يستخدم مصطلح الانزياح على نطاق واسع اليوم في الدراسات الأسلوبية والبلاغية والنقدية واللسانية العربية، مما يعكس قبولا ورضا بما يؤديه من قدرة على الوصف من جهة وما يمثله من مناسبة للثقافة العربية تراثا وحداثة، حيث تتسع محاولات التأصيل للمصطلح انطلاقا من مصادرة التناسب هذه.
ورغم ما أثاره المفهوم من جدل وما تولد عنه من اتجاهات أثرت الدراسات الغربية فإن جهد المثاقفة عند الدارس العربي لم يمتد إلى محاولة استيعاب ذلك الجدل الذي يعد توسيعا لأمداء المصطلح بما يهيئه ليشكل نظرية في تحديد ماهية الأسلوب.
في هذه الدراسة محاولة تصب في هذا الاتجاه وقد تعقبها أخرى تلقي الضوء على جهود التثاقف العربي في محاولته استثمار منظور الانزياح في تأسيس نظرية للأسلوب ومحاولة قراءة التراث الأدبي والنقدي العربي في ضوئه.
عناصر الموضوع:
1-في البلاغة الكلاسيكية
2-في الدراسات الحديثة
الاتجاهات البلاغية الجديدة
أ-الاتجاه اللساني البلاغي
ب-اتجاه الشعرية البلاغية
ج- اتجاه البلاغة والفلسفة
الاتجاهات الأسلوبية:
أ-الاتجاه الأسلوبي المثالي
ب-الاتجاه الأسلوبي البنيوي
ج-الاتجاه التوليدي التحويلي
د-الاتجاه الشكلاني
تعريف إشكالي:
رغم ما تعرض له مفهوم الانزياح من درس وتحليل فإنه لا يزال يرد في معاجم النقد واللغة مقترنا بما يثيره من إشكالات، ففي معجم اللسانيات يرد التعريف التالي للانزياح:
"1-حين نقارن بين حالتين للغة و نلاحظ في واحدة وجود عنصر في الموضع الذي يشغله في اللغة الأخرى عنصر آخر له معنى مكافئ فإننا نحدد انزياحا بين حالتين للغة، وهكذا يوجد انزياح بين الفرنسية القديمة rei (le roi) و الذي ينطق[rei ]و الفرنسية المعاصرة roi الذي ينطق [rwa]، هذا الانزياح سمح بتشكيل أقسام للتنوعات المنتظمة، ونستطيع كذلك تحديد انزياحات جغرافية أو اجتماعية.
2-حين نعرف معيارا، بمعنى استعمال عام للغة المشتركة لعموم المتكلمين، نسمي انزياحا كل فعل للقول يظهر منتهكا لواحدة من قواعد الاستعمال، الانزياح ينتج إذا عن قرار له قيمة جمالية، الانزياح في أسلوبية معينة يحلل على أنه فعل أسلوب"1.
وفي موسوعة علوم اللغة ورد المفهوم مرتبطا بتعريف الصور البلاغية و لذلك جاء متبوعا بالاعتراضات الموجهة إلى منظور القاعدة / الانزياح، فمما ورد في الموسوعة بهذا الخصوص:"يعتبر الأسلوب أحيانا بمثابة انحراف بالنسبة إلى معيار، ولكن لا يمكن القول بأن أسلوب فيكتور هوجو هو انحراف بالنسبة إلى معيار في عصره، أولا لأن اعتماد هذا المعيار يطرح مشكلات لا يمكن تخطيها ثم لأن ما يميز هوجو ليس بالضرورة ما يميزه عن الاستعمال المشترك"2.
هذان مثالان عن صعوبة الحسم في تحديد مفهوم المصطلح وتحديد مجاله سواء في الوصف اللساني أو الوصف الأدبي، وهذا ما يستدعي تتبع المنبت البلاغي للمصطلح ثم امتداداته الأسلوبية.
1-في البلاغة الكلاسيكية:
ارتبط مفهوم الانزياح عند الغربيين بالدراسات البلاغية، ومع أن البلاغة القديمة قد تم اختصارها في التعبيرية ELOCUTION) ( فقد عمل الفرنسيون على توسيع مداها تحت تأثير الفلسفة والنحو3.
ويعتبر دومارشيه (DU MARSAIS) وفونتانييه (FONTANIER) من أوائل البلاغيين الذين اهتموا بإحياء الدرس البلاغي في مجازه وصوره وعلاقتهما بمستويات اللغة، وفي حين ركز دومارشيه في دراساته على المعنى من حيث التعدد (la polysémie) والترادف (la synonymie) فإن فونتانييه اهتم بالمعنى من حيث علاقته بالحقيقة، يقول في تعريفه للمعنى الحقيقي : "يكون لفظ ما في معناه الحقيقي في كل المرات التي يكون ما يدل عليه ليس-خصوصا- مدلولا عليه من قبل أي لفظ أمكن استعماله في كل المرات، وتكون فيها دلالته أصيلة أولا و متعودا عليها و عادية لدرجة لا يمكننا اعتبارها ظرفية أو مجتلبة، و لكن ينظر إليها بالمقابل على أنها نوعا ما، إجبارية وضرورية "4.
فالمعنى الحقيقي هو المنبعث من اللفظ المعتاد والضروري والإجباري أما المعنى المجازي فهو الذي تحققه الصور التي " تبتعد عن الطريقة البسيطة، عن الطريقة العادية والمشتركة للكلام، في الاتجاه الذي نستطيع أن نستبدلها بشيء عادي و مشترك أكثر"5.
فالمعنيان الحقيقي والمجازي متقابلان و يعكسان مقابلة بين مستوى بسيط للكلام ومستوى يبتعد عنه باستمرار، وبهذا تحدد مجال الدرس البلاغي في المستوى المنزاح عن اللغة المشتركة ولكنه تحديد استند في تعريفه إلى مجهول.6
وسعيا إلى بيان هذا المجهول طرح البلاغيون –من وجهات نظر مختلفة- معايير عديدة للتفرقة بين الكلام البسيط والشائع أو الطبيعي وبين الكلام المجازي (figuré) وذلك في مستوى اللفظ فقط، إذ إن بحوثهم تنصب على المجازات والصور، وقد أجمل تودوروف هذه المعايير في أربعة ثنائيات:
1-منطقي/ لا منطقي:
فالكلام الطبيعي منطقي، أما الكلام المجازي فهو انزياح نحو اللامنطقية، و على هذا الأساس اعتبر طلب شيء هو بحوزة من يطلبه صورة، و كذا وصف شيء بتفاصيل كثيرة وأفكار فرعية مستوحاة من منبع واحد، وهذه الصورة يوازيها في البلاغة العربية الإطناب، فعدّ الإطناب صورة بالنسبة إلى الإيجاز الذي هو أيضا صورة بلاغية عند العرب، لكن البلاغيين الغربيين قابلوا الإطناب بالمنطق بينما قابل البلاغيون العرب الإطناب و الإيجاز كليهما بالمساواة أو المطابقة.
