إن السؤال الفلسفي الذي في الغالب ما يتجنبه الفلاسفة، هو سؤال: ما هي الفلسفة؟ لأن الفلسفة اليوم ليست هي الفلسفة في العصور الوسطى أو في العصر الحديث، إذ تختلف مجالات الفكر من مرحلة إلى أخرى، لهذا نجد هناك من ربط الفلسفة بالتفكير وهناك من ربطها بالتأمل والبعض الآخر بالحقيقة، ولكن بعد ما استقلت مجموعة من العلوم التي كانت تنتمي إلى حقل الفلسفة، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، مما دفع بعض الفلاسفة والمفكرين وخصوصا فلاسفة تيار ما بعد الحداثة، للبحث عن مهمة للفلسفة وعما يميزها عن بقية العلوم الاخرى، وأهمهم: الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (1925 – 1995)، الذي خَلُص إلى أن مهمة الفلسفة لا هي بتفكير ولا بتأمل، بل مهمتها الأساسية تكمن في خلقها للمفاهيم وإبداعها. وهذا ما دعانا لطرح بعض الإشكالات، التي تراود كل باحث في مجال الفلسفة المعاصرة وتاريخها: لماذا جعل دولوز مهمة الفلسفة الأساسية هي خلق المفاهيم؟ وما طبيعة هذه المفاهيم؟ وإلى أيّ حد يمكن اعتبار الفلسفة وحدها القادرة على خلق هذه المفاهيم؟
إن جعل مهمة الفلسفة تنحصر في هذا الشأن، ليس بالأمر الهين، بل هو نتاج نظرة شاملة ودقيقة لتاريخ الفلسفة، مما دفع دولوز إلى نقد الفلاسفة الذين جعلوا من الفلسفة مبدأ شاملا للتأمل والتفكير أو التواصل، كما هو الشأن عند الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، الذي ذاع صيته في العالم الغربي، بسبب نظريته عن الفعل التواصلي، والذي اختار طريقا مغايرا عن معاصريه، لأنه نظر للحداثة على أنها مشروع غير مكتمل، ولازال في حاجة إلى من يطوره ويصل به إلى أبعد حد ممكن، عكس تيار ما بعد الحداثة [1]؛ الذي يحمّل الحداثة السبب في كل الكوارث والأزمات التي نعيشها اليوم، لهذا نجد دولوز يقول في كتابه “ما هي الفلسفة”، “إن الفلسفة ليست تأملا، لأن التأملات هي الأشياء ذاتها…، وليست تفكيرا، لأن لا أحد في حاجة إلى الفلسفة للتفكير في أيّ شيء كان، فنحن نعتقد أننا نعطي الكثير للفلسفة حينما نجعل منها فنا للتفكير، لكننا نجرّدها من كل شيء…، ولا تجد الفلسفة أيّ ملجأ نهائيا في التواصل، الذي لا يعمل بالقوة إلا في مجال الآراء، وذلك من أجل خلق(الاجماع) وليس من أجل خلق المفهوم” (دولوز،1997 ص31).
فما يسعنا قوله، هو أن دولوز ومن معه، قد عملوا على نقد كل التيارات التي تنظر إلى الفلسفة كنسق تاريخي. مما جعل دولوز يؤسس نظريته الفلسفية على مبدأ التعدد والاختلاف الذي استقاه من الفيلسوف الفرنسي برجسون (1859 – 1941)، كما أنه لم ير أن هناك فرقا كبيرا بين الفلسفة والعلم، بل رأى أن “كلاهما من أساليب الفكر الإبداعي، ومكملان لبعضهما البعض، إلى جانب الفن” (موسوعة ستانفورد للفلسفة، 2019، ص34).
