كانت الحركية الثقافية التي عرفتها سنوات الستينيات بتونس متنوعة، في مستوى النشاطين الثقافي والأدبي، وخاصة من حيث ظهور التجارب الأدبية والنوادي، وحتى في مستوى الصحافة والنشر، تلك الحركية قابلتها حالة سكون وجمود وربما تهميش ولا مبالاة في أواسط السبعينيات، بحيث تركز الاهتمام العام على “المظهر اللائق” والانكباب على كسب المال والتنافس – غير الشريف أحيانا- للوصول إلى مواقع السيطرة على مصادر الثروة ومصائر البشر، الأمر الذي أصبح معه الباحث عن القيم والتأصيل في عداد الشواذ. وحصلت تبعا لذلك القطيعة بين القيم الخالدة وإنسان “المظهر اللائق”. هذا الواقع ولد ردة فعل عنيفة عكستها ألوان الإبداع في كل المجالات، وكان المبدعون في مواجهة تطورات تراجعية في مستوى الإعلام والنشر ومحاولات احتواء الفضاءات الثقافية وتحويلها إلى خلايا شبه سياسية، وغالبا ما يجد المثقف الرافض التقوقع داخل هذه الفئة أو تلك، يجد نفسه يعمل في إطار سياسي لم يختره بل لعله يتناقض مع ميولاته طولا وعرضا.
في هذا الجو الغائم بِمدِّه وجزره نشأت البذور الأساسية لشعر المختار اللغماني الذي كان موزعا بين ممارسة العمل السياسي في الجامعة والكبت الفكري في الشارع ؛ فكان ككل أبناء جيله يبحث عن الفضاء الذي يستطيع أن يتنفس فيه هواء نقيا. ولان الفضاءات كانت جميعها مُسَيَّجة والهواء لا يحصل عليه المرء إلا بمقدار، وتحت شروط لا يرتضيها أحيانا، فان ذلك انعكس على الإبداع، وأصبحت الحالات الإبداعية تُهَرًبُ مثلما يُهرًبُ الحشيش أحيانا. وصارت الرقابة الذاتية تمارس مسبقا على الأعمال الإبداعية عند كتابتها حينا، وعند نشرها غالبا ؛ والاقتصار على قراءات محدودة لبعض الأصدقاء أو نواد لا تضم غير القليل من الرواد. وكثيرا ما توجه ملاحظات حول ما يقرا فيها، بل لعله يوصى أحيانا بعدم السماح لهذا الاسم أو ذاك بالقراءة أيضا.
كان المبدعون – لحسن الحظ – واعين بهذا الأمر، وكان من بينهم من يتعرض إلى مضايقات. ولكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة الكتابة والانتشار، مما سبب ألوانا أخرى من المضايقات التي بلغ بعضها حد المس من القوت. فهناك من فرً إلى خارج البلاد، وهناك من زج به في السجن بتعلات غير فكرية تغطي هذه الأخيرة. المهم أن كثيرا ممن تحملوا مسؤولية المستقبل، صمدوا في وجه كل العواصف وتحدوا إحباطات الانتقاص من قدراتهم والإهمال لما يبدعون. وهناك من تم استيعابهم فسكتوا، إلى جانب من تكيفوا حسب التلقين وانخرطوا في العكاضيات، ولكن كثيرا منهم تمردوا على ذلك كله.
كان المختار أحد الذين تمردوا على تلك الإحباطات ولم يعبأْ بها. كتب في الأشكال التي ارتآها، ومارس بِحُرية ذاتية إبداعه الشعري. وشارك في نحت شخصية وطنه بعيدا عن المصلحية والوصولية وغيرها. وانتج لنا عددا من القصائد جمع بعضها في كتاب اصدرته الدار التونسية للنشر اثر وفاته تحت عنوان : “أقسمت على انتصار الشمس” في 114 صفحة من الحجم المتوسط ويضم 33 نصا تمثل بعض مراحل تجربته القصيرة زمنيا.