ومع ذلك فلدى الغربيين صورة الحذف و هي غير الإيجاز و عدوّه صورة لأن جملة ينقصها عنصر ليست منطقية، يتضح ذلك في هذا المثال المترجم حرفيا:
-"ماذا تريدون أن يفعل ضد ثلاثة؟"
-"أن يموت"
هذا الجواب غير منطقي، و التركيب الأساسي هو: "ما نريده هو : أن يموت"7
لكن البلاغة الكلاسيكية و تحت وطأة المعيارية أصبحت رهينة هذا المنطق، و عجزت عن مسايرة عبقرية اللغة حتى أن دومارشيه يقول:"لا يجب الاعتقاد بأنه يسمح بأخذ كلمة مكان أخرى سواء من خلال الكناية أو المجاز، يجب -مرة أخرى- أن تكون العبارات المجازية(figurées) قد أجازها الاستعمال، لو قلنا بأن جيشا بحريا متكون من مائة سارية أو مائة مجداف بدل مائة شراع من أجل مائة سفينة نكون مسخرة، كل جزء لا يؤخذ على أنه كل، و كل اسم جنس لا يؤخذ على أنه نوع معين، و لا اسم نوع على أنه جنس، إنه الاستعمال وحده الذي يعطي برغبته هذا الامتياز لكلمة دون أخرى"8.
2-شائع/ قليل الشيوع:
هذا المعيار يجعل من الكلام البسيط غير متضمن للصور النادرة، فعباراته شائعة ومشتركة ومألوفة، بينما يقابله الكلام المجازي حيث الصورة النادرة البعيدة، يقول فونتانييه: " نستطيع الإثبات بألف مثال بأن الصور الأكثر جرأة …تكف عن أن تكون منظورا إليها كصور حينما تصبح مشتركة معتادة"9 و لم يصمد هذا المعيار الهش إذ هاجمه دومارشيه بقوله: " إذا كانت الصور تبتعد كثيرا جدا عن الكلام العادي للناس، فإنه -عكس ذلك- تكون طرق الكلام دون صور هي التي تبتعد عنه إذا كان خطاب ليس فيه إلا عبارات غير مجازية ممكنا"10. الشيوع و الندرة ليسا معيارين صلبين، إذ ليست التعبيرات النادرة كلها صورا كما أن الصور ليست دائما نادرة و دومارشيه لا يعتبر وفرة الصور أو ندرتها معيارا صحيحا حتى أن الكلام دون صور هو النادر بينما الكلام العادي هو الحامل للصور عادة.
ولذلك عدل فونتانييه عن هذا المعيار إلى آخر يعتد بالكثرة النسبية، وهو وجود عبارات ذات صور أقل شيوعا من عبارات لها نفس المعنى، فالكلام المجازي يفارق الكلام الطبيعي من خلال عبارات أقل شيوعا من عبارات لها نفس معناها في الكلام الطبيعي.
ومثال ذلك: الرجل الكريم يوصف بـ:"أخو حاتم" و بـ:"ريح مرسلة" فالعبارتان كلتاهما مجازيتان ولكن وجود الأولى في كلام لا يعني أنه مجازي لأن الصورة شائعة بينما العبارة الثانية الأقل شيوعا بالنسبة إلى الأولى فتدل على أن الكلام الواردة فيه مجازي.
3-القابلية للوصف/ عدم القابلية للوصف:
هذا المعيار وضعه دومارشيه وعلق عليه بالقول: " طرق الكلام التي لم يلاحظوا-النحويون والبلاغيون- خصائص أخرى غير معرفة الفكرة تسمى جملا أو عبارات أو أدوارا (périodes) ولكن التي تعبر ليس فقط عن الأفكار ولكنها أفكار ملفوظة بطريقة خاصة تعطيها صفة خاصة بها هذه الأخيرة تسمى صورا"11.
فالخطاب الذي يعرض أفكاره من غير صور هو خطاب غير مرئي وشفاف وغير موجود فيصبح مستحيل الوصف وهو مستوى الكلام العادي والمشترك، بينما الخطاب المجازي هو خطاب يعرض أفكارا في صور مخصوصة كرسوم فوق تلك الشفافية مما يجعل هذا الخطاب مرئيا وموجودا وبالتالي قابلا للوصف " إن وجود الصور يعادل وجود الخطاب" 12، فالخطاب يصبح من خلال البلاغة موجودا بينما ينطمس حين يكون إبلاغيا يوصل أفكاره فقط.
رغم أن هذه النظرة تبرز الصور مثل لباس مضاف إلى الخطاب و زينة فوقية –كما هي الحال عند البلاغيين العرب- فإن الشعرية الحديثة أفادت من هذا التصور كثيرا في تحديدها للخطاب الأدبي من خلال ثنائية الثخونة (opacité)/ الشفافية (transparence) وهو ما يبرزه تودوروف بالتفرقة بين الخطاب الشفاف الذي لا يهدف إلا ليكون مسموعا والخطاب الثخن الذي يكون مغلفا بصور تجعله مدركا في ذاته لا يحيل إلى أي شيء خارجه فهو مكتف بذاته و"كل الملفوظات اللغوية تتموقع في فضاء ما بين القطبين مقتربة بقليل أو كثير نحو هذا أو ذاك"13.
4-حيادي/ قيمي:
يجب التفرقة من خلال هذا المعيار بين ما هو واصف وحيادي و بين ما هو محدِّد، وعلى هذا الأساس تكون الصورة محددة غير حيادية، تأتي بامتيازات و بخواص إيجابية للخطاب كتجسيد للمجرد، و تحقيقا للتناغم بين التعبير والفكر، و هذا الاشتراط هو ما دفع البلاغيين إلى التمييز بين استعمال يشوه الخطاب و آخر يحسنه فيما أطلقوا عليه الصورة والخطأ، مع أن كليهما يمثل الوجه المقابل للتعبير الصحيح و المعياري. فالصورة هي –على هذا الأساس- خرق لقاعدة، و مجال هذا الخرق هو بين اللانحوية و اللامقبول في لغة ما، يعلق فونتانييه قائلا: "عبقرية اللغة .. تسمح أحيانا بالانزياح عن الاستعمال العادي أو بتعبير أفضل تسمح و تقر استعمالا ليس هو الاستعمال المشترك والمعتاد، وإن لم تجز أبدا فوضى حقيقية، تستطيع على الأقل إجازة نوع من التغيير في الانتظام، انتظام أو تسوية جديدة و جد خاصة "14.
لكن هذه المعايير التي وضعت لتمييز الكلام المجازي عن الطبيعي هل هي صالحة بالنسبة للكلام الشعري؟ و بتعبير آخر-كما يتساءل تودوروف- هل يتماثل الكلام الشعري مع الكلام المجازي؟ و إن كان الجواب سلبيا فما العلاقة بينهما؟
أجاب البلاغيون بالنفي15، لأن التجربة أثبتت وجود شعر بلا صور، كما توجد صور أو كلام مجازي خارج الشعر و على حد قول فونتانييه:"صور الخطاب ألا تنتمي إلى كل أجناس الكتابة؟ ألا تنتمي إلى الشعر مثل الخطابة، و إلى الأسلوب الأكثر اشتراكا كما إلى الأسلوب الأرفع، يفهم من ذلك أن المجاز ليس قاصرا على الشعر و أن الشعر لا يعني المجاز أو الكلام الصوري(figuré) "16.
