُحتذى به، فإن وجهة النظر العلمانية ترى أن المثال المُحتذى به هو كل نمط حياة ناتج عن اختيار حر لا يصادر اختيار الآخر.
ويُبيّن مارتيني في رده على خطاب إيكو أن مفسري الكتب المقدسة الذين بحثوا في الإنجيل عن براهين إيجابية لكهنوت النساء، واجهوا صعوبات دائمة. فقد قدّم المسيح بالفعل بعض التوجيهات حول المساواة بين الجنسين وهذه أحد المعطيات الفعالة التي ينبغي أن تفيد منها الكنيسة، ورغم ذلك فالتطبيق العملي للكنيسة عميق الجذور في تقاليدها ولم يشهد استثناءات حقيقية خلال ألفي عام من التاريخ، وكثير من الأسباب المزعومة على مر العصور التي أوكلت الكهنوت إلى الرجال لم تعد قادرة على الصمود في وقتنا الحاضر، وبالتالي ينبغي تعزيز دور حضور النساء في مختلف المستويات الاجتماعية والكنسية ومن جهة أخرى فهْم طبيعة الكهنوت والمناصب المنظمة. تتمثل أهمية ذلك الكتاب وما يماثله من كُتب الحوارات المُتبادلة في التأكيد على إمكانية الحوار كبديل للصراع، وعلى إمكانية الوصول إلى أرضية فكرية مُشتركة رغم اختلاف المُنطلقات الفكرية للمتحاورين حال التزم الطرفان بضوابط الحوار البنّاء، وهو في الآن ذاته تأكيد على جوهرية دور المثقف في مناقشة قضايا عصره والكشف عن أوجه العلل سعيًا نحو إصلاحها أو تجاوزها.
Comments