المفارقة التاريخية عند نيتشه
إرادة الحياة بين الحس التاريخي والحس اللاتاريخي
عطيات أبو السعود
(١) فلسفة نيتشه التاريخية
قد يتوقع القارئ أن نتحدث تحت هذا العنوان عن نوع المعرفة التي اتبعها نيتشه في دراسة التاريخ، أو عن المنهج الذي سلكه لنفس الغرض، وهي الأمور التقليدية التي تتعرض لها أغلبُ دراسات فلسفة التاريخ، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن فيلسوف غير تقليدي مثل نيتشه؛ فالتاريخ بالنسبة له ليس موضوعًا للقراءة، ودراسته لا تنحصر في جمع وثائق وحقائق عن أحداث الماضي وشخصياته، ولا أهمية عنده للترتيب الزماني أو المكاني لأحداث التاريخ، بل لا يعنيه منه تلك المسيرة الأخلاقية التي رسمها الله للإنسان على الأرض للوصول في النهاية إلى المملكة النهائية أو مملكة الله. إن التاريخ بالنسبة لنيتشه مشكلة فلسفية وجودية عينية، وقيمته تكمن في توظيفه «للزمن القادم»، وغايته الكبرى هي الوصول لنماذجه الأسمى.
تنطلق فلسفة نيتشه بأكملها — لا فلسفته التاريخية فقط — من مشروع طموح لإعادة تقييم كل القيم الموروثة. وهو يستهل مشروعه بطرح السؤال: «بماذا نؤمن؟ من هنا يجب أن تحدد أهمية كل الأشياء من جديد.»٢ وقد جعل نيتشه من النقد أساس هذا التقييم ونقطة بدايته، وحدَّد لمشروعه جانبَين يمثل الجانب الأول العنصر الإيجابي لإعادة التقييم كما ظهر في «هكذا تكلم زرادشت»، وتمثل مؤلفاته المتأخرة العنصر السلبي منه: «والآن بعد أن تم الجزء الإيجابي من مهمتي، فقد جاء دور الرفض، دور إطلاق صوت: «اللا» في القول والفعل، إعادة تقييم القيم الموجودة نفسها، تلك الحرب الكبرى، الإهابة بيوم القرار الحاسم.»٣ وقد طرح نيتشه بحثَه النقدي للقيم في خمسة تساؤلات حول القيم الأساسية التي قام عليها جوهر التراث الغربي: «ما قيمة المعرفة؟ ما قيمة الأخلاق؟ ما قيمة الدين؟ ما قيمة الفن؟ ما قيمة الدولة؟»٤ ولأن كلًّا من هذه الأسئلة يستلزم بحثًا أو بحوثًا مستقلة خاصة عندما نعرف أن إعادة تقييم القيم هي المشروع الأساسي لكل أعمال نيتشه منذ كتاباته الأولى الخصبة، وحتى مؤلفاته المتأخرة الأكثر نضجًا، وأن مشكلات القيمة هي المهمة التي وهب حياته الفلسفية من أجلها، فلن نتناول في هذا المجال سوى السؤال الأول الذي يندرج هذا البحث في إطاره لما يتضمنه من أسئلة أخرى: «ما قيمة الحقيقة؟ ما قيمة العقل؟ ما قيمة الموضوعية؟ وما قيمة العلم؟ ما قيمة التاريخ؟ وهل الحقيقة شيء يمكن الوصول إليه؟»٥
لم يطرح نيتشه تساؤله عن طبيعة المعرفة، ولم يهتم بطبيعة الحقيقة — كما فعل سائر الفلاسفة — وإنما حصر دائرة بحثه في قيمة المعرفة، وقيمة الحقيقة، فكان هجومه على التراث الفلسفي الغربي هو بداية هذا المشروع النقدي. فإذا كان أفلاطون «قد وضع في محاورة «الجمهورية» أُسسَ التاريخ الغربي، فإن نيتشه قد دمر في «هكذا تكلم زرادشت» هذا التاريخ الذي وهن وفسد بعد أن أضنته المسيحية تاريخيًّا.»