أما السؤال الآخر الخاص بالعلاقة بين الكلام المجازي و الشعر فلم يجب عنه البلاغيون ولكن التقسيم الذي أجراه رادون فيلييه (RADON VILLIERS) يتضمن إجابة ضمنية حين جعل الصور المجازية قسمين17: صور الاستعمال و تكون معجما مشتركا بين الكلام المجازي والكلام الشعري (وهي مجازات اللغة) و مجازات الابتكار أو مجازات الكاتب و تمثل الابتكار الفردي، فتقاطع المستويين يكون في مجازات اللغة بينما تبقى صور الابتكار خاصة و فردية ينصح فونتانييه بعدم استعمالها، و يرى فوق ذلك –مثل بلاغيي عصره- أن مجازات اللغة مقننة فلا يمكن استعمال أي صورة في أي غرض بل يجب احترام التفرقة العرفية لدرجات الأسلوب واختلاف الأجناس الأدبية وكذا اختلاف المواضيع، إذ لكل موضوع معجمه الخاص به.
ولكن تودوروف يرى أن الإجابة لا تزال غائبة، خاصة و أن الملاحظ هو ظهور الكلام المجازي في الشعر- عادة- بقدر أكبر، و كذا عن التشابه و الاختلاف بين الكلام المجازي و الكلام الأدبي ويحاول بناء على وجود هذه الثغرة أن يقدم تصوره للصورة والخطاب الأدبي من الناحية الوظيفية والإحالية (fonction et référence)، فالصورة هي الثخانة و وظيفتها هي إبراز الخطاب ذاته و ليس دلالته، و الكلام الأدبي يهدف إلى جعل الأشياء الموصوفة حاضرة و لا يبرز ذاته، فتودوروف يفرق بين ثلاث مقولات18: الخطاب الشفاف والخطاب الثخن و اللغة الأدبية، فالخطاب الشفاف –حيث تغيب الصور- تحضر فيه الأشياء التي يتكلم عنها، أما الخطاب الثخن فهو الذي يجسد الحضور المادي للكلمات من خلال حضور الصور، و اللغة الأدبية ميزتها غياب الأشياء و تصبح الكلمات بلا مرجعية خارجية ( على عكس الشفاف حيث حضور الأشياء، والثخن حيث حضور الكلمات) ولكن تكتسب إحالة متخيلة:
-فالخطاب الشفاف (المشترك) توجد فيه إحالة واحدة في التلفظ (حال النطق) و في الملفوظ (بعد النطق).
-أما الخطاب الأدبي (الشعري مثلا) فإن الإشارة إلى المرجع (في حال التلفظ) و أدوات الإحالة (في الملفوظ) معزولتان و القارئ هو الذي يثير الثانية (أي الإحالة في الملفوظ).
وبفعل هذه الإحالة المتميزة يكون موقف قارئ الأدب متميزا حسب بلانشو(BLANCHOT): "معنى الكلمات يعاني نقصا أساسيا وبدل رفض كل إحالة مجسدة إلى ما تعنيه مثلما هو في العلاقات المعتادة، يتجه إلى طلب التحقق، إلى إثارة شيء أو معرفة محددة تؤكد محتواه"19، فالخطاب الأدبي إذا يعوض غياب المرجع –الحاضر في الخطاب المشترك الشفاف- بالإحالة التخييلية و بالتالي يستبدل المعنى المجرد (في حال الملفوظ) بمعنى مثار.
من هذه التفرقة النظرية يخلص تودوروف إلى ثنائيتين متقابلتين:
-كلام مجازي يقابل الشفاف ليجعل الكلمات حاضرة
-كلام أدبي يقابل المشترك ليجعل الأشياء غائبة من خلال إحالة متخيلة حيث المشترك يميل إلى التجريد.
فوجود خصم مشترك يعني قرابة الكلام المجازي و الكلام الأدبي.
إن الأدب من خلال الصور يحاول محو المعنى النقي (pur) الذي أخذته الكلمة في الاستعمال اليومي (محو الدلالة المجردة) و مع ذلك فإنه يرى أن هذا الفصل يبقى هشا ليعكس العلاقات المتداخلة بين الأدب والكلام.20
هذه الأفكار و إن كانت منصبة في البلاغة القديمة على اللفظ باعتباره صورة، إلا أنها لفتات مهمة في دراسة النص، و لذلك بقيت معايير صالحة أعاد البلاغيون الجدد إليها الحياة مع استغلال المقولات والإجراءات اللسانية، مما أمكن معه دراسة مستويات النص: صوتيا ومعجميا وتركيبيا ودلاليا واستغلال المنظور البنيوي من خلال مفاهيم السياق والتضافر والتوازي والمزاوجات (couplages) وغيرها من المقولات التي نقلت مفهوم الانزياح من مستوى اللفظ-الصورة إلى مستوى النص المنزاح كليا.
2-في الدراسات الحديثة:
حين يكون الحديث عن الشكلانية أو الأسلوبية أو النقد الجديد كمنطلقات لدراسة اللغة الأدبية فينبغي ألا ينسى أن أصحاب هذه الاتجاهات كانوا يتحركون داخل نماذج موروثة ولعل أكثرها تأثيرا هو نموذج البلاغة21.
ذلك أن البلاغة كانت هي علم الخطاب الشفهي، نظرا للوظيفة الاجتماعية التي كان يؤديها الخطباء في الديمقراطية اليونانية، ولكنها تراجعت لتصبح علم تحسين لغوي، فبعد أن كانت علما للنص أصبحت علما للكلمة، بل إن المتأخرين لم يروا فيها إلا قائمة من الوسائل التزيينية، و مع ذلك فقد اتضح كيف أن هذه البلاغة قدمت الأساس الذي ميز اللغة الأدبية عن اللغة العادية من خلال الصورة كأداة، وزيادة على ذلك فإن البلاغة قبل انحسارها –حين كانت علما للخطاب- وفرت أسسا هامة من خلال تناولها لثقافة المرسل (الخطيب) و موقف المتلقي أو السامع(الإقناع)، و هي بهذا التناول للخطاب والمرسل و المتلقي قدمت أفقا لما تصبو إليه الدراسات الأدبية المعاصرة كالتداولية مما يعيد البلاغة إلى الميدان بكل أبعادها.
إن البلاغة الكلاسيكية –ذات الجهد التصنيفي- تمد الدراسات المنصبة على اللغة الأدبية بآليات متنوعة لمعالجة المستويات المختلفة، كما توفر المنظور لرؤية ما هو أدبي و فهمه وفق نموذج موروث مبني على أساسين:
-وصف اللغة الأدبية من داخل اللغة نفسها، فقد طرحت البلاغة فكرة مقابلة اللغة الأدبية باللغة العادية البسيطة حيث تشتركان في القاعدة النحوية و الصرفية و تفترقان من خلال عمليات تعديل ذي غاية جمالية (زيادة، حذف، تحويل).