فإذا كانت الفلسفة ليست تفكيرا شاملا أو تأملا أو تواصلا، فما الذي تبقى للفلسفة؟ قد يكون دولوز على صواب حين جرد الفلسفة من طابعها الشمولي والنسقي في عصر يشهد التعدد والاختلاف، وقد تكون غاية دولوز الأساسية هي أن يجعل للفلسفة موضوعا خاصا بها، يميزها عن باقي العلوم الأخرى التي أصبحت تلعب دورا مهما في المرحلة المعاصرة. ولهذا فدولوز لا ينكر أهمية هذه العلوم بل يقر “أن العلوم والفنون والفلسفات في الحقيقة مبدعة بدورها، حتى وإن كان إبداع المفاهيم بالمعنى الدقيق يرجع إلى الفلسفة وحدها. لا تكون المفاهيم في انتظارنا وهي جاهزة كما لو كانت أجساما سماوية، ليست هناك سماء للمفاهيم. بل ينبغي ابتكارها وصنعها” (دولوز،1997، ص 30)، بمعنى يجب على الفيلسوف أن يبدع المفاهيم الخاصة به، وألا يعمل على إعادة طرح المفاهيم السابقة وكأنها منزّلة من السماء، لأن المفاهيم وليدة مجتمعاتها وثقافتها وبنت زمانها، ولا بد أن يكون هناك هدف أو حاجة تدفع الفيلسوف إلى خلق هذه المفاهيم، لأنه لا الفنان ولا صانع أفلام يرسم أو ينتج فيلمًا سينمائيا بلا هدف أو حاجة تدفعه لإبداع ذلك، فمهمة الفن حسب دولوز هي “إبداع العلامات التي بدورها ستدفعنا خارج عادتنا الحسية إلى حالات الإبداع” ( موسوعة ستانفورد للفلسفة، 2019، ص 36)، ولهذا يرى دولوز أن الفن لا يمكن أن يكون مدركا، ولكن يمكن أن يكون محسوسا فحسب.
لقد استمد دولوز فكرة إبداع المفاهيم من الفيلسوف الألماني نيتشه حين قال “لا ينبغي أن يكتفي الفلاسفة بقبول المفاهيم التي تمنح لهم مقتصرين على صقلها وإعادة بريقيها، وإنما عليهم إبداعها وطرحها وإقناع الناس باللجوء إليها” (دولوز، 1997، ص 31)، ولهذا يتوجب على الفيلسوف أن يتوخى الحذر دائما من المفاهيم التي تتناقل من فيلسوف إلى آخر، بل يجب أن يعمل هو بنفسه على خلقها. لكن السؤال هو: كيف يتم خلق هذه المفاهيم؟
يتولد المفهوم حسب دولوز حين “يقوم فيلسوف بنقد فيلسوف أخر، حيث يعملان على إذابة المفاهيم القديمة وإبداع أخرى جديدة”(دولوز، 1997، ص 50)، لهذا يرى دولوز أن أولئك الذين ينتقدون دون أن يبدعوا أيّ مفاهيم، فهم ينتقدون بأدوات ليست بأدواتهم مثل (الجدل الهيجلي، والنقد الكانطي أو الكوجيتو الديكارتي) فهذه أدوات مستهلكة، قد يكون لها دور في زمانها أما اليوم فنحتاج إلى أدوات جديدة ومفاهيم مستقلة بذاتها، لهذا يؤكد دولوز على أن مهمة الفيلسوف الأساسية هي إبداع المفاهيم والدفاع عنها، ولكن كيف يمكننا تمييز المفهوم الفلسفي عن غيره من المفاهيم؟ يجيب دولوز أن المفهوم الفلسفي “ليس تمثيليا ولكنه تركيبي؛ ليس إسقاطيا وإنما اقتراني، ليس تراتبيا وإنما تجاوري، لا يحيل على غيره وإنما هو قائم بذاته” (دولوز، 1997 ص 104)، أي أن المفهوم لا يخلق من مفهوم أخر بل هو يخلق من ذاته ولكن بشكل تجاوري، له علاقة بالواقع ومشكلاته، وكما يقول في هذا الصدد ليبتنز “يتحدد المفهوم بقوامه الداخلية وقوامه الخارجية، ولكن دون أن تكون له إحالة، إنه ذاتي الإحالة، إنه يطرح نفسه ويطرح موضوعه، في الوقت ذاته” (دولوز، 1997 ص 44)، فبالنسبة إلى قوام المفهوم الداخلي يتعلق الأمر بعدم انفصال مكوناته عن بعضها البعض، رغم اختلافها، وهذا ما يصب في الجانب النسبي للمفهوم. بينما القوام الخارجي يخص “العلاقة التي تجمع المفهوم بغيره من المفاهيم الموجودة على المقام نفسه…، حيث يلتقي المفهوم بغيره من المفاهيم، فيتولد شيء جديد بين المفاهيم، لا ينتمي إلى هذا ولا ذاك” (قوتال، 2018، ص183). وهذا ما يؤكد أن المفهوم يحتوي على صفة المطلق والنسبي معا، لأنه لا يوجد من شيء، بل هو من ذاته ولذاته، حتى إن هذه المفاهيم الفلسفية تعيد فعاليتها بذاتها أثناء حدوث أية مشكلة تستوجب إعادة طرحها.
