top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

*(منقول اليكم فقط) ترجمة الفلسفة...هل تسيء إلى لغتنا ؟ للمفكر التونسي فتحي المسكيني


ترجمة الفلسفة...هل تسيء إلى لغتنا ؟

- فتحي المسكيني

ليس ما يمنعنا من ملاقاة أنفسنا مثل أن نترجم بها ما ليس نحن. أجل، لم يفعل العرب الجدد غير بذل أخصّ ما عندهم لترجمة أخصّ ما عند الغرب. والنتيجة لم تكن غير إهدار الخاصّتين معا. إنّ أحدّ ما يفصل بين ثقافتين هو ما تتقوّم به كلّ واحدة على حدة. نمط من الأصالة، والتفوّق السرّي، والاعتزال الخاص. ولذلك فليس يقتل ثقافة من الداخل مثل هدر ما تتميّز به تميّزا فظيعا في ترجمة ما تتميّز به ثقافة أخرى على نحو لا يقلّ فظاعة. ثمّة فظاعة، حيوانية طريفة، ونمط من التوحّش في كلّ تميّز لانهائيّ.

ماذا فعل العرب الجدد غير ترجمة ،يومية ولامشروطة ودون مقابل أصيل، لكلّ ما زعم الغرب أنّه بنية الإنسانية الحالية كما شكّلها ضمن تجربة فريدة من المعيش والمعرفة معا. هم ترجموا بكلّ جوارحهم جوارح إنسانية أخرى، لا تؤمن بهم، ولذلك هم في فقر داخلي غير مسبوق. وعلى عكس ما نظنّ من فضل الترجمة وندرتها لدينا، فإنّ إساءة الترجمة عميقة وربما لا مردّ لها. ما معنى أن نسيء لأنفسنا بالترجمة ؟ أليست الترجمة أفضل السبل لاحتمال غيرية بلا ضحايا ؟

نعني بإساءة الترجمة أن نحرم وجودنا الخاص من أدواته الأصيلة لقول نفسه. وإذا تحوّل هذا الحرمان إلى حاسة منهجية مستقرة لدى جيل كامل، فهو ينقلب سريعا إلى حرمان إرادي لكلّ إمكانات التأصّل الداخلي في ثقافة ما. إنّ نداء ميخائيل نعيمة منذ جيل كبير من أنفسنا المعاصرة :"فلنترجم !" هو نداء أصيل، ولم يكن نشازا روحيا ثقيلا. لكنّ ما لم يكن في الحسبان هو إنفاق كلّ أصالتنا اللغوية والاصطلاحية في تأمين دخول شطر خطير من الأصالة اللغوية والاصطلاحية لثقافة أخرى، مهما كانت ترفع "دعوى الكونية".

ليس هذا تحفّظا على الترجمة بما هي كذلك، بل دعوة إلى الاقتصاد في الترجمة. إذ حقيق علينا ألاّ نترجم إلاّ بقدر ما نؤمّن معرفة إجرائية بما يقوله الآخر وفقا لتجربة معيشة خاصة به. كلّ ما يقال في أيّ لغة كانت هو خاص بأفق روحي لا تملك أيّ ثقافة قدرةً داخلية على كسره إلاّ باضطهاد لغة أو ثقافة أخرى. إنّ "ضيما" ما قد أصاب اللغة العربية المعاصرة وعلينا أن نفكّر به.

ثمّة مفارقة طريفة تكتنف مهمّة المترجم: إنّه لا يؤلّف نصّا أصليّا، وعلى ذلك هو يكتب لأوّل مرة. فبين يديه يولد أفق روحي لم نطّلع عليه من قبلُ، ورغم ذلك هو يُطلّ علينا من داخل لغتنا. إنّ عمله ضرب خطير من اللقاء المستحيل بين لغات تبدّل من شكلها ومعان تظلّ على حالها. بل قد يحدث أن يكون ذلك اللقاء المستحيل ليس فقط بين لغتين، بل بين عائلتين لغويّتين، الهندوأوروبية من جهة «الأصل»، والعربية من جهة «النقل». ههنا، يكون على المترجم أن يقطع مسافتين معا: مسافة اللفظ الأصلي، كتوقيع هووي خاص بشعب ما؛ ومسافة المعنى الكلّي، الذي تدعونا الفلسفة إلى امتشاقه كقدر داخلي لعقولنا والعمل على «نقله» بكلّ ما أوتينا من انتماء لغوي إلى مصادر أنفسنا.

ولكن، ذاكرة من هذه التي تتسّع إلى هذا اللقاء المستحيل بين الأصلي، المتحصّن في لغة بعينها، والكلّي، الذي يحوم فوق سطح كلّ اللغات، ساخرا من كلّ توقيع هووي، وعلى ذلك هو لا يوجد بما هو كذلك إلاّ ضيفا ؟ - إنّ اللغة هي فنّ الضيافة الكونية بامتياز. ورغم ذلك فكلّ لغة هي جسم محلّي إلى حدّ اللعنة. كذا، تبدو الترجمة وكأنّها تدرّب خفيّ على شكل طريف من الضيافة الكونية تخفي في طيّاتها نمطا غير مسبوق من الاغتراب.