-طرح مسألة الانزياح كنتيجة لمقابلة اللغة البلاغية باللغة العادية (القاعدية أو النمطية) فمن نموذج الصورة اللفظي انسحب مفهوم الانزياح ليسم اللغة الأدبية بالابتعاد عن القاعدة المعيار(المشتركة) وقدمت البلاغة بعض أدواته انطلاقا من مقابلة الكلام المجازي بالكلام البسيط (الطبيعي).
هذا المنظور سيشكل القاسم المشترك لكثير من نظريات الشعر العاصرة، وسيتبين بتناولها مفهوم الانزياح لديها، و أثر الأسس البلاغية فيها و الأهم من ذلك أن مفهوم الانزياح هو الواسطة التي شدت البلاغة الكلاسيكية إلى النظريات الحديثة و المعاصرة ثم لعله من أهم العوامل في بعثها الحالي من خلال البلاغة الجديدة و نظريات علم النص.
والبداية تكون باتجاهات حافظت على النزعة البلاغية و بحوثها وهي:
-الاتجاه اللساني البلاغي، و يمثله مولينو و تامين (JEAN MOLINO et JOELLE GARDES TAMINE) في كتابهما "المدخل إلى تحليل الشعر" 22(Introduction à l’analyse de la poésie)
-اتجاه الشعرية البلاغية و يمثله جون كوهن (JEAN COHEN) خاصة من خلال مؤلفه "بنية اللغة الشعرية"23(Structure du langage poétique)
-اتجاه البلاغة و الفلسفة، و يمثله بول ريكور (PAUL RICOEUR) من خلال كتابه "الاستعارة الحية" 24(La métaphore vive).
الاتجاهات البلاغية الجديدة:
أ-الاتجاه اللساني البلاغي:
ينطلق المدخل من التمييز بين لغة الشعر و اللغة الجارية (Langage Courant / langage poétique) و هذا التمييز ينبني على مصادرة نشوئية ترى أن الشعر "ينشأ من تطبيق الإيقاع على الكلام"25 مما يعني "أن الشعر لا يختلط بالكلام و لا يتعايش مع الكلام و ليس مظهرا أو وظيفة خاصة للكلام .. إنه الكلام مضافا إليه شيء آخر ليس لسانيا بالضرورة ..إن الشعر ليس بناء، إنه ثمرة بناء"26 كما ينبني هذا التمييز على الترميز، فالصور المختلفة تدفع الانزياح عن اللغة الجارية إلى الذروة بهدف تشكيل عالم مواز للعالم الحقيقي، عالم ناشئ عن كلام ثان يضاعف الكلام المشترك27. و خارج الإلزام الوزني و الإيقاعي تتميز لغة الشعر عن اللغة الجارية بمعجمها خاصة و-جزئيا- بصيغها و تراكيبها28.
من هذا التمييز ينشأ تصور خاص للأسلوب باعتباره نتيجة اختيار و إقصاءات بين أساليب ممكنة مختلفة، هذا الاختيار الواعي بقيمة الكلمات هو سمة مميزة للشعر عن غيره.
وحافظ المدخل –كما فعلت البلاغة القديمة- على تراتب الأساليب حتى عدّ الشعراء فئة خاصة لها لغتها (في نظرة إلى تعدد اللغات في الأمة الواحدة) ، من هنا يتدرج الأسلوب من كونه نظاما للتعبير يكرسه المجتمع إلى طريقة خاصة للتعبير إلى كونه مجموعة خصائص لشاعر معين كالمفردات و الصور البلاغية التي يستعملها .
و في تناوله للانزياح ينطلق التعريف من الدرس البلاغي القديم "في البلاغة الانزياح مزدوج يقاس من جانب إلى البساطة و من جانب آخر بالنسبة إلى النمط المحايد للتعبير"29، فمن منظور بلاغي يتحدد الانزياح إلى معيار ثابت لا يجوز المساس به و من منظور تكويني ينظر إليه على أنه مسافة أو قطع في الزمان إزاء معيار تكويني تنشأ عنه الغرابة و البداهة و الابتكار، كما يتم تحديده بالنسبة إلى السياق المباشر المتصل به فيعطي الجسارة اللغوية أو الأثر الأسلوبي بإحداثه الانقطاع في نسيج الخطاب، فيتفرع الانزياح إلى:
-انزياح سكوني: باعتباره بعدا عن التعبير المشترك
-انزياح حركي: باعتباره قفزة إلى المبادهة
-انزياح سياقي: باعتباره شذوذا دلاليا30
إن الأثر البلاغي واضح في المدخل خاصة من خلال عمليات التبديل الأربعة: الإضافة والحذف والتبديل في الترتيب و التحوير (إضافة+حذف) و الثلاثة الأولى تتماشى و عمليات التأليف في مستوى التركيب"إن البلاغة بذلك كله هي بمثابة مخبر طبيعي، يضع تحت تصرف العالم الألسني ظواهر و عمليات تساعده في بحثه الخاص لأنها على صلة وثيقة بالظواهر و العمليات التي يستعملها"31
يدرس المدخل من منظور الانزياح : صور البناء و فيها:
*انزياح بلاغي:
-الإيجاز بالحذف(Ellipse)
-حذف كلمات مستخدمة سابقا (Zeugme)
-فصل الجمل (حذف أدوات الربط) (Asyndète)
*انزياح شعري:
-الدمج أو الإدغام (Insertion)
-المحو أو الإضمار(Effacement) -التبديل أو التغيير(Permutation)
صور الأسلوب وفيها:
*صيغ الخطاب: فالكلام إما و صفي يصف العالم كما هو حقيقة: التقرير (Assertion)
أو تأثري يقدم العالم من خلال الذات (Interrogation .Ordre… )
*أفعال الكلام: الطلب و الاحتجاج و الأسف(Demander, Se Plaindre)
صور الألفاظ وفيها:
-المجاز و الكناية (Synecdoque et métonymie)
-الاستعارة (métaphore)
-استعارة-تشبيه(Métaphore-Comparaison)
-استعارة-صورة(Métaphore-Image)32
إن الانزياح يمر بمرحلتين كي يحقق تحرره، الأولى تحرر من القيود المفروضة على اللغة كيفما كانت ثم مرحلة خلخلة المعاني "إن الشاعر حين يخرق تلك القواعد التي فرضت عليه، فإنه يكون على وعي بذلك، إنه لا يكتب أي شيء، إنه خبير و مبدع للغة، يعيد إنتاجها كما يعيد بناء القواعد، لأن تلك الانزياحات إذا ما تأصلت تصير قواعد"33.
ب-اتجاه الشعرية البلاغية: الكلام الجاري عند كوهن هو النثر، و الشعر ابتعاد عنه، مع أن هذه المقابلة لا تعرف الشعر و لكن "تقول لنا ما ليس هو"34.
ولترسيم هذه المسافة يرى كوهن أن الشعر يحلل في مستويين، يتميز فيهما عن النثر و هما:
-المستوى الصوتي، وفيه خصائص مميزة للشعر وهي مشفرة وتظهر للوهلة الأولى (النظم/Versification).