ولقد قسمت في موضوع سابق تجربة اللغماني الشعرية إلى مرحلتين ؛ ارتبطت الأولى بتوزعه بين الإيديولوجيات مما احدث فيها شيئا من التذبذب واللاَّ استقرار في حين ارتبطت الثانية باكتشافه ذاتَه وإدراكه من يكون. وهذه النتيجة كانت متزامنة مع توقف هذه التجربة مما جعلني أطلق استفهامات حول الهدف الذي من اجله وجد المختار. هل جاء ليعيش 25 سنة في البحث عن هويته، ولما عرف انه عربـيٌّ غادر الحياة؟ وهل من الطبيعي ان يقضي العربـيٌّ عمرا كاملا في الشك واعتناق الإيديولوجيات مجربا وممارسا وملاحظا حتى يصل إلى إدراك انه عربـيٌّ؟ في تصوري انه توصل إلى قناعة حاسمة اوقفت كل مسلسل البحث اللامجدي في حياته. تلك القناعة التي جاءت واضحة جلية ومبررة في قصيدته التي اعتبرها شخصيا من روائع شعرنا العربـيٌّ في تونس وهي : “حفريات في جسد عربـيٌّ” علما بان هذه القصيدة قد تمت دراستها اكثر من مرة وقد قال عنها حافظ قويعة مثلا : “حفريات في جسد عربـيٌّ “أُوبرا” ثورية معاصرة يمكن استغلالها مسرحيات” ضمن الدراسة التي خصصها لها ونشرت بجريدة الشعب الملحق الثقافي (15 جانفي1982) ونلاحظ أيضا إن عددا آخر من قصائد اللغماني قد تمت دراستها، في حين بقي عدد منها طي الصمت حنى الآن. خاصة تلك التي لم تصدر في مجموعته، والموجودة بأرشيف الدار التونسية للنشر المجمدة حاضرا.
سأنطلق في هذه المحاولة الدراسية من مجموعته الشعرية المذكورة معتمدا نفس التقسيم الأول المذكور، في عملية تحديد – عبر نماذج- للاستعمالات اللغوية التي توخاها أدوات تعبير وتوصيل في كلتا المرحلتين. ففي المرحلة الأولى اعتمد المختار على العبارة الشعبية التي يَنحتُ منها صوره وإشاراته الدالة على مواقفه. في حين اعتمد في المرحلة الثانية الصور الشعرية العربية ذات البعد الإيحائي والموظّفة لرموز الحضارة العربية عموما.
وحريٌَ بالتذكير هنا أن الشاعر قد مرّ في تجربته الحياتية بحالات انتماء إيديولوجي كان لها تأثير واضح على توجيه استعمالاته وربما ساهمت في اختيار اللغة التي أراد التعبير بها. وقد أفرزت إشكالا متجانسة في المرحلة الأولى، ثم حدث نوع من القطيعة مع هذه الأشكال في المرحلة الثانية. وكان تحوله من توظيف عبارات الواقع اليومي الشعبي التونسي حيث البدلات الزرقاء والعرق والروبافيكا وغيرها إلى واقع اوسع وأعمَّ، حيث الانتهاكات والخطر المدمر الذي يترصد المصير العربـيٌّ ؛ والذي يسهم فيه العرب بممارسات عددها في قصائده. وهذا السياق يمكن ملاحظته ببساطة في قراءة اشعاره . لذلك، سأمرّ مباشرة إلى دراسة نماذج من استعمالاته في قسمي تجربته :
-القسم الأول :
لعل قصيدته بعنوان “عبارتي شعبية” تقوم خير شاهد على هذه المرحلة التي تعكس توجهه الفكري والفني والايديولوجي أيضا. يقول:
عبارتي شعبيه
عاملة ساعيه
وواعيه
اضربت عن الاعمال الفنية !
***
عبارتي شعبيه
قبيحة كالجوع
لا تصف الربيع
فهي ليست شعريه
***
عبارتي شعبية
تلبس لباس العمال
فليس لها جمال
ولا تحسينات بلاغيه
***
عبارتي شعبيه
يرفضها ارباب الجرائد
ولا يمنحونها حق لجوء القصائد
لانها حمالة سوء،شقيه
***
عبارتي شعبيه
تحارب العملاء
ولها سوابق عدليه
***
عبارتي شعبيه
تجوع كالفلاحين
تعطش كالعمال
وتحبس كالثوريين
لكن تبقى مثلهم حيه !