٦ وإذا كان هناك العديد من الفلاسفة الذين اهتموا بطبيعة الحقيقة، فإن القليل منهم هو الذي شك في قيمة الحقيقة، فاتخذ نيتشه من هذا الإغفال نقطة بدايته، وجعل قيمة الحقيقة — وليست طبيعتها — محورًا لفلسفته في إطار نقده للقيم. ولا شك أن عملية إعادة تقييم القيم أدت إلى رفضها بالكامل. فقد رفض نيتشه رفضًا نهائيًّا نظرية المثل أو الصور الأفلاطونية، وأخذ على عاتقه تدمير تلك النزعة. وإذا كان أفلاطون قد أسس قديمًا ما أطلق عليه «العالم الحق»، فقد أكد نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» أن العالم الحقيقي محض خرافة، وبدأ نقده للتاريخ من نقده للفكرة الأفلاطونية-المسيحية عن الحقيقة مدينًا تمييز الفكر الأوروبي بين «ماهية الشيء» و«ما يبدو منه»، مؤكدًا أن روح الاستياء والمرارة التي تميز تاريخ الميتافيزيقا الغربية كله من أفلاطون حتى كانط، إنما كانت نتيجة المقابلة بين عالمَين متعارضَين «العالم الماورائي» الذي تم تصويره على أنه العالم الحق، وعالم الصيرورة (الهنا والآن) الذي تم تصويره على أنه العالم الظاهر فحسب. وهي الفكرة التي جعلت مفكري التراث الغربي يخلقون «عالمًا ميتافيزيقيًّا» كان عند أفلاطون هو «العالم المثل» وكان في المسيحية هو «ملكوت الرب».
نظرت الحضارة الغربية إلى القِيَم على أنها الحقيقة التي تستحق التبجيل، فهذه القِيَم هي التي وضعت الخير في مقابل الشر، والصدق في مقابل الكذب. وأخذ نيتشه على عاتقه اقتفاءَ آثار سلالة تلك القِيَم ليؤكد عدم وجود قيمة بدون تقييم «أيًّا كانت القِيَم في عالمنا الآن فليس لها قيمة في حد ذاتها، ولا وفق طبيعتها — الطبيعة دائمًا بلا قيمة، ولكنها تكتسب القيمة في بعض الأحيان لكونها موجودة — لكننا نحن الذين أضفينا عليها هذه القيمة.»٧ وقد اضطلع نيتشه بهذه المهمة النقدية في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»، وهي المهمة التي تطلبت دراسة الظروف التي نشأت فيها القِيَم الأخلاقية — كيف نمت وتطورت وتغيَّرت — وتطلَّبت أيضًا دراسة الأشكال المختلفة التي ظهرت فيها تلك القيم الأخلاقية. وقد ظهر اهتمام نيتشه بسلالة الأخلاق «في وقت مبكر في سنِّ الثالثة عشر، فكرَّس جهده الفلسفي للبحث عن أصل الشر، وعلى الرغم من أنه نسبه — أي الشر — في هذه المرحلة إلى الله، إلا أنه فصل في سنٍّ متأخرة بين اللاهوت والأخلاق، وتوقَّف عن النظر إلى الشر فيما وراء العالم. فكانت دراسته للتاريخ وعلم اللغة واهتمامه بعلم النفس قد حولت إشكاليته وصاغتْها بشكل أكثر نضجًا تحت أية ظروف ورث الإنسان أحكام القيمة عن الخير والشر؟ وهل أحكام القيمة تُعدُّ ازدهارًا للإنسانية أم علامة على تدهورها؟»٨