-المستوى الدلالي، و فيها محاولة للتشفير عن طريق البلاغة، غير أن المستوى الصوتي ملزم والبلاغي اختياري.
لا يبحث كوهن في الشعر عن صور البلاغة بل عن شكل الأشكال، عن ثابت يمكن بواسطته وصف الابتعاد التكويني للشعر عن النثر، "عن البنية المشتركة بين الصور المختلفة"35 التي تصنع هذا الخرق للغة الشائعة ويطلق عليه مصطلح الانزياح لذلك يتساءل "ما هو النظم -بالفعل- إن لم يكن انزياحا مقننا، قانونا للانحراف بالنسبة إلى معيار صوتي للكلام المألوف؟.. و كذا على المستوى الدلالي، يوجد قانون للانحراف ليس بنفس الطريقة"36.
وعندما يطرح كوهن النثر معيارا يقاس الانزياح عليه، لا يعني خلوه من انزياحات، إن الفارق نسبي، و لذلك أخذ النثر العلمي لأنه الأقل عناية بالهدف الجمالي و بالتالي يؤول الانزياح فيه إلى الصفر37(tend vers zéro).
ومن منظور مخالف تماما لمنظور مولينو و تامين يفرق كوهن بين الشعر و النظم، فبعد أن فرق بين النثر والشعر من خلال مستويي الصوت و الدلالة، تناول النظم حين يضاف إلى النثر فيشكل كلاما منظوما ولا يشكل شعرا، "فالموسيقى حين تضاف إلى النثر لا تغير في بنيته"38 بينما النظم في الشعر مرتبط بالدلالة، إنه داخل في بنية الشعر، فالقافية مثلا ليست مجرد تشابه صوتي لأنها مرتبطة بالدلالة "فالنظم ليس شيئا مستقلا عن الشعر يضاف إليه من خارج إلى المحتوى. إنه جزء من مسار الدلالة و لا يتعلق -بهذا الاعتبار-بالموسيقى ولكن باللسانيات"39.
وبعملية الترجمة يحسم كوهن الفرق الأساسي الذي يبني عليه رؤيته لبنية اللغة الشعرية ويطرح التساؤل الجوهري عن قابلية النثر للترجمة و استحالتها في الشعر40، وبحثا عن الإجابة يعود إلى التقسيم الذي وضعه يالمسليف بين شكل المحتوى ومادته وشكل التعبير ومادته، فيلاحظ أن الترجمة تنصب على مادة المحتوى وتهمل شكله، وينقل كوهن عن نيدا قوله:"الترجمة تتمثل في إنتاج –داخل لغة الوصول- المكافئ الطبيعي الأكثر قربا من رسالة لغة الانطلاق أولا من حيث الدلالة ثم من حيث الأسلوب فمادة المحتوى هي الدلالة والشكل هو الأسلوب، يمكن لهذه الترجمة الدقيقة أن تتم على مستوى النثر العلمي حيث لغة الانطلاق و لغة الوصول كلتاهما نثر و الأسلوب في درجة الصفر وبالتحديد لأن التعبير(شكل المحتوى) خارج عن المحتوى"41، فالتعبير إذا-يعلق كوهن- يعطي شكلا أو بنية خاصة، يصعب أو يستحيل إعادتها بطريقة أخرى، مع أنه يمكن –من الشعر- أن نحتفظ بالمعنى (في مادته) و لكننا نفقد الشكل و معه الشعر42.
في دراسته لمستويات البنية الشعرية تتبع كوهن ظاهرة الانزياح وحاول أن يثبت أنها تتم بطريقة منهجية ثابتة فيها جميعا مما يجعله خاصية الشعر بامتياز، وانقسمت الدراسة إلى قسمين: الصوت و الدلالة
*في المستوى الصوتي:
القاعدة هي التوازي بين الوقف الوزني و الوقف الدلالي، فينتهي الوزن حيث تنتهي الجملة، فهو تواز بين الصوت والمعنى، و الجملة تعّرف من خلال المستويين الصوتي و الدلالي "بأنها تمتلك معنى كاملا و محصورة بين وقفتين(DEUX PAUSES)"43.
في النثر يكون الالتزام تاما بهذه الازدواجية، فيكون الوقف حيث يتم المعنى، أما في الشعر فيتم خرق هذا التوازي ويتوقف تطبيق التعريف السابق للجملة ويتم الانزياح في هذا المستوى منهجيا بوسائل مختلفة:
-القافية: حيث تماثل الصوت لا يعني تماثل المعنى خلاف القاعدة المقررة.
-الجناس: يحتفي به الشعر لتعتيم الرسالة حيث يسعى الشعر إلى التقريب و المشاكلة بين ألفاظه بينما ينبني النثر على رعاية القيم الخلافية لممارسة وظيفته الإبلاغية.
-السجع: و له الدور نفسه على مستوى الألفاظ ما للقافية على مستوى الأبيات.
مما يبين أن الكلام الجاري –كما يستنتج كوهن- يقوم بوظيفته من خلال تمييز أقصى، أما الشعر فيقوم بـ ضد-التمييز"فالصوت الذي لا يشتغل داخل اللغة إلا كخط فارق، يشتغل داخل الشعر في اتجاه معاكس تماما"44.
-الوزن و الإيقاع: و يهدفان معا إلى تحقيق التجانس و تكثيف التشابهات في مقابل التباينات الدلالية، فبينما يتجه النثر إلى تفادي هذا التماثل بالتنويع في الجمل صيغا و تراكيب، يتجه الشعر نحو قطب التشابهات، و لكن دون أن يدرك –كما يصر كوهن على توكيده- كلاهما غرضه، فلا النثر يصل إلى التباينات الشاملة، و لا الشعر إلى التشابه الكامل ومن هنا لا يكون الشعر مختلفا عن النثر (non-prose) و لكنه يقابل النثر (anti-prose).
إن الشعر متوالية من التشابهات الصوتية المتعالقة مع خط التباينات الدلالية، فالصوت في الشعر عامل غموض و لبس (ambiguïté) يهدف إلى إعاقة اشتغال الأداة اللسانية "و كأنه أراد أن يكون مختلطا ما كان يجب أن يكون مميزا"45.
هذه الأدوات لا تمنع الشعر من أداء وظيفته الاتصالية، لأن الشاعر يريد أن يُفهم ولكن بطريقة خاصة مفارقة للفهم الواضح الذي للرسالة العادية وبقاء هذه الوظيفة معناه أن الشعر كما يتضمن الدورية التي تضمنها التشابهات الصوتية يتضمن الخطية التي تضمنها المفهومية الدلالية(Intelligibilité) - "فالرسالة الشعرية هي في الوقت نفسه شعر و نثر"46.
*في المستوى الدلالي:
من خلال الإسناد و التحديد و الوصل، يحاول كوهن ضبط الانزياح عن القواعد التي تحكم هذه العمليات التركيبية و النتائج المترتبة عن الظاهرة.
