
في أواخر دجنبر من عام 2002 نشر الصحافي المصري صلاح محفوظ ملفا مثيرا عن لوحة فنية على صفحات المجلة الأسبوعية الإماراتية (الصدى)، أحدث في حينه زوبعة كبرى في الأوساط الثقافية والفنية والