تغريك بعض المقاطع الشعرية بطراوة كلماتها ولكنك عندما تطلب منها أن تكشف لك بعض ما فيها لا تظفر منها بشيء. وتسأل: ما الهدف من الكتابة، إذن ؟
إذا التفتنا إلى تاريخ الشعر العربي في كل مراحله ومختلف أغراضه وتكويناته فاننا سنجد كل كلمة قيلت إلا وتحمل في أعماقها صراخ العصر الذي قيلت فيه أو جنونه التعويضي في الوجدانيات وغيرها، ولكنك مع ذلك لا تعدم رؤية وموقفا وحالة تعبيرية تناسب ما يجري. ذلك أن تاريخ العرب حافل بالأتعاب التي يتسبب فيها الحاكم ويجني نتائجها الحاكم والمحكوم بنسب ينال أكبرها المحكوم. وما الشاعر إلا من هذه الشرائح التي تحكم دون إرادتها غالبا.
وإذا أردت أن تجد استمرارا لتلك الفضيلة في الشعر- من خلال بعض ما يكتب اليوم - فانك تحجم عن القول بانعدامه، لأنك لو قلت ذلك ستصبح هدفا لكل رائح وغاد، وستنفى من العصر. هذا العصر يخاف فيه الناس من كل كلمة يقولونها، لان رد الفعل لن يكون مقارعة الحجة بمثلها أو الدخول في حوار يزيح الغشاوة أو يضئ ما تلبدت عليه الغيوم، حتى الكتاب و"المبدعون" اصبحوا يمارسون تشغيل العضلات للرد على من ينقد أعمالهم، وهي أسوأ حالة يبلغها مجتمع الفكر والإبداع على الإطلاق.
تعود فتسأل ما الهدف من الكتابة الإبداعية إذا لم تكن التعبير عن هموم مجتمعها، بصيغ مبدعة، شديدة التأثير، راقية التنسيق ؟ وما قيمة أية حالة إبداعية إذا لم تكن مشحونة بأوجاع الملايين التي لن يسلم واحد منها مما تلوح به العولمة من ويل، وخاصة ما يتحدى الأرض العربية من تهديد في كيانها وكينونتها بعد أن تمرغت كرامة أبنائها بفعل تخاذلهم في الوحل، وديست حرماتهم، وانتهك شرفهم ؟ فهل اصبح ممكنا أن يحلم المرء وهو تحت أكداس الجثث، أو هو غارق في الدماء حد انقطاع الهواء ؟
قد يفاجؤك بعضهم لان العالم المتحضر يكتب مثل هذا الشعر، وأن المدارس قد تطورت ولا بد من مواكبة ما يستجد في العالم من حولنا. تكاد تصفق خجلا مما تسمع، وتبكى دما من سذاجته، فتلطم الخدين من نتيجة حالة الغباء المطبق الذي تعيشه النخب العربية اليوم. هم ينقلون عن الغرب كل شيء حتى طريقة الإبداع، ويقلدون قاتلهم في كل عربداته ما عدا القاتلة منها. ولا مجال هنا لتوضيح ما تكرسه عبوديتنا للمناهج الغربية التي أفضت بنا أو كادت إلى خنق كل منابع الإبداع عندنا، لنصبح مجرد مرددين قانعين بما يجود به الآخرون علينا. يريدون أن يتشبهوا بالغرب في كل انحرافاته خاصة، حتى التي تستهدف كيانهم. هم يحلمون بحالة انفراج قد يوفرها الجلاد، ولكن هيهات.
إذن فالمقارنة تصبح سذاجة للأسباب التالية:
- إن شخصية الأمة العربية تتميز بكونها تعبيرية وعقلانية اكثر منها تهويمية وتصويرية واهمة. وكل الشذوذ الذي نعيشه اليوم، لا يعبر عن هذه الشخصية، وان حاز حاكموها الاستثناء.
- إن روح الأمة العربية لا تحتمل كل هذه الإهانات والتحديات، ولا تقبل بان يقرر مصيرها أعداؤها ومنتهكو عرضها، بمساعدة وتامين من باعوا ذممهم وأنفسهم إلى الشيطان. وبالتالي لا يمكن أن تقبل بالتقليد القردي الذي يمارسه بعض أشباه المبدعين، مزهوين بحالات الانفصام التي يعيشونها بين واقعهم ونصوصهم.
- إن ما تروج له الصهيونية العالمية من تأليه للعولمة وللدينار على حساب كل القيم والمبادئ الأخلاقية وعلى حساب روح الأمة الذي هو دينها لا يمكن أن نتلقاه دون فحص واستنطاق لمخبآته ومكنوناته حتى نتبين الأهداف التي يخفيها. ولابد أن نتذكر بأننا أمة لها مميزاتها وشخصياتها وأرضها وتاريخها ودينها وتراثها الحضاري وبالتالي لا نقبل بالتخلي عن كل ذلك لننخرط في ببغائية العولمة وما يسمى بمقاومة الارهاب من المنظار الصهيوني الصرف الذي يمارس ابشع الوان الارهاب على الأرض، بمباركة وصمت مريب من جميع القوى والمنظمات الانسانية والمجتمعية في الكون.
- إن الركام الفكري والإبداعي العربيين يزخر بالمشاريع التأسيسية، سواء في مستوى المنهج أو الاختراع أو سواهما مما تتوفر مجالات الحياة الأخرى على إمكانية الإسهام فيه، وتسليمنا بسيطرة المنهج الغربي على إنتاجنا الفكري لم يلحق بنا غير الإذلال والقبول بكل تحديات الآخر والخنوع لها لا عن عجز ولكن عن فراغ مفتعل توصم به مرجعياتنا من جهة ومن أخرى لإجهاض كل محاولة للخلاص من هذه التبعية التي لا شئ يبررها، سوى إرضاء غرور حراس الفكر الغربي ودعاته.
Comments