للأسباب السابقة قدَّم نيتشه تحليلًا تاريخيًّا وسيكولوجيًّا لنشأة القيم وتطورها في محاولة لإقناعنا بالتخلي عن كل أشكال النزعة الأفلاطونية-المسيحية التي وضعت القيم في عالم الخلود أو في السماء، وهو ما يشجعنا على إيجاد قائمة جديدة من القيم تتصدى للتدهور العدمي الذي غرق فيه التراث الأوروبي. ويناشدنا نيتشه «بتغيير مكان القيم من السماء إلى الأرض، من الأبدية إلى التاريخ، ويتطلب هذا التغيير إثبات الوجود الأرضي والتاريخي؛ لأنه إذا تمَّ إنكارُ أو إغفال أيِّ جزء من الوجود الإنساني، فإن هذا سيفسح مجالًا للمثالية أو يسمح بعودتها وعودة فكرة «ما ينبغي أن يكون» لتعود معها الثنائية التراثية بين الوجود الإنساني الناقص الخالي من القيم واليوتوبيا المتخطية أو المتجاوزة للتاريخ transhistorical Utopia كما عند أفلاطون أو المسيحية.»٩ ويرى نيتشه أن مشكلتنا هي أننا ما زلنا نؤمن بقيم مطلقة وغير مشروطة للحقيقة، وذلك بغير أن نتحقق منها، وأن «ما نحتاجه هو الشك المطلق في كل المفاهيم الموروثة.»١٠
يهاجم نيتشه التأريخ الحديث الذي يقف أمام ما يسميه «حقائق» موقفًا رافضًا للتقييم سواء كان هذا التقييم بإقرارها أو برفضها. ويتساءل في كتابه «جينالوجيا الأخلاق»: «هل يُعلن التأريخ الحديث موقفًا أكثر تأكيدًا للحياة والمثل؟ إن زعمه الأمثل هذه الأيام أنه مرآة: يرفض كل غائية، ولا يرغب في إثبات أي شيء.»١١ ويُرجع نيتشه هذا الموقف السلبي — في رأيه — لأصحاب النزعة التاريخية إلى نموذج الزهد الذي ساد كلَّ الفلسفات السابقة التي نظرت إلى الله كحاكم أسمى ننشده ونحتكم إليه، والذي يطالبنا نيتشه بالتخلي عنه؛ ولذلك تبحث المقالة الثالثة من «جينالوجيا الأخلاق» عن تحرير الإنسان وإرادته من ذلك النموذج، ولا يتم هذا إلا بالبحث في أصول الأخلاق لنكتشف في النهاية أننا نفقد الثقة به (أي بالنموذج)، وينفض الإنسان عن نفسه الخوف ليكتسب الشجاعة: «وبصرف النظر عن المثل الأعلى للزهد ascetic ideal، فإن الجنس البشري لم يكن له معنى، وجوده على الأرض بلا هدف: لماذا الإنسان على الإطلاق؟ كان سؤالًا بلا إجابة، إرادة الإنسان والأرض كانت محتجبة وراء القدر الإنساني الأعظم … ما يعنيه المثل الأعلى للزهد هو أن شيئًا ما مفتقدٌ، أن الإنسان كان محاطًا بفراغ مخيف، لا يعرف كيف يبرر ويؤكد نفسه، وأنه يعاني من مشكلة أن يجد لنفسه معنى، ولكن مشكلته ليست في المعاناة نفسها، ولكن في عدم وجود إجابة عن صرخته المتسائلة: لماذا أعاني؟»١٢
وقد عمقت المسيحية في رأي نيتشه من معاناة الإنسان عندما أنزلت اللعنة على الجنس البشري من منظور فكرة الذنب والخطيئة الأولى، وجعلتهما عمق جوهرها لتدمير الحياة. فأصبح الزهد وما يصاحبه من معاناة نوعًا من العقاب والتطهير معًا، وكان أيضًا هو الذي «قدم للإنسان المعنى، بل كان هو المعنى الوحيد الذي قدم حتى الآن أي معنى هو أفضل من لا شيء على الإطلاق، فيه فُسرت المعاناة، وبد الفراغ الهائل وكأنه امتلأ … معاناة مدمرة من منظور الذنب، مع كل هذا تم إنقاذ الإنسان، امتلك المعنى، ولكن لم يَعُد بالإمكان أن نُخفيَ عن أنفسنا أن الإرادة التي أخذت وجهتها من المثل الأعلى للزهد: هي هذه الكراهية للبشر … هذا الفزع من الحواس، من العقل نفسه، الخوف من السعادة والجمال، هذا التوق إلى الهروب بعيدًا عن كل ظهور وتغيُّر وصيرورة والموت والتمني والتوق نفسه — كل هذا يعني — أنها إرادة اللاشيء nothingness، كراهية الحياة، التمرد على الفروض الأساسية للحياة، ولكنها تبقى إرادة! والإنسان يفضل إرادة اللاشيء على ألا تكون هناك إرادة.»