(ص ص31-32 الديوان)
وكأن ذلك الموقف رد استباقي على من كانوا يحاولون رفعه إلى مستوى اللا نقد من جهة وعلى الذين يتحاملون عليه من جهة ثانية. فمنذ المقطع الأول يوجه المختار قارئ شعره أو سامعه إلى عدم اعتبار ما يكتبه عملا فنيا. ولعله بذلك يؤسس دون قصد لونا من الكتابة الفنية. وفي المقطع الثاني يدعي أن عبارته ليست شعرية وأنها قبيحة كالجوع. فهي هنا في مواجهة قبح محاولات التجويع إذن هي مثلها في القبح. في المقطع الثالث يشير إلى بساطتها ووضوحها فهي لا تعتمد الُمحسنات البلاغية. ولعل في بساطتها جمالا. المقطع الرابع يرفع الشاعر احتجاج الشعب ضد قلة من مصاصي الدماء ؛ ولا يعقل ان يتحدث المضطهد لغة الرضى ما دام يعرف مضطهده. إذن فعبارة المختار حمالة سوء شقية في مفهوم رؤوس الأموال. في المقطع الخامس يعلن عن إدانتها مسبقا لان من تُقال لهم حاكَموها في مناسبات سابقة وأعلنوا إدانتها. ولكنها في المقطع السادس تتساوى بالفلاحين والعمال الثوريين، فتبقى في سجل الخلود حية. ويشير إلى جوع الفلاح الذي ينتج غذاء للجميع. وإلى عطش العامل الذي يسيل عرقا في خدمة الحياة والأحياء.
بهذا الوعي جابه ابن الريف المختار اللغماني، حالات انسانية لا تتحدد بمكان معين. وانعكس ذلك على حسه ونبضه فأصبحت العبارة عنده أَلَمًا يسًاقط على الورق. ولأنّ الذي يحترق هو المختار فان الورق بقي وعاء يحفظ أَلمه. ولأنه ارتبط – واعيا – بحالات التعفن التي تصيب المدينة في كل مستويات الحياة فيها، فلم يستطع التخلص من ضرورة تحديد الأمكنة فيها، وحتى استعمالاته بهذا الخصوص كانت مهذبة. يقول:
رأسي محطة قطار المرسى
وعلى رجلي المربوطتين إلى قيد الألم
يركب قوس باب فرنسا
وتنصب ثياب الروبافيكا
وعلى أذنـيَّ المنتصبتين في زمن الصمم
يصيح إنسان :
“يا ربي راني جيعان”
(ص 11 الديوان)
في هذا المقطع نلاحظ شريط أحداث ووقائع عايشناها ولا نزال. فعند قراءته تبرز إلى أذهاننا وذاكرتنا صورة ذلك الذي يصيح : “يا ربي راني جيعان” ؛ لكأنها تقع الآن ؛ إذ ما زال يعترضنا في اكثر من موقع رغم مرور السنين. ونلاحظ بانه لم يستعمل العبارة الرائجة “(Port de France) بل قال : “باب فرنسا” رغم ان الترجمة مختلفة. وفي هذا التحريف قصد عميق الصلة بالواقع الذي كانت عليه بلادنا في السبعينات وما قبلها خاصة.
