13 جانفي 1898 لم يكنْ يومًا عاديّا في فرنسا. في هذا اليوم نشرت جريدة L'Aurore الفرنسيّة نصّا للروائي والكاتب الفرنسي "ايميل زولا" (Emile Zola) في شكل رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية "فيليكس فور" (Félix Faure) اتخذ لها عنوانا مربكا سيتحوّل فيما بعد إلى عنوان من عناوين الاحتحاج على كلّ شكل من أشكال الظلم والقهر، وهو -بكل بساطة- "أتّهم" (J'accuse).
هذا النصّ/الرسالة/المقال كان صرخة مدوّية آنذاك ضدّ مظلمة كبرى تعرّض لها الضابط الفرنسي "دريفيس" (Dreyfus) الذي اتهم بالخيانة العظمى وحوكم ظلما في ظل محاكمة افتقرت إلى كل شروط المحاكمات العادلة واعتُبِر عميلا لألمانيا فقط لأنه يهوديّ ومن منطقة "الألزاس" المتنازع عليها بين فرنسا وألمانيا. زولا الذي دافع عن المقهورين في رواياته كان منسجما مع زولا المثقف المنتصر للقضايا العادلة، وهذا النصّ الذي أربك الحكومة الفرنسية ساعتها وزلزل الأرض تحت قيادات عسكرية فاسدة استحال إلى حدث عظيم انقسم الشعب الفرنسي بشأنه بشكل حادّ بين مؤيّد لقضية "دريفيس" ومعادٍ لها، أو لنقل هو حدث كشف النقاب عن مدى احتداد الانقسام في الشعب الفرنسي بين أنصار التحرّر والانعتاق والعدالة والتقدّم وقوى اليمين القومي المتطرّف الذي اتخذ من هزيمة فرنسا ضد ألمانيا -في الحرب التي دارت رحاها في مستهل السبعينات من القرن التاسع عشر- دعامة لينتشر في صفوف الشعب ويكون له موطئ قدم في أجهزة الدولة.
دفع زولا الثمن غاليا، فرأى بأمّ عينيه، من شرفة منزله المطلة على الشارع، كتبه تحرقها جموع غاضبة من المعادين لقضية "دريفيس"، من اليمين القومي-الديني، وتعرّض إلى محاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة، فاختار المنفى بعد أن صدر حكم بالسجن في حقّه، ثمّ عاد إلى فرنسا ليموت في ظروف غامضة مختنقا بالغاز، وبعد وفاته بسنوات أعيد فتح التحقيق في الأمر ليرجّح بعضهم أن وفاته كانت عملية اغتيال مدبّرة قامت بها عناصر منتمية إلى إحدى المنظمات اليمينية المتشدّدة.
على إثر صدور هذا النصّ أعيدت محاكمة الضابط "دريفيس"، ولكن في ظروف أخرى مغايرة، ظروف جديدة خلقها هذا ال"أتهم"، ولئن كان عسيرا على المحكمة الحكم بالبراءة في ذلك الظّرف المشحون وحتى لا تكون المؤسسة العسكرية وأجهزة استخباراتها محلّ إدانة، فقد افرج عن "دريفيس" بعفو رئاسيّ، ثمّ في مرحلة ثانية نال براءته من كلّ التهم المنسوبة إليه وعاد إلى صفوف الجيش الفرنسي.
لمْ يدفن زولا بعد وفاته (سنة 1902) مباشرة في "مرقد العظماء" (panthéon)، وهذا جزء من العقاب الذي لحق به حتى بعد وفاته على كتابته لذلك النصّ الذي قلب المعادلة وأعاد إلى النور قضية كادت أن تُنسى ويقضي بريء نحبه في غياهب السجون مقهورا فقط لأنه من منطقة ما ولأنه يحمل عقيدة دينية ما. بعد ذلك بسنوات، وتحديدا سنة 1908، تداركت الدولة الفرنسية فداحة هذا الخطأ فأعادت دفن زولا في "مرقد العظماء"، وقد كان "دريفيس" ضمن الحشود التي شاركت في هذه الفعالية الوطنية وفاءً لرجل كان له الفضل في انقاذ شرفه العسكريّ وانتشاله من المجهول، وقد تعرّض "دريفيس" أثناء هذه الفعالية إلى عملية اغتيال كادت أن تودي بحياته، ولا نشكّ في أنّ من دبّر لاغتيال زولا هو نفسه من دبّر لاغتيال دريفيس من قوى اليمين الحاقدة على كلّ مختلف وكلّ إبداع وكلّ ما هو جميل ونيّر في حياتنا.
Comments