لعلَّني لا أبالغُ عندما أقول إن “الرسالة الثقافية” و”المثقف” هما من أكثر الأشياء التي تدور حولها التساؤلاتُ في المجتمع، سواء مِن حيث المفهوم والتعريف، أو مِن حيث الدور وطبيعة المهام، ويبدو أنها تساؤلات تعيد تكرارَ نفسها بدءا من ((جان بول سارتر)) حتى ((ادوارد سعيد))، وأعتقدُ أن تجدد أو بقاءَ هذه التساؤلاتِ قابلٌ للطرح يُعد مؤشرا لأهمية الموضوع، ومؤشرا لطبيعته المتغيرة، فكل مرحلةٍ لها طبيعتُها، ولها متغيراتها التي تجعل النقاشَ حول “الرسالة الثقافية” و”دور المثقف” مطلبا ملحا لبيان الرؤى وتحديد المواقف، أضفْ إلى ذلك أن طبيعة “الثقافة” و”المثقف” نفسيهما متغيرةٌ مع تغير عناصر الزمان والمكان والسياق الاجتماعي التاريخي؛ لذا يبدو التساؤل حول “الثقافة” ـ و”المثقف” و”دورهما” في المجتمع ـ مادةً بِكرا للعمل والإضافة والاجتهاد في كل مرة يتناولها باحثٌ بالتحليل والتأويل في ظرف مكاني أو زماني أو اجتماعي مختلف. وهذه هي الخلفيةُ التي انطلقتُ منها في تحليلي هنا، وهي خلفيةُ أن المنطقةَ المرادَ اكتشافُها حول النظر “للثقافة” و”للمثقف” وتحديد “الرسالة” و”الدور” منطقةٌ قابلة للإضافة والاسهام والتطوير؛ لذا كان الجهدُ المقدم هنا ليس مجردَ إعادةِ تكرارٍ لِمَا سبق قبله، وإنما هو تقديم رؤيةٍ تستقرئ الواقعَ وتستلهمُ خلفية ثورة يناير، وما يحدث على الساحة حتى الأن.
المحور الأول: ما “الثقافة” ومَن “المثقف”؟
لعل الأمرَ يبدو سَلِسا في المفهوم العام، فعندما نُطلق كلمة “الثقافة” و”المثقف” تبدوانِ وكأنهما معروفتانِ للجميع، ولكن عند محاولة التدقيق في المعني، عند محاولة الكتابة عنهما وتحديد حدهما المانع الجامع ـ على حد وصف المناطقة ـ لتحديد مَن ينطبق عليه هذا الوصف ومن لا ينطبق، نجد أن الأمرَ ليس على هذا القَدْرِ من السهولة، وهي اشكالية تحتاج لقدر من التناول، فالكلمتانِ مشتقتانِ مِن (ثَقَف)، فما الدلالة مِن ذلك؟ يقول الدكتور محمد عابد الجابري: ((لقد لاحظنا أن مفهوم ((المثقف)) مفهومٌ ضبابي في الخطاب المعاصر على رغم رواجه الواسع، إذ هو لا يشير إلى شيء محدد، ولا يحيل إلى نموذجٍ معين، ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة.))([1])
قد تبدو مقولة ((الجابري)) بها قدر من الحدة، فالقول بأن مفهوم “المثقف” به نوع من الضبابية ينافي الاستخدامَ الواسع في أغلب البلدان العربية، ماذا عن ذلك المعنى المستقر الذي يتحدث عنه الدكتور ((محمد العناني)) في مقدمته لترجمة كتاب ((ادوارد سعيد)) “المثقف والسلطة” عندما يقول: (((…) وكذلك ارتباطها بالكلمة الحديثة نسبيا وهي (Intelligentsia) والتي جرى العرفُ في الوطن العربي على ترجمتها “المثقفين” أو حتى بطبقة المثقفين، بمعنى الذين يقومون بأعمال ذهنية أو تلقوْا قدرا من التعليم يؤهلهم لممارسة هذه الأعمال، وهم من يطلق عليهم صفة “المهنيون” أو أصحاب المهن، تمييزا لهم عن “الحرفيين” أي أصحاب الحرف اليدوية (…)))([2]).
ولكي تتضحَ الصورةُ أكثرَ علينا أن نأخذ في الاعتبار أن ما يتحدث عنه الدكتور ((محمد عناني)) هو الترجمة للمصطلح، أما ما يتحدث عنه الدكتور ((الجابري)) هو المعنى الدلالي والتأويلي المستقر والمستخدم في الأذهان العربية، فبعيدا عن التوثيقات الأكاديمية، والترجمات الغربية هناك في أرض الشارع خلطٌ شديدٌ بين معانٍ عدة منها: “الحضارة”، “الثقافة”، “العلم”، “الفن”، وبالتالي هناك خلط شديد في المفاهيم المقابلة لهذه المصطلحات، مفاهيم مثل: “متحضر”، “مثقف”، “عالم”، “فنان”، وهذا الخلط في المجتمع العربي، وتحديدا بعد الانفتاح الاقتصادي، وبعد طغيان المادة على المجتمعات العربية، وهيمنة قيم السوق الاستهلاكي، فأصبح المواطنُ العربي ينظر لهذه الفئات بعين المقابل المادي، فيبرز مِن وسطها “الفنان” ويُقصدُ به (الممثل) ذو الأجر العالي بوصفه حالة استثنائية في منظومة القيم العربية، أما “المثقف” فهو معنى لا نجد له مقابلا اقتصاديا أو اجتماعيا واضحا، إنها وظيفة لا تأتي بمال، أو صفة لا ينتج عنها تميزٌ في المجتمع، وأنا لا أتحدث هنا عن الصعوبات التي يلاقيها المثقف وإنما عن المفهوم المترسخ في الشارع العربي، وسأعود للصعوبات في المحور الثاني.
إذن نحن بحاجةٍ مبدئيةٍ لتحليل المعني الدلالي “للثقافة”، حتى نفهم أكثرَ الدورَ المسند “للمثقف”، فرؤية المجتمع “للثقافة” نفسِها، يتحدد على أساسها بشكل كبير دورُ المثقف، ولعل أقربَ وأيسرَ المعاني التي يمكن ردُّ اللفظةِ إليها في اللغة العربية ما ورد في “صحاح اللغة” بأن ((الثِقَافُ .........................................................................................
.....................................................................
Comments