-الإسناد: و هو عملية التركيب داخل الجملة، و تحكمها ضوابط تتدرج من الفونيم إلى الألفاظ إلى الجمل ثم الربط بين الجمل، حيث تتنامى حرية التركيب متوازية مع هذا التدرج، غير أن هذه الحرية مشروطة بالمفهومية في تكوين العلاقات بين المدلولات (شكل المحتوى) و النحو هو الذي يضبط قواعد هذا التأليف ويصنف أقسام الكلام بما يسمح بمعرفة ما يأتلف منها و ما لا يأتلف.
والقاعدة المرعية في عملية الإسناد هي أن كل متتالية متفقة مع النموذج المسموح به نحويا هي من حيث الشكل صحيحة، ولكن شرط المفهومية الذي طرحه كوهن أو اختبار الصدق كما طرحه جاكبسون وضع قاعدة تبعية هي الملاءمة:حين يكون المسند أحد المحمولات الممكنة للمسند إليه أو الموضوع، ونقيضه عدم الملاءمة: حين يكون المسند ليس محمولا ممكنا للموضوع.
وكما طرح تشومسكي مفهوم درجات الصحة النحوية قاعدة للتركيب بين الدوال، طرح كوهن مفهوم درجات الملاءمة و منه أن جملة تخترق قاعدة عامة جدا هي "أقل نحوية من جملة تخترق قاعدة أكثر خصوصية"47، ويريد كوهن القول بأن الشعر أقل نحوية من النثر، إذ الأخير يراعي الدرجة الأكثر خصوصية للنحوية التي تمثلها الملاءمة الدلالية، ولكي يمارس الشعر هذا الانزياح يخرق قانون الملاءمة و يؤلف بين وحدات متنافرة، وهنا يطرح كوهن مفهومه الهام "تقليص الانزياح" وجها آخر إيجابيا لعملية الانزياح، فعدم الملاءمة مرحلة أولى فقط للخرق و هو انزياح عن قراءة حرفية للمتتالية، و يكون تقليص الانزياح بتغيير المعنى أي بانزياح ثان بواسطة الاستعارة التي هي عنده عملية ثابتة مع كل انزياح ليتحقق بها تقليصه.
و العمليتان متكاملتان بحدوثهما على محورين متقابلين، إذ يحدث عدم الملاءمة على محور التركيب (Axe Syntagmatique)بينما يكون تقليص الانزياح –أي الاستعارة- على محور الاستبدال(Axe Paradigmatique) وهذا التغيير في المعنى مرتبط بعلاقة التشابه في الاستعارة والمجاورة في الكناية و علاقة الجزء بالكل في المجاز48.
ويرى كوهن أن عدم الملاءمة له درجات –كما سبقت الإشارة- اعتبارا من قابلية المدلول للتجزئة على غرار الدال، فيمكن بالتالي تحليله إلى مجموعة من المقومات هي المعانم ( Les sèmes) و يمكن تتبع عدم الملاءمة في هذه المستويات الدنيا فتكون بالسمات المميزة (Les Traits) و ينتج عن هذا التصور ما أسماه كوهن "انزياحا من الدرجة الأولى "49 مثل الوصف بالألوان.
-التحديد: القاعدة في هذا المستوى أن تؤدي المحددات دورها: النعت، الإشارة، الزمان والمكان، أسماء الأعلام، الأفعال، ولا يكون هذا إلا بتحديد النوع داخل الجنس، فيتحدد امتداد النعت مثلا فلا يكون إلا على جزء من الاسم، فإذا امتد النعت على الاسم كله يكون هناك تكرار (Redondance) لا يضيف معرفة جديدة50، فالنعت الذي لا يحدد، يحقق عدم الملاءمة –أي الانزياح- ويكون تكراريا، فالتكرار إذا هو انزياح في الشعر في حين يتفاداه النثر باعتباره من عوامل الالتباس.
ولتقليص هذا الانزياح يتم اللجوء إلى تغيير المعنى (الاستعارة) أو تغيير الوظيفة من نعت إلى لاصقة (Apposition) من خلال توقيع وقفة بين الاسم و النعت فيصبح إسناديا كما في المثال:
-Pierre malade ne ve
- Pierre, maladut pas venir
إلىe, ne veut pas venir
في لغة الشعر تتوقف أدوات التحديد على ما يبدو عن أداء وظيفتها فضمائر الإشارة مثلا تعين ولا تعين في آن واحد، و محددات الزمان و المكان تتوقف عن أداء دورها و السياق هو الذي يعطي المعلومة اللازمة، إن هذه الأدوات "من خلال استعمالها من قبل الشاعر تنعكس وظيفتها وتصبح وظيفة عدم التحديد"51 و الأمر ذاته ينطبق على الأفعال: ففي الملفوظ يؤرخ للزمن من خلال المقام (La situation) وفي المكتوب فإن السياق هو الذي يؤدي هذا الدور، أما الشعر فغير مؤرخ، كما لا تدل أسماء الأعلام على أشخاصها52.
-الوصل:الانتقال من الجملة إلى الملفوظ يتم من خلال الربط، و القاعدة هنا هي تحقيق التجانس النحوي و الدلالي، فالربط له ضوابط نحوية مقررة "لا يوجد ربط إلا بشرط أن تؤدي التعابير المتتالية إلى تشكيل مجموعة، كلّ، وحدة فكرة"53، يقول شارل بالي:" لا يكون الربط حتى تكون الجملة التالية مسندا نفسيا للسابقة "54، و يسمي كوهن هذا التماسك بالوحدة العاطفية الكامنة خلف عدم الملاءمة، ويكون الانزياح في الربط بالجمع بين أفكار غير متلائمة، و تتناسب درجاته مع درجات تغاير المعطيات (Hétérogénéité)، و يكون تقليص الانزياح بالبحث في عدم الملاءمة ذاته، فتغيير أحد المعطيات يعيد المتتالية إلى معيارها55 فـ" التشعير (La Poétisation) مسار له وجهان متلازمان و متناوبان، انزياح و تقليص للانزياح، تفكيك و إعادة بناء، لكي يشتغل الشعر شعريا يجب أن تكون الدلالة في وعي القارئ –في الوقت نفسه- قد فقدت ثم وجدت"56 وهذا الذهاب و الإياب من المعنى إلى اللامعنى، ثم من اللامعنى إلى المعنى هو الإجراء المشترك للصور الثلاثة هذه57.
نظام الكلمات:
إن النحوية هي الضامنة لدلالة الجملة، و هو ما أسماه جاكبسون "شعر النحو"، و مهما تكن مفهومية الجملة فإن نحويتها تضمن لها طبقة أولى من المعنى58، غير أن الشعر يخرق هذا النظام من خلال قلب الترتيب، ففي حين يتجه النثر إلى تجميع عناصر البناء يسعى الشعر من خلال صور النحو إلى الفصل بينها.
تظهر المستويات المدروسة أن الإجراءات التي تحدث فيها تهدف إلى وظيفة واحدة هي تعتيم الخطاب، و لكن هذا المنظور السلبي يتداركه كوهن من خلال مفهوم تقليص الانزياح و اعتباره الجانب الإيجابي في العملية (والوصف غير معياري)، إنه هدم و إعادة بناء.
ولكن السؤال المهم الذي طرحه كوهن في أول دراسته و هو هل الشعر انزياح؟ يجد بعض إجابته الآن، فكما سبق بيانه في الترجمة، يكفي إزالة الانزياح أو إعادة العبارة إلى معيارها حتى يختفي الشعر، و لكنه يرى من ناحية أخرى، أنه ليس كل انزياح عن قانون هو كتابة للشعر"الأسلوب خطأ، و لكن ليس كل خطأ أسلوبا"59.
-الإحالة و المرجعية:
حين فرق أوجدن و ريتشاردز بين المرجع (الشيء المحال عليه) و بين الإحالة (الحالة الذهنية التي يضبط بها الشيء) استبقى اللسانيون مفهوم الإحالة ليرادف المعنى، بينما وضع كوهن الإحالة معيارا آخر للتفرقة بين الشعر و النثر"فهما متماثلان بالنسبة للمرجع و لكنهما مختلفان بالنسبة للإحالة"60.
وأساس هذا الاختلاف في الإحالة نفسي، ذلك أن التعيين و الإيحاء لهما نفس المرجع، ولكن التعيين له وظيفة فكرية معرفية (Cognitive) بينما الإيحاء له وظيفة عاطفية (Affective) ويصدران عن عبارتين مختلفتين للشيء الواحد، فالشعر إيحائي و النثر تعييني. لكن هذا الفصل ليس مطلقا، ينقل كوهن عن فاليري (Paul Valéry): "أثران للتعبير بالكلام: نقل واقعة وإنتاج إحساس، الشعر تسوية أو نوع من النسبة لهاتين الوظيفتين"61.
إن الأساس النفسي هو الذي يقيم عليه كوهن وعي الشاعر بالعالم، فالكلام الشعري "يرتكز على التجربة الداخلية حيث الحساسية الداخلية هي التي تجمع التشابهات والتقابلات"62، و من هنا فإن العملية التفسيرية في الشعر ذاتية من خلال البحث عن الملاءمة الكامنة وراء التباينات، بينما في النثر تكون الملاءمة عقلية منطقية63.
إن النظم يعتم وظيفة التعيين التي للنثر، وتنمو بالمقابل وظيفة الإيحاء، إذ لا تحيين للمعنى الكامن (الإيحائي) إلا بتجاوز التعيين كما يوضحه كوهن من خلال الشكل التالي64 الذي يبرز عمل القافية في تلبيس المعنى بين سطرين شعريين هما:
Mon enfant, ma sœur
Songe à la douleur.
1- Sa1 = Sa2
2- Sd1 ≠ Sd2
3- Sc1 = Sc2
كسر التوازي بين 1 و 2 و عثر عليه بين 1 و 3، إن التعيين d (Dénotation) كسر التوازي ولكن الإيحاء c (Connotation) أوجده حيث أنه لم يتم التحيين a (Actualisation) للإيحاء إلا على حساب التعيين.
إن الدلالة الذاتية (الإيحاء) و الدلالة الموضوعية (التعيين) تزيح إحداهما الأخرى و لا يمكنهما اللقاء معا في الشعر، لأن دالا واحدا لا يمكنه استدعاء مدلولين يقصي أحدهما الآخر، لذلك يلجأ الشعر إلى الانزياح فيقطع علاقة الدال مع المفهوم (Notion) ليبدلها بالعاطفة (Emotion)65.
ج- اتجاه البلاغة و الفلسفة:
في هذا العنوان يتم عرض نظرات هامة تجمل طرح هذا الاتجاه الذي يمثله بول ريكور وضمنه كتابه الاستعارة الحية (La Métaphore vive) و أهميته ترجع من جهة إلى ما أورده من وجهات نظر تخص الموضوع، ومن جهة ثانية مناقشته لطروحات البلاغيين والبلاغيين الجدد والشعريين، فالبلاغة الجديدة –في نظره- ليست مجرد صياغة أكثر تقنية للبلاغة الكلاسيكية، بل تستهدف إعطاء نظرية الصور مداها الكامل66، فهي تحاول أن تبني للمجاز مفهوما فوق مفهوم الصورة67، فيبقى صورة استبدالية على مستوى الكلمة –على الأقل- و لكنه يؤطر بواسطة مفهوم أشمل هو الانزياح الذي يشتغل على كل مستويات تمفصل الكلام (أصوات، كلمات، جمل، خطابات)، "فيكون المجاز بهذا الاعتبار انزياحا محليا داخل جدول عام للانزياحات"68، وقبل عرض مفهوم الانزياح، يطرح ريكور جملة الإشكالات69 التي تواجه القائلين به و هي على الخصوص:
- بالنسبة إلى ماذا يوجد انزياح؟ أين تكون درجة الصفر البلاغية حتى يستطاع التقدير و تحسس المسافة؟ مع العلم أن البلاغة القديمة ماتت –في نظره- لأنها لم تجب على هذا السؤال.
- ماذا نعني بالانزياح؟ الاستعارة الجسدية للصورة و الاستعارة الفضائية للانزياح، هل توضح إحداهما الأخرى؟ ماذا تقولان معا مقترنتين؟
- ما هي مواصفات الانزياح و الصورة داخل الخطاب البلاغي؟ و بظهور تقليص الانزياح، ماذا يهم في الصورة هل الانزياح أم تقليصه؟
- بما أن تحليل المدلول تدحرج إلى المعانم (وحدات تحت لغوية) كيف للمعنى على مستوى الخطاب أن يتعالق مع العمليات المجراة على ذرات المعنى؟ و منه السؤال المهم عن إدخال الاستعارة-الكلمة داخل الاستعارة-الخطاب.
- لماذا يلجأ الكلام إلى لعبة الانزياحات؟ ما هو القصد البلاغي للكلام المجازي (Figuré)؟ هل هو إدخال معلومة جديدة (تفيد المرجعية) أم هو فائض معنى يلحق بوظيفة أخرى غير إخبارية (غير مرجعية)؟
بداية، يعرض ريكور النمط و المعيار الذي يقاس إليه الانزياح من خلال آراء عديدة، وضرورة المعيار تفرضها الاستعارة التي لا تشتغل إلا بالتقابل مع كلمة غير استعارية كما يقول ماكس بلاك70، و التفسير الحرفي المتناقض ذاتيا ضروري لظهور التفسير الاستعاري كما يقول بيردسلاي71، ولكن ما هو الكلام غير الموسوم بلاغيا الذي يكون قاعدة الانزياح؟
يطرح دومارشيه المعنى الأصلي معيارا و بهذا الاعتبار تصبح كل المعاني المتفرعة مجازية مما يؤدي –حسب ريكور- إلى تداخل البلاغة مع الدلالية، لذا يقترح فونتانييه مقابلة المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي وليس الأصلي72، وقد سبق تعريف المعنى الحقيقي عنده، ويرى ريكور –كما فعل تودوروف- أن البلاغة اهتمت بالكلام المجازي و لكنها لم تحدد الكلام الحيادي و هذا ما يدل على انعدامه عند ريكور.
ثم تناول أهم الطروحات التي صادرت على مفهوم الانزياح وهي ثلاث اقتراحات حاولت تحديد ثنائية: القاعدة / الانزياح:
-كلام حقيقي/ كلام افتراضي: عند جينات73 (Gérard Genette):
أحد الكلامين يحيل على الآخر و التفرقة بينهما كالتفرقة بين الحرف والمعنى، ويماثل اكتشاف المعنى الافتراضي ترجمة المجاز أو الصورة، فلدينا ما فكر فيه الكاتب (الافتراضي) و ما كتبه بالفعل (الحقيقي)، فيكون الوصول إلى المعنى الافتراضي بترجمة العبارة المجازية (الحقيقي) بعبارة غير مجازية74.
لكن هذا التصور لقابلية الصورة للترجمة يصطدم مع اعتقاد جوهري وهو عدم قابلية الكلام الشعري للترجمة، غير أن جينات ينقذ وجهة نظره ويؤكد بأن ما لا يقبل الترجمة في الشعر هو الدلالة (La signification) و ليس المعنى (Le sens).
ولتأكيد وجهة نظره في الاستعارة التفاعلية بدل استعارة استبدالية، يعقب ريكور على جينات باعتماده المقابلة بين كلام مجازي وكلام غير مصور افتراضي يستحضر بترجمة على مستوى الكلمة ولكن بتفسير على مستوى الجملة (اعتبارا للتفاعلية).
-كلام شعري / نثر علمي: عند جون كوهن:
درجة الصفر البلاغية عنده نسبية، و المعيار هو كلام أقل وسما بلاغيا و هو الكلام العلمي و هي فرضية يرى ريكور أن لها مزايا عديدة75:
- أولاها أن الانزياح له شكل نحوي و شكل دلالي خاصة، أما في النظرية السابقة فإن الافتراض مسبق وبدون ضبط، فلكي يكون انزياح يجب أن يكون هناك معنى واحد عندما توجد دلالات مختلفة.
- ثانيها أن تحديد الكلام العلمي كمستوى محايد بلاغيا يمكن من الاقتراب منه.
- ثالثها أن تبني هذا المستوى يسمح بالقياس الكمي للانزياح و إدخال الإحصاء إلى البلاغة، و هذا الإحصاء يمكن أن يمتد إلى "الأشعار" بعضها بالنسبة إلى بعض.
ومع أن مشكل المستوى المعيار تم تحييده ولم يحل-كما يرى ريكور-فإن الكلام العلمي الذي يؤول إلى درجة صفر بلاغيا كما يقترح كوهن هو أفضل عتبة في الكتابة عنده.
كما ينقل ريكور عن كوهن اعتباره للقابلية للترجمة معيارا فارقا للنثر عن الشعر76، فالنثر المطلق هو المحتوى (المفارق للتعبير) أو الدلالة التي تحقق التعادل بين لغة الوصول (الحقيقي) و لغة الانطلاق (الافتراض)، فالدرجة الصفر هي الدلالة المحددة بماهية المعلومة77، ولكن الترجمة المطلقة هي نفسها حد مثالي78.
يأخذ ريكور على كوهن بقاءه في بلاغة الكلمة وإضافته الربط بين المتنافرات إلى الصور الانزياحية الإسنادية وبحثه عن التشابه العاطفي حيث "الوحدة العاطفية هي الوجه المعاكس للتناقض المفهومي"79 بدل البحث عن ملاءمة جديدة ترتكز على منظور تفاعلي يشرك الجملة في فاعليته "يثير كوهن ظواهر مهمة و لكنه يعود إلى الآخرين و لا يشتغل مثلهم إلا على علامات أو مجموعات من العلامات ويتجاهل المشكل الجوهري للدلالية تكوين المعنى كخاصية للجملة غير القابلة للتجزئة"80، وهذا لا يعني أن ريكور يرفض الانزياح الاستبدالي (في مستوى الكلمة) و لكنه يلح على ربطه بالانزياح التركيبي بإقامة ملاءمة جديدة داخل الملفوظ الاستعاري، فالتبئير يكون على الكلمة الاستعارية و الملاءمة تستغرق الملفوظ الاستعاري كله، فيتم الجمع بين مقاربة سكونية (بلاغة اللفظ ) ومقاربة حركية (تفاعلية)،"المقاربتان مؤسستان داخل الخاصية المزدوجة للفظ: باعتباره مفردة فهو اختلاف داخل المنظومة المعجمية و بهذا الاعتبار يطاله الانزياح الاستبدالي (الذي يصفه كوهن) وباعتباره جزءا من الخطاب يحمل جزءا من المعنى الذي ينتمي إلى الملفوظ ككل، وبهذا الاعتبار الثاني تطاله التفاعلية التي تصفها النظرية التفاعلية"81، ويخلص ريكور إلى القول بأن القياس الذي اعتمده كوهن ليعوض وعي المتكلمين في إدراك الانزياح وتفسيره قد أخذ خارج الملفوظ الشعري، ولذلك يفضل الاحتفاظ برأي جينات مع تطعيمه بمنظوره التفاعلي حتى تبقى فاعلية التوتر لتفسير نابع من الملفوظ ذاته (حرفي/ استعاري تفاعلي بدل حرفي/ استبدال لفظي) و كذا إثبات شرعية الانتقال بالإجراء من المستوى المحلي إلى مستوى الجملة أو النص.
-معانم جوهرية/ معانم حافة: "لجماعة مو" (Groupe de Liège):
درجة الصفر هي خطاب أعيد إلى معانمه الجوهرية "و الانزياح هو اختراق محسوس لدرجة الصفر"82 وهنا يكون تقليص الانزياح هو الذي يصنع الخرق الدال المحسوس و يكون بالتالي أهم من الانزياح83.
أما درجة الصفر المطلقة فيثبتها التحليل المعنمي و تعين إذا خارج الكلام، و أما ما يلاحظ في الخطاب فهو درجة صفر تطبيقية التي تمثلها المعانم الحافة والتي تغلف المعانم الجوهرية وبوصول التحليل إليها تتحدد درجة الصفر المطلقة للخطاب.
لكن لا يمكن في رأي ريكور استبدال مستوى تمظهر الخطاب بمستوى تحت لغوي، فيجب أن تحدد درجة الصفر البلاغية داخل الكلام نفسه فهو الذي يبين الخرق المحسوس.
-الوظيفة الشعرية/ الوظيفة المرجعية عند جاكوبسون (R. Jackobson ):
تبرز الوظيفة الشعرية –باعتبارها الوظيفة المهيمنة- الجانب المحسوس من العلامات و تعمق الفصل بينها و بين الأشياء84، ويلعب التوازي دورا أساسيا في استراتيجية إبراز الرسالة على حساب المرجع و هو أثر عن إسقاط مبدأ التساوي الذي لمحور الاستبدال على محور التركيب و ينشأ عن ذلك التناسب بين الصوت و المعنى، و هو تناقض –كما يلاحظ ريكور- حيث إن الشعر ينزاح عن هذا التوازي ولتفاديه يقول ريكور أن المقصود هو المعنى الحقيقي أما المنزاح فهو الافتراضي.
ويتحقق الخرق بتوسيع الهوة بين الرسالة الموسومة و الأشياء "فالشعر لا يضيف مواد تزيينية ولكنه يعيد تقييما شاملا
Comments