وبما أن الفلسفة هي إبداع للمفاهيم، فهي في حاجة إلى شخصيات مفهومية، تساهم في تحديد هذه المفاهيم والتعريف بها وخلقها كذلك، لهذا نجد معظم الفلاسفة أبدعوا شخصياتهم المفهومية، التي في الغالب ما تحمل أسماء مختلفة؛ إما أسماء علم مثل: شخصية سقراط عند أفلاطون، وزرادشت عند نيتشه، غير أن هذه الشخصيات في غالب الأحيان تكون هي المتحدث الرئيس داخل فلسفتهم، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عمّن الذي يتحدث، هل الفيلسوف أم الشخصية المفهومية؟ فإذا كان الفيلسوف يتحدث من خلال هذه الشخصية، فهذا العمل لا ينطبق على الفيلسوف وحده، لأن الروائيين والمسرحيين، دائما ما يبدعون شخصيات يعبّرون من خلالها عن أفكارهم، مثل الراوي – السارد، في الروايات، ولكن الشخصية المفهومية عند دولوز، ليست هي ممثل الفيلسوف، بل العكس من ذلك؛ “الفيلسوف ليس إلا غطاء لشخصيته المفهومية وللعناصر الأخرى التي هي وسائط وذوات حقيقية للفلسفة، فاسم الفيلسوف ليس إلا اسما مستعارا لشخصيته المفهومية” (قوتال، 2018، ص204). لهذا قال دولوز إنه لا أهمية للمفهوم وهو منقطع عمن يُمَفْهِمُه.
خاتمة
حقا إن إبداع المفاهيم من خصائص الفلسفة ولا شيء غيرها، وهذا ما يجعلها تكتسب مشروعيتها في كل مكان وفي كل علم حاول توظيف مفاهيمها، ولكن في المرحلة المعاصرة، ظهرت بعض المجالات المنافسة للفلسفة في مهمتها، مثل علم الاجتماع ومجال المعلوميات والاتصالات والترويج التجاري، مما جعل دولوز يرفض رفضا قاطعا نظرية هابرماس التواصلية، لأنها تُدخل الفلسفة في نقاش مع قوى تعمل على قلب كوجيتو الفكر والوجود، إلى كوجيتو البيع والسلعة، حيث أصبح الفيلسوف هو الشخص القادر على التأثير في الأشخاص الأخرين أثناء عرضه للمنتوج. فمجال الربح والبيع، يجعل قيمة الفلسفة تتراجع؛ لأنها لا تنتج السلع بقدر ما تنتج المفاهيم والقيم. ولهذا السبب يجب أن تكون هذه المفاهيم الفلسفية قوية؛ كي تستطيع أن تقاوم وتدافع عن نفسها. ولكن ألا يمكننا القول إن حصر مهمة الفلسفة في إبداع المفاهيم، هو من جعل الفلسفة تنظر إلى هذه المجالات الحديثة كمنافس لها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر ومراجع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دولوز جيل، غتاري فيليكس (1997) ما هي الفلسفة. (ط1). ترجمة: مطاع صفدي، بيروت: مركز الانماء القومي.
موسوعة ستانفورد للفلسفة (2019). جيل دولوز، ترجمة: مروان محمود ومحمد رضا، مجلة الحكمة (دون عدد)، ص ص: 1 – 53.
قوتال زهير (2018) المفهوم الفلسفي عند جيل دولوز. (ط 1). بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[1] ما بعد الحداثة: هو أسلوب في التفكير ظهر في الغرب المعاصر، يميل إلى التشكيك في الطريقة التقليدية لتفسير الحقيقة والعقل والهويات والأفكار، والتأسيس لمناقشتها من منظور نسبي سوسيولوجي بعيد عن أسلوب الميتافيزيقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مجلة الجديد / 2022/04/01
* يوسف امجيدة باحث من المغرب
Comentarios