١٣ يتضح من تحليل النص أن المعاناة التي يعانيها إنسان نيتشه تختلف — بغير شك — عن معاناة الإنسان المسيحي، وإن كان لا يفهم من الأولى هل يمارس الإنسان المعاناة من أجل ذاتها، أم من أجل البحث عن المعنى؟ وإذا كان الأمر كذلك فما هو المعنى الذي يقصده إنسان نيتشه؟ لكن المعاناة في الحالة الثانية «المسيحية» هي كما سبق القول نوعٌ من العقاب والخنوع للتطهر من الذنب الذي ألقت به الديانة المسيحية على عاتق البشر؛ ولذلك يعتقد نيتشه أن البحث في أصول الأخلاق وتسلسلها هو المسئول عن موت المسيحية كعقيدة، وهو أيضًا المسئول عن ضعف وهلاك الأخلاق المرتبطة بها. يرفض نيتشه إذن نظرية الحقيقة التي تقرُّ بأن الحقيقة ثابتة، وهي النظرية التي تأسس عليها التراث الفلسفي، والتي استندت إلى نموذج الزهد العازف عن الحياة، ويرفض أيضًا الإرادة المفارقة والمنحرفة — في رأيه — لهذا النموذج، فما هي إذن الحقيقة التي ينشدها نيتشه؟ وما هي الإرادة المصاحبة لها؟
تشكل فكرة الحقيقة محورًا أساسيًّا في فلسفة نيتشه، ولكننا لا نستطيع أن نخوض في هذه المشكلة الكبرى التي تضمنت موقفه من نظريات الحقيقة. فقد تناولت دراسات عديدة مشكلة الحقيقة عند نيتشه وعرضت تفسيرات كثيرة لها منها ما اعتبره بعضُ الباحثين تفسيرات تقليدية للمشكلة كتلك التي قدَّمها كلٌّ من هيدجر وكاوفمان، ومنها ما أطلق عليه تفسيرات غير تقليدية كما عند دي مان De man، والدراسات التي وردت في كتاب«نيتشه الجديد» New Nietzsche، وهناك بعض الدراسات التي تؤكد تطور فكرة نيتشه نفسه من موقفه من الحقيقة خاصة في أعماله المتأخرة التي ربط فيها بين الحقيقة والعلم، وعلاقة الحقيقة بإرادة القوة وإرادة الحقيقة. وللأسباب السابقة لن نتعرض لجوهر هذه المشكلة التي من الممكن أن تجرف هذا البحث عن الإطار المرسوم له، ولكننا سنشير فقط إلى هجوم نيتشه الشديد على المثل الأعلى للزهد لاعتقاده أن الإيمان بالحقيقة هو التعبير الأخير عن هذا المثل الأعلى.
ربط نيتشه مبدأ الزهد بالفلسفة، فإذا كانت الروح الفلسفية قد نشأت لظروف طارئة من المثل الأعلى للزهد، فهو يحاول من جانبه تحرير الفيلسوف من الزهد وتحرير الحقيقة من العبودية. فقد درج الفلاسفة على النظر إلى الحقيقة على أنها ثابتة، وبذلك تم عزلها عن الحياة، في حين يرى نيتشه أن الحقيقة متغيرة، وتخضع لتقلبات الحياة وتغيراتها. ولذلك يطرح سؤاله «الجينالوجي»: ماذا تريد إرادة الفيلسوف للحقيقة؟ لتأتي الإجابة بأنها إرادة محافظة، كل ما تنشده هو المحافظة على الذات. فالفيلسوف يفضل التحديد على عدم التحديد، الثابت على المتغير، الواحد على المتعدد، لقد كان الدافع الأخلاقي في تاريخ الفلسفة هو دافع الإبقاء على نموذج محدد من الحياة.
ويرفض نيتشه — بطبيعة الحال — إرادة الفيلسوف للحقيقة بالمعنى السابق شرحه؛ لأنه يرى أن الفيلسوف ممثلٌ لإرادة القوة، ولاقتناعه أيضًا بأنه لا يمكن لأي شيء أن ينشأ مستقلًّا عما حوله، ولا يمكن له أن يحيَا بعيدًا عن علاقته بالأشياء الأخرى، فهذه العلاقة هي التي تشكل ظروف وجوده واستمراره لقد نشأت كل القيم والأفكار والمفاهيم في الزمان وفي صور متعددة؛ ولذلك كانت مهمة نيتشه في بحثه عن أنساب الأخلاق هي أن يبرز تلك الظروف العينية والتاريخية إلى النور. كذلك انحصرت مهمتُه في تقديم تحليل أو تشخيص تاريخي للحاضر، وتقويضه ليفتح إمكانيات تدعيم أو تعزيز الحياة، فالتقييم الأخلاقي إذن هو أساس البحث عن الحقيقة. وتصبح الحقيقة في رأي نيتشه «قيمة تستحق الاحترام فقط عندما ترتبط بالتقييم»، أي عندما ترتبط بفعل الإرادة. فالحقائق ليست في عالم المثل الأفلاطوني ولا في طبيعة الأشياء، وإنما في الإرادة التي تعبر عن نفسها في هذا العالم، عالمنا الأرضي، وبهذا المعنى فقط تكون «جينالوجيا الأخلاق» عند نيتشه هي المنهج الذي بفضله نكتشف أصل الأفكار والمثل في فعل الإرادة. وتركز الجينالوجيا على نوعية خاصة للإرادة، فعلى سبيل المثال يعيد نيتشه تفسيرَ عبارة «الحقيقة قيمة» أو «الحقيقة تستحق التبجيل» في عبارة أكثر دقة «أنا أريد الحقيقة بدلًا من الخطأ. الجينالوجيا إذن دراسة للطريقة التي تريدها الإرادة، هل هي إرادة ضعيفة أم قوية؟ هل هي إرادة نبيلة أم تابعة؟ هل هي فعلٌ مبدع أم ردُّ فعلٍ انتقامي؟ هل هي إثبات للحياة أم إنكار للإرادة؟»١٤
لذلك كله جاء بحث نيتشه في أنساب الأخلاق على مرحلتين، في المرحلة الأولى بحث الظروف التي نشأت في ظلها أحكام القيمة، وفي المرحلة الثانية طرح التساؤل عن قيمة أحكام القيمة. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول إن المرحلة الأولى كانت بمثابة المرحلة التمهيدية للمرحلة الأخرى النقدية؛ ولذلك كانت الوظيفة الأساسية لجينالوجيا نيتشه هي وظيفة نقدية. «إن البحث في أصول تقييماتنا وقوائم الخير ليس متطابقًا على الإطلاق مع النقد الموجه لها على الرغم من أن الإحساس بنوع من الأصل المخجل يجلب معه شعورًا بتناقص قيمة الشيء الذي نشأ بهذه الطريقة، كما يمهد السبيل لموقف نقدي منه. ما هي على الحقيقة قيمة تقييماتنا وقوائمنا الأخلاقية؟ ما هي محصلة سطوتها؟ وبالنسبة لأي شيء؟ الإجابة من أجل الحياة»، لكن ما الذي يعنيه نيتشه بالحياة التي طرح من أجلها كلَّ تلك الأسئلة؟ يتساءل هو نفسه، ثم يجيب: «لكن ما هي هذه الحياة؟ تشتد الحاجة إلى صيغة جديدة أكثر تحديدًا لمفهوم الحياة، إن مفهومي عنها هو: الحياة هي إرادة القوة.»١٥
يبدو تعريف نيتشه للحياة في هذه العبارة غير محدد تمامًا — كما تصور هو ذلك — ولن نجد في كتاباته — على كثرتها — تعريفًا جامعًا مانعًا لمفهومه عن الحياة. وليس ما يهمنا هنا هو البحث عن مفهوم محدد لفكرة الحياة، بل إن ما يهمنا هو تأكيد نيتشه على أن الوجود كلَّه ليس إلا الحياة، وليست هذه الحياة إلا إرادة، ولكن هذه الإرادة ليست فحسب إرادة حياة كما يقول شوبنهور، بل هي إرادة القوة التي لا تعني سوى التسامي والعلو. ولذلك فإن الحقيقة عند نيتشه هي ما يساعدنا على الاستمرار في الحياة، وهي في كلمة واحدة ما ينفع الحياة، وبهذا المعنى تكون الحقيقة مرتبطة بالحياة ومتقلبة معها، وليست ثابتة ولا مطلقة، بل هي وسيلة غايتها نفع الحياة.
Comments