وعلى عكس ما نظنّ لأوّل وهلة، فإنّ ما هو مهدّد بالاغتراب، ليس هو «المعاني» بل «الألفاظ». فمن يعرف المعاني الفلسفية، يدرك للتوّ أنّه أمام هموم كونية بلا توقيع، ولا تحتاج إلى أيّ توقيع. وإنّ هذا هو بالتحديد ما يميّز المعاني الفلسفية عن أيّ ضرب آخر من المعاني. فليس يكون فلسفيّا في فكرنا إلاّ ما كان يتعذّر على أيّ شخص توقيعه، باسم هذا التراث أو ذاك. ليس ثمّة من معنى شخصي في الفلسفة، أكان الشخص المقصود فردا أم شعبا، أكان هوية أم عصرا - ولذلك علينا أن نعلم أنّ المعاني الفلسفية لا تغترب إلاّ مجازا. وهي لا تنتقل من لغة إلى لغة إلاّ عرضا. أمّا في ماهيتها الخاصة، فهي هبات العقل الإنساني إلى نفسه، ما وراء اللغات والشعوب والعصور المختلفة.

إنّ الترجمة اغتراب في معنى طريف تماما. وهو ذاك الذي يرنو إلينا عند قراءة فيلسوف مثل هيدغر، خاصّتُه أنّه يكتب في عدّة لغات في وقت واحد. ههنا، لا يمكن للقراءة إلاّ أن تتحوّل إلى تجميع مستمرّ للمعاني المتباينة الأصل، ولكن التي تتصادى فيما بينها كالسماوات المتعددة لعالم واحد. إنّ ألمانيّة هيدغر هي أشبه بمشهد بابلي، حيث تتكلّم كلّ اللغات الفلسفية المنحدرة من العائلة الهندوأوروبية: يونانية ولاتينية وجرمانية قديمة.- فلفظة «الحقيقة» مثلا هي عنده ثوب من طيّات عدّة في آن: فهي عند اليونان «أليثيا» «أي عدم احتجاب» لكنّها عند اللاتين قد صارت تدل على«المطابقة» adaequatio»»، فهي «كشف» عن معنى و«هوية» معه، وهما معنيان يعملان معاً، وبحُسبان.

إنّ الترجمة غربةٌ بحُسبان.وهي أيضا معيّة مستحيلة بين لغات عدّة في لسان واحد. ولذلك فإنّ على مترجم هيدغر أن يعيد على نفسه كلّ ما قطعه الفيلسوف من ترجمة داخلية للغات التي ساهمت في رسم تاريخ المشكل الذي يفكّر فيه. لا ريب أنّ شيئا من طرافة هيدغر، ولكن أيضا من عسر كتابته، إنّما يكمن في كونه ينجح على نحو مثير في نبش اللغات الفلسفية السابقة وامتشاق بعض حروفها وجذورها، وجعلها جداولَ داخلية ومطاميرَ خاصة في لغته ومصطلحاته، ينهل منها متى شاء ويسمع صوتها متى أراد. ولهذا السبب هو موقف جريء ومغامر قد ترى فيه العقول الكسولة عنفا لغويا يخرج عن «المألوف». ولكن أليس المألوف هو بالتحديد خصم الفلسفة بامتياز؟

يبدو أنّ الفيلسوف لا يفكّر على نحو كلّي إلاّ متى خرج عن المألوف في لغته. فهيدغر لم ينقض ما ترسّب من فهم تقليدي للحقيقة بوصفها «مطابقة» الحكم للشيء، إلاّ حين زعم أنّ المعنى الأصلي والمنسيّ للحقيقة هو ما قالته يونان القديمة حين سمّته «عدم احتجاب» وتاهت عنه بقية اللغات «المترجمة». وليس هذا مجرّد استصلاح لمعنى متردّم في لغة الفلاسفة الأوائل، كما أنّه ليس مجرّد خروج من المعنى «المألوف» لمفهوم الحقيقة إلى معنى «أصلي» هجره قومه.

ليس هيدغر جامعا لحفائر أو تحف يونانية. بل هو فيلسوف بالمعنى الجذري للكلمة. وذلك يعني أنّ بحثه في ماهية الحقيقة هو في أساسه بحث في معنى «كلّي» للحقيقة: حقيقة الوجود بما هو كذلك. ولذلك فإنّ أكبر سوء فهم إزاء معنى مصطلح «أليثيا» تحت قلم هيدغر هو أن نظنّ أنّه هوهو، بشحمه ولحمه، المعنى» الأصلي» للفظة «الحقيقة» في اليونانية اليومية كما تكلّمها هوميروس أو أفلاطون. إذ إنّ المشكل العويص الذي يثور هنا هو هذا: كيف أمكن لهيدغر أن يجعل من تملّك المعنى «الأصلي» للفظة اليونانية «أليثيا» سبيلا إلى بلورة المعنى الفلسفي لحقيقة الوجود؟ كيف استطاع استعمال «الأصلي» مطيّة لقول «الكلّي»؟