في هذا المقطع افتك المختار العبارة من أفواه أصحابها ليحوِّلها إعلان احتجاج ضد مدعيي الرقي الحضاري، والخروج بالإنسان من مرحلة البداوة او الحيوانية. فحتى الحيوانات تجد ما تأكل. ولكن مازال الإنسان بلا مأكل في بعض المواقع. وتصبح بناء على ذلك كل الشعارات المرفوعة في هذا الخصوص مراوغة حضارية. ويؤكد المقطع نفسه مع غيره ان المختار اللغماني يحمل هموم الإنسانية كلها. ومن استعمالاته أيضا ان حاول اصطياد عبارات تقع بين الفصحى والدارجة. وهو يعكس في مختلف هذه الاستعمالات الحالات النفسية التي يكون عليها. فتارة تتأزم حالته وأفكاره، فإذا هو يصرخ :
مصلوب أنا على الكأس
مضروب على الرأس
ومخبوط في الدماغ
(ص14 الديوان)
ولعله هنا يعتمد على الدلالات المباشرة للكلمات المستعملة دون مراعاة الناحية اللغوية التي تحدد موقعها وكيفية رسمها والاداة التي تربط بينها. ويمكن ان نشير إلى بعض الاستعمالات التي تفتح نافذة على أعماقه في فترة تقلبه بين الأفكار والجاذبيات السياسية يقول :
لاني لا أَرضَى لأفكاري أن تجهض
لان كلمة الحرية ليست للتمضمض
وليست لمن يخلوض
سأعرف كيف ابني أفكاري
ابنيها، ابنيها، انا الباني
اعجنها بأحزاني
أُنـَجِّرُها بأسناني
وارفض ، ارفض ، ارفض
ص 19
وفي ذلك ما يدل على حصول اختلافات مع بعض هذه الحساسيات. يقول أيضا:
ريفي، كأَنْ تقول “جبري”
غريب عن الحضارة
……………
ريفي كأَنْ تقول غبي
في مسرحيات الاذاعه
ويهدي الدجاج والبيض
في سنوات المجاعه
ص24
وهنا ينقل المختار بلغته الفاضحة بعض السلوكات المتخلفة، بأساليب تستهدف الانتقاص من بعض البشر أو احتقارهم، دون أن تتعرض للظروف التي أوصلتهم إلى تلك الحال، وبالتالي هل هو الغباء ؟ ام هي التقية؟ ولعل المختار أحس بمرض العنصرية التي تعاني منها بعض العناصر في مجتمعنا. فمازلنا نطلق كلمة “النـزوح” وكلمة “ولد بلاد” للتدليل على ان الآخر ليس له علاقة بالمتكلم. وكاني بالمختار يحتج على هذه الصور المشوهة للواقع والقيم الحضارية والإنسانية، مؤكدا ان من يتمتعون بهذه العقلية لا يمكن بحال ان يتقدموا حضاريا وبالتالي فانهم مرضى. وخطر عدواهم غير مأمون العواقب على البلاد والعباد. يقول أيضا:
تخشبت عقولنا
تشققت تحت الشموس
سوست
نخرها السوس
ص33
وهذه صيحة يطلقها نيابة عن جيله الذي تغذى بنوعية جديدة من التفكير والرؤى ولكنها حبست ؛ فكان يعاني من البطالة الفكرية والجسدية معا. إلى أن يصل إلى حالة كهذه :
وسقوطي الذبابي على الخبزة اليومية
ص41
وهي الحال التي يقع فيها من يصادف شغلا بعد طول البطالة. وينغرس فيه حتى الاشراف على الهلاك. هذا إذا لم تسلب من أجله إرادته وانسانيته. فيتحول إلى حيوان غذائي منتج بمقابل هو الاكل فقط.
اكتفي بهذ النماذج القليلة من المرحلة الأولى واشير إلى انها غنية بمستويات متعددة ومتفاوتة من الاستعمالات الشعبية المعبرة عن هموم الشعب اليومية والمستمرة. وهذه النماذج أَذكرها للتاكيد على ان هذه المرحلة، بكل تقلباتها وتحولات الرؤى الفكرية عنده كان المختار فيها مشدودا إلى همٍّ وحيد هو الحياة اليومية بكل شعوره إزاء ما تلاقيه الطبقات الشعبية من الحيف والحرمان والتذبذب.
