1
شاءت الصُدفة أن وصلني هذا السؤال أيام قراءتي لكتاب أمبرتو إيكو "اعترافات روائي ناشئ" (1)، ثم تجسدت المفارقة عند قوله بأنّ إجابته (الفورية المستفزة) لسؤال "كيف تكتب" كانت على النحو التالي: "من اليسار إلى اليمين"! لكني لن أفعل مثله، فأقول: من اليمين إلى اليسار – لأنّ اللغة العربية تُكتب هكذا؛ بل سأجيبُ كالتالي:
يبدو السؤال، في ظاهره وللوهلة الأولى، قابلاً للإجابة السريعة "المضمونة" نظراً لأمَد التجربة الطويل، وبالتالي فإنَّ تغطيته ليست سوى مسألة وقت تحتاجه عمليّة التدوين واختيار المدخل المناسب. لكنَّ الحال خِلاف هذا، بالنسبة لي؛ إذ أراني أواجهُ "مساءلةً" لا سؤالاً، ما يوجبُ عليَّ التصدي لـجملة "استجوابات"! استجوابات تنبع من داخلي ككاتب، وكأني، لحظة محاولتي الاستجابة، أعملُ على استعادة تاريخ كتابةٍ محتشد وممتد في الزمان، وغائر عميقاً في الذاكرة!
غير أنّ للزمان خاصيّة السيولة، والانزلاق، والتفلّت، والتمرد على "الموضعة" والتأطير- وبالتالي الخضوع للرصد الدقيق والمعاينة. وكذلك الذاكرة الميّالة للانكماش، والقفز العشوائي، والنسيان بوجهيه البريء والخبيث، والإدغامات الملتبسة لمحطّات "الشخص" – الذي هو أنا/ الذات التي كانت على نحوٍ ما في زمنٍ مضى، وها هي الآن تبدو وكأنها ذاتاً أخرى، بنسبةٍ أو بأخرى، لـ"شخصٍ" يعيشُ زمناً مغايراً مستجيباً لشروطٍ حياتية مختلفة.
وها أراني، وسط كلّ ما سبق أن أشرتُ إليه، أتساءل بدوري إنْ كنتُ أكتب، هنا والآن، بالكيفية التي كتبتُ بها نصّي "الأخير" الذي ربما كان قبل أسابيع، أو شهور، أو أكثر! فالكتابة اليوم، في عُرفي وكما "أفعلها"، هي ممارسة مسبوقة بـ"ثِقَل" يربض على روحي، يتداخلُ فيه كُلٌّ من الإحساس بـ"الواجب في غير وقته"، و"الرغبة الصادقة لكنها الخائفة" من تحققها الناقص.. أو الناقص في تحققها! وإذ أعود إلى سنين سابقة، متسائلاً إذا ما كنتُ على هذا الإحساس المزدوج المتناقض في عمقه (واجب في غير وقته، ورغبة صادقة لكنها خائفة من "خطيئة" النقص)، أعتقد أني كنت متحرراً منه، أو ربما لم يكن يتحلّى بهذا القدر من "الثقل"؛
فما السبب؟
لن تكون الإجابة كامنة إلّا فيَّ، لأنها، ببساطة الأشياء وكما تبدو لي، لا تعدو أن تكون "مسألة شخصيّة" خالصة. فالكتابة في كافة جوانبها، وتعدد مراحلها عبر سيرورتها – وصيرورتها بالتالي-، تخضع لطبيعة الشخص/ الذات "الفاعلـ/ة" لها. وإنها لطبيعة خاصّة وخصوصية لا تطابق سِواها، وإنْ تشابهت في ظاهرها مع غيرها، وبذلك فإنّ معاينتها من خارجها من خلال إيجاد الجامع "المشترك" في شهادات عدد من الكتّاب لن تصيب الحقيقة. لن تقبض على الجواب. باختصار: لن تضع كاتبين اثنين تحت "شرطٍ" داخليّ شخصيّ واحدٍ يمتثلان له حين ينخرطان، أو "يلجان" بالأحرى، فضاءات كتابتيهما!
أعود لطرح السؤال: ما السبب في هذا "الثقل" الذي أعيشه اليوم، ولم يكن قديماً – قبل سنوات عِدة، لحظة تلوح لي الكتابة، منذرةً وقادمة، تطالبني بتحققها؟
2
ثمّة أكثر من جواب، أو اجتهاد جواب، أجد فيها جميعاً قدراً كبيراً من الصحَّة.