لا يخفى أنّنا أمام الوجه الأقصى من رحلة الفيلسوف بحثا عن الحقيقة: أن يفتّش عن معناها «الكلّي» - الذي يقع ما وراء جميع اللغات- في المعنى «الأصلي» للفظة «الحقيقة» كما قالتها لغةُ يونان، وهي لغة يشير إليها المحدثون عادة على أنّها «لغة ميّتة». إنّ ما لم تقله اللغات الحية، بما في ذلك الألمانية، قد قالته لغة ميّتة منذ البداية، بداية الفلسفة بما هي كذلك، وجعلته كالقدر السابق إلى العقل الإنساني، سبْقًا لا مردّ له. ولأنّ الفيلسوف غير اليوناني إنّما يأتي متأخّرا على نحو نهائي وجذري، فهو مطالب سلفا بأن يعمل «وكأنّه» في ماهيته مترجم. أن يتفلسف «وكأنّه غريب أو عابر سبيل». ماذا يعني ذلك ؟

لقد شاع أنّ ترجمة النصوص الفلسفية تتراوح بين أن تكون أمينة أو خائنة، دقيقة أو مُخلِّطة، حرفية أو حرّة. وعلى ذلك فطبيعة الترجمة ترنو من مكان آخر. إنّ شرط إمكانها كامن في لعبة التفلسف نفسها، وليس في مدى قابليّة اللغات لأنْ تقول بعضها. وليست تلك اللعبة غير فنّ الغربة بحُسبان. إنّ ترجمة المعاني لعبة تقع ما وراء اللغات الطبيعية الخاصة بكل شعب؛ ولذلك فأوّل مترجم جذري هو الفيلسوف بما هو كذلك. إنّه الوحيد الذي يبادر من تلقائه إلى إعادة معاني الموجودات، كما تقولها لغته، إلى مواضع الحقيقة، كما هي ممكنة في أفق العقل الإنساني الذي يفكّر في نطاقه، بقطع النظر عن أيّ لغة بعينها. هل هو بحث يائس عن «لغة مثالية» أو «لغة محضة» أو «لغة كونية» للمعاني؟

ليس شأن الفيلسوف أن يتكلّم لغة بيضاء بلا انتماء ولا وجدان. فهو لا يفكّر إلاّ بقدر ما يشتغل على الممكن الإشكالي الذي تحويه سلفا لغة بعينها، لغة شعب أو جملة من الشعوب التي دخلت بعدُ في الأفق الروحي للإنسانية. لهذا السبب، فالفيلسوف محكوم عليه بأن يترجم، أعني بعبارة الفارابي «أن ينقل» المعاني من أمة إلى أمة. هذا النقل الفلسفي للمعاني ليس مجرّد ترجمة، وعلى ذلك هو في ماهيته نمط جذري من الترجمة. وهو جذري لأنّه في كل مرّة أقلّ أو أكثر من مقابلة قاموسية بين الألفاظ.

إنّ ترجمة الفلسفة هي غربة «الألفاظ» بامتياز. فمترجم النصّ الفلسفي هو ذاك الذي يحمّل ألفاظ لغته معاني ما كان لها أن تأتي إلى حملها لولا إرادة الترجمة. بهكذا إرادة هو يفصل ألفاظ لغته عن معانيها «الأصلية» ويلبسها معاني «كلّية» هي وستبقى غريبة عنها. ولأنّ المعاني الفلسفية ليست فلسفية إلاّ بقدر ما تبقى هي هي في كلّ لغة، فإنّ المغترب الحقيقي هو الألفاظ. إنّ على الألفاظ أن تقول معنى كلّيا لم تقله من قبلُ، وعلى ذلك هي مدعوّة إلى قوله على نحو أصلي، في نوع من «الأصليّة» يتخطى حدود الاشتقاق، صغيرا كان أو كبيرا. هذا النوع من أصليّة المعاني الفلسفية هو أصالة الكلّي.

إنّ الترجمة هي غربة اللغة بحُسبان. وهو وضع وجوديّ يتعسّر على أيّ آلة أن تنجزه بعيدا عن الإنسان. إنّ الترجمة هي إذن تكليل طبيعي لسيرتنا، وليس طارئا. بل إنّ المترجم يكتب نفسه، كحلّ وحيد لمشكلة العصفور الذي يحمل عشّه معه. فإنّ في تجربة الترجمة آيةً على جيلٍ كُتب عليه أن يتعلّم لغات المستعمر حتى يتحرّر منه، بحيث صارت القدرة على العيش في لغتين أو عدّة لغات في آن واحد شرطا طريفا لتحرير الذات من الداخل. بذلك تكون الترجمة فنّ العودة إلى الذات من خلال فنّ الغربة عن الذات. وهو فنّ عسير المأخذ على غير أهله، لأنّه لا يتردّد أبدا في حمل اللغة الأمّ على أن تكون أكثر من لغة، فتتفجّر المعاني من حيث لا نحتسب، وفي بعض الأحيان، أقلّ من لغة، فتنطق بما لا تملك له حروفا أو بما لا حروف له.


7 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page