-القسم الثاني
تتسع دائرة الادراك الواعي عند المختار، فتنمو حالة الوعي هذه، وينتقل الاهتمام إلى حالات اخرى اشمل والصق بمصير المجموعة التي يعايشها. ويتجلى له الموقف الذي طالما تعذب لاكتشافه بين اشكال التهميش والذبذبة. ويدرك الحقيقة النهائية. فإذا هو مواطن عربـيٌّ. وسيترتب على هذا الموقف الجديد شعور أوسع واعمق، اعتبارا للمصير العربـيٌّ المشترك بين اجزاء الوطن الكبير. تكون نتيجة ذلك بحثا في مقومات القصيدة العربية. فإذا هي كائن حي له شخصيته ومميزاته. وما دامت العروبة قدر المختار الذي أفنى عمره في البحث والتمحيص، هدفه التعرف من يكون، فلا مناص من تأكيد انتمائه إلى هذه الأمة /القدر. ولا بد من كتابة القصيدة المؤكدة هذا التوجه الجديد. وهو ما يبرز في القصائد الأخيرة من الديوان التي تمثل المرحلة الثانية في رحلته الحياتية القصيرة.
ولا بد من التاكيد هنا على ان انتقال المختار إلى التعابير الأدبية ،لم يكن انقطاعا عن الحالات اليومية التي كان ممتزجا بها، حيث انه ما زال يفعل ذلك اراديا ؛ انما جاء التحول في شكل انتشار الضوء الذي ينطلق من موقع ولكنه يملأ الفضاء والكون كله. فحين انفتحت عيناه على قدره، على الحقيقة التي اضاع عمره كله في البحث عنها، اعلن في اخر العمر القصير جدا :
اشهد اني عربـيٌّ حتى آخر نبض في عرقي ص99
وباعلانه ذاك اختطفه الموت. وفي هذا الحادث دلالات عدة. فالمختار مغروس في الواقع العربـيٌّ سواء بين مساكين باب البحر في تونس او عبر إدانة بطولات الخمر والجنس في كهوف الليل بباريس ولندن وغيرهما. أو كشاهد على أرصدة الشعوب التي يبذرها تجار وسماسرة النفط في العواصم العالمية. ولعل الأهمّ من كل ذلك الرغبة العارمة في الدفاع عن الأرض والعرض، ولكن حراس الحدود لا يرضون بأَقل من أرواح الراغبين في ذلك ؛ بحجة الأمن الداخلي، والأمن الخارجي، والمصالح المشتركة، وما إلى ذلك من الذرائع.
في هذا السياق يعتبر المختار آستشهاد “هاني جوهرية” وثيقة إدانة ضد كل العرب. فهم الذين يقتلون الواحد بعد الآخر من الوطنيين الأفذاذ، بواسطة العملاء والأعداء. لذلك، فإن المؤامرة تحاصر كل نبضات الوعي. اسمعه يقول:
يتدفَّأُ قلب الثلج الآن
ويفاخر هذا الجبل الأبيض – اذ يحمر – جميع جبالك يا لبنان ص87
وفي الاجساد العرببية مواقع سيبيرية عديدة لا تعبأُ بتوالي الفصول وتغيرات الطقس. وعندما تُسفح الدماء البريئة فوارةً يشعرون بالدفء. لذلك يربط المختار الجغرافيا العربية من خلال جبالها.
علمني أن جبالك يا لبنان تعانق في الحضن “الأوراس”
ترتاح صباحا في الربع الخالي وتبيت الليل “بفاس”
وأنا يا هاني في تونس تحت الجبل الأبيض اذ يحمرَُ
وقفت اراقب عينك تغمر قلب الجبل وكل الوديان
ونهار سقطت وجدت فراشك أجفان، ووجدتك أجفاني
ووجدتك في الأحضان
وأرى الآن الجبل الأبيض – إذ يحمرُّ- تململ في عينيك
صار له قلب، نبض، شريان، صار له رجلان ويدان
أضحى أحلى العشاق أقوى الفرسان ص87
لعل في هذا المقطع تلوح اهتمامات الشاعر واضحة، فلم تعد مسالة الخبز وحدها او الجوع والتعب وحدهما هي المسيطرة. فها هو يحمل مأساة شعب أنهكته الخيانات والعمالات ودمرت مبادراته التراجعات والطعن في الظهر والأحابيل. هنا صارت عبارته شعرية ودخلت فيها المحسنات البلاغية ؛ لكن في نحت مختلف للصورة. فالمختار فيما ارى لم يكن عاجزا عن كتابة القصيدة العربية المتميزة من قبل، لكنه كان ماخوذا بالموجات المتلاطمة على الساحة التونسية ومنها حركات التجديد او تلك التي تدعيه. وحين كتب قصيدته جاءت رائعة في شعريتها رغم حاجتها إلى مزيد الدقة في بنائها العروضي، والايقاعي، الذي ليس موضوعنا الآن.