أوّل الاجتهادات ذو صِلة بما طُبِعْتُ عليه من "إحساسٍ بالمسؤولية"؛ المسؤولية حيال كلّ أمرٍ أقومُ به بشكلٍ عام – فما بالك بمواجهة آخرين عبر الكتابة! وإنه إحساسٌ عادةً ما يسبق الشروع بالـ"تنفيذ"، خالقاً معه تخوّفاً وتحوّطاً يعملان على إبطاء تقدمي ومواصلتي؛ إذ أراني دائم المراجعة للمكتوب سابقاً لتحاشي أيّ "خللٍ" قد يُصيبُ اللاحق المستند إلى ما قبله. هذه العملية الإجرائية التي أعتمدها في كلّ نصّ أكتبه، وخلال تكوّنه لا بعد ذلك فقط، وفي كلّ جنسٍ أدبيّ/ كتابيّ أمارسه، إنما هدفها الحرص على "التماسك الجزئي" للجُمَل والفقرات، كخطوةٍ لازمة وملزمة للخروج بـنصٍّ نهائيّ يتحلّى بـ"التماسك الكُلّي"- فإنْ لم تتصف الأجزاءُ كوحداتٍ صغيرة بالتماسك، فلن تنتج في مجموعها عملاً مقنعاً! ولتتخيّلْ كم يستغرق هذا الأمر من وقتٍ، وتركيزٍ يستدعي تنبيه الجُملة العَصَبية بكاملها، وإبدالات في البناء من الداخل، ليخرجَ النصُّ خالياً (تقريباً) من أيّ اختلالٍ يُربكُ قارئه! وهكذا، حين أراجعُ هذا الضرب من "العَيش" المتواصل مع كلّ ما أكتبه (قصةً قصيرة..أو مشهداً روائياً.. أو نصّاً مفتوحاً.. أو شهادة.. أو مقالةً)؛ فإنَّ واقعة "الثقل" تبدو حتميّة بلا أدنى ذرّة شك!
ثاني الاجتهادات يتصل بالأول اتصال الجنين بأُمّه، في الوقت الذي هو حاملٌ لخصائصها أيضاً: الإحساس بالمسؤولية، والاحترام. فالعلاقة بينهما متبادلة، أو هما يشكلان وجهي العملة الواحدة. فنحن، عند تأملنا جميع تلك التفاصيل عبر سيرورة الكتابة، نقعُ على الاستنتاج القائل بوجوب الالتزام بتوفير حالة "الاحترام" وتكريسها. حالة احترام ثلاثية الأبعاد:
1. احترام الكتابة في ذاتها لأنها خلْقٌ جَماليٌّ، وتخليقٌ لغويٌّ، وذائقةٌ استثنائية، وشريطٌ ممتد طويل يملك إرثاً تاريخياً تختزنه ثقافةُ أُمةٍ.. أو شعب.. أو وعيٌ جَماعيّ.
2. واحترام الكاتب لذاته عند نشره لكتابة بمقدوره الوثوق بها والدفاع عنها، لأنه بذلَ ما يملكه من تجربة دون نقصانٍ، ولم يهادن نفسه في أخطائه.
3. واحترام القارئ الافتراضي المجهول بأخذ صرامة مقاييس تقييمه بالاعتبار، ولو كان فرداً واحداً، بالنظر إلى أنّ الكتابة تعني القراءة، والثانية تؤدي إلى ذاتٍ مشارِكة لا تحترم كاتباً يستخفُّ بذكائها وذائقتها؛ إذ يُلقي إليها بنصِّ كُتب بارتجال ونفاد صبر! وفي هذا السياق، أعودُ إلى ما قاله أمبرتو إيكو في الكتاب الذي أشرتُ إليه في بداية هذه الشهادة: ".. من حق الكتّاب المبدعين – باعتبارهم قرّاء عقلانيين لأعمالهم- الوقوف في وجه التأويل التافه. ولكن عليهم، في المجمل، احترام قرّائهم؛ ذلك أنهم ألقوا نصوصهم للتداول، تماماً كما نلقي بقنينة في البحر."
أما ثالث الاجتهادات (وهو في نظري أكثر من اجتهاد، لا بل موقف ونهج)؛ فيتمثّل في ما يلي:
ليس مسموحاً لي، ولا يجوز، أن يتماثلَ نصّي الجديد مع النصّ السابق عليه، على صعيد البناء الكُلّي، أو ما اصطلح على الإشارة إليه بـ"الشكل"! وربما ما قادني إلى بلوغ هذه "الصرامة والتشدد" إيماني بأن "جديد" الكاتب هو ما استجدّ على فنيّات كتابته وتقنياتها. "جديد" الكاتب هو خروجه على ما "اعتاد عليه"، ولو نسبياً، ووضوح محاولته اجتراح بُنية تُجاري، ربما، تَغيُّرَ رؤيته للعالم – أو لِنَقُل: تَغيُّر صورة العالم وشراسته الفادحة في عينيه، وبالتالي في وعيه! إنّ وعياً جديداً، أو ما يطرأ على وعي الكاتب عبر سنوات تجربة الكتابة والحياة، لا بدّ أن يؤثر في كيفية صياغته للعالم داخل نصّه المكتوب. فالبُنى تتحرك وتنزاح تِبَعاً لتحرك الوعي باتجاه أسئلة جديدة. "جديد" الكاتب ليس مجرد كتاب آخر يُضاف إلى رصيد منشوراته، يكاد يستنسخ سابقَهُ في البناء ليسردَ قصةً جديدة! فالقصص لا تُحصى، كما نعرف، غير أنّ طُرُقَ كتابتها وسردها محدودة قياساً بعددها، ومن هنا تحديداً تُرسَم "بصمة" الكاتب التي لا تتكرر أبداً عند سِواه.
3
كيف أختار موضوعاتي؟ وهنا أشير إلى القصص القصيرة، والروايات.
عادةً ما أراني متفاعلاً مستجيباً لمؤثِّرٍ خارجي ما لازَمني لوقتٍ طويل، فما كان مني إلّا أن خُضتُ فيه، جاعلاً منه "مجالاً حيوياً" أُمعِن التفكير في أبعاده. وهذا الأمر يدلّني على أنّ "الاختيار" ليست الكلمة التي تناسب هذه الحقيقة؛ إذ لستُ، والحالة هذه، أمام عدة موضوعات عليَّ أن أختارَ واحدةً منها. وإني، عندما أقول بالمؤثِّر الخارجي، إنما أقصدُ كلَّ شيء يأتيني من العالم المحيط بي بوصفه عاملَ استفزاز للمخيلة، وإشارةَ تنبيه، وقَدْحَة شرارة، وإغواءً ساحراً يسحبني إلى أمواج من التداعيات الطالعة من داخلي. إنّ جملةً ما عابرة أسمعها في الطريق أو ألتقطها بينما تُقال في نشرة أخبار، تكفي لأن تشكّل استفزازاً يدفعني لتأسيس نصّ! وكذلك كلمة واحدة، مجرد كلمة، أتت ضمن سياق جُملة قصيرة قرأتها في كتاب، تملكُ سطوةَ تحفيزي على جعلها بدايةً لنصٍّ مخبوء كان في حالة "اختمار". والأمر نفسه حيال صورة ما، ثابتة أو متحركة، كفيلة بفتح صندوق صور قديمة، ولكلّ واحدة منها حكايتها، وأصحابها، وروائحها، و"تجاوراتها" مع صور أخرى راهنة تخلق، عبر موشور الذاكرة والتخييل والمفارقة، نصّاً يحاورُ.. ويستنطقُ.. ويسألُ.. ويصرخُ.. ويحتجُّ.. ويفضحُ، ويَحِنُّ، ويُحبُ، ويحتضنُ، وكثيراً ما يضمدُ جرحاً أو يُعَمّقُ آخر، إلخ.
وهكذا، إذا كنتُ على درجة عالية من الدِّقة في التوصيف؛ فإني من الذين يستجيبون لسطوة "الحالات" المتولدة من مؤثرات خارجية لحظيّة غالباً، حيث تكون لها "اليد العُليا" في البدء بتكوين العالم المتخيّل المتجلّي في لغة تخصّني: في لغة تملك، بدورها، إغواءاتها من حيث هي "عالم" له تاريخه وذاكرته، إذ يقوم بتسريب أجزاء من حكاياته وشخصياته إلى نسيج نصّ في حالة تخلُّق!
إذا أخضعنا كلّ ما سَلَف للتأمل؛ فلسوف نخرج بـ"آليّة كتابة" تبدأ كاستجابة لمؤثِّر خارجي يرسم "اسكتشاً" لما يُشبه "موضوعاً" نصفَ واضح، ثم تشرع أمواج التداعيات المستدعاة من "داخلي" بتوضيحه وتأثيثه تدريجياً، دون القدرة على الإفلات من إغواءات اللغة ومحمولاتها الهائلة.
هذه هي صيرورة نصوصي،
وبالتالي فإنَّ مسألة "الاختيار" لا محل لها من حيث التأسيس لـ"موضوع" ما. أما إذا أردتُ أن أجعل لها محلاً، أو مكاناً ومكانةً؛ فخلال ما تنتقيه الذاكرة، ويرسمه التخييل، وتبدعه اللغة.
* * *
أَوَليست الكتابة السردية وآلياتها في ذاتها، أكانت قصصاً قصيرة أو روايات، تشكّلُ "موضوعاً" محل اختيار.. واختبار!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اعترافات روائي ناشئ، أمبرتو إيكو، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، 2014
Comentarios