ونشير إلى بعض الاستعمالات التي برزت في مرحلته الثانية هذه ومنها:
تقول رمال الصحاري بان انتماء إلى الريح خير من النوم
في الانتظار وكبت الجماح ص92
ثم :
– سالتك يا أُم
أنت التي تلدين صغارك كل صباح
وأنت التي ترضعين الصغار حليب المحبة والكبرياء
وأنت التي تقرئين عليهم كتاب العطاء
وحين يصيرون اجمل فرسانك الأوفياء
تصيرين غولا يمزقهم في المساء . ص93
فأية أُمٍّ هذه التي تفتك بأبنائها على هذه الصورة ؟ لعل المختار يقصد أولائك الذين أوكلوا إلى أنفسهم بآسم الأم – عن حق أو عن غيره – مهمة رعاية الأبناء فكان ذلك منهم ويكون.
في قصيدة “حفريات في جسد عربـيٌّ” تعترضنا تضمينات كثيرة لوقائع وشخصيات تاريخية وبطولات ومناف وحالات إعدام القيم، أسقطها الشاعر على وقائع وممارسات عصره العربـيٌّ. من ذلك ما حدث لكل من :
-أبو ذر الغفاري والربذة منفاه
-الحلاج وعملية إحراقه
– ابو نواس ورفضه الوقوف على الأطلال، والإيحاء بشخصيته الحقيقية
إلى جانب غيفارا وهوشي منه ولوممبا والأهرام والنيل وغيرها. وتأكيدا للتحول المومإ إليه، وحالة أمته العربية بين أيدي من نصبوا أنفسهن حماتها، يقول المختار:
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالصفعة احملها كل صباح
من نشرات الأخبار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالخجل المر يحاصرني من
شك في بعض رجولتنا، من رؤية سواح غرباء،
ألقاهم كل مساء في عش المحبوبة حين أعود إلى الدار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، عربـيٌّ،
أشهد، أَشهد، أَشهد بالعار
ص110
لكن المختار لم يكن في كل مراحل قصيدته متشائما حد اليأس، فهو يحس ان امرا ما سيحدث، وان مبادرات ستتم، وان التقاء عربـيٌّا لا بد له ان يكون :
عربـيٌّ، والليلة يغمرني عشقك ايتها المعبوده
يا كل نجوم سماوات الكون أضيئي
ما عدت بعيده
أضيئي يا كل كواكبنا في الأرض .
فهذي الليلة مشهوده ص110-111
هذا هو المختار، لقد اصبح مقتنعا بأن وحدة الأمة العربية هي الطريق إلى الخلاص، وأنها البوابة المفضية إلى خلاص كل العرب :
آه يا منقذة النفط من السراق، ومنقذة الصحراء
آه يا منقذة الفقراء
أَشهدُ انك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء
وسيكنس نورك وجه الأرض الشرقية
وتكونين لنا مِنَّا والجنسية عربـيٌّه.
هذه بإيجاز شديد بعض استعمالات المختار الشعبية منها والشعرية، للتعبير عن رؤيته وتحولاته واستقراره المتحفّز. فقد انطلق من ألَمِ الغربة ووحشة المكان، وانتهى إلى التأهب لاستقبال الربيع بكل أمل وثقة. ولكن، ولكن رحلة العمر توقفت عند الأمل فكأني به استعجل الأمر، إذ بدا له أن ليس للعرب من أَمل في وحدتهم، فقرّر مغادرة حياتهم تاركا لهم حلما كبيرا. أن تكون أمة واحدة، وأن يكون المصير مشتركا وواحدا ؛ بحيث يستطيع العربـيٌّ أن يشعر من خلاله بانسانيته حتى يتسنى له معانقة العالم بروح تطفح سلاما ومحبة، فهل يتحقق له ذلك ؟ أما المختار اللغماني فكان رحيله يوم التاسع من جانفي 1979 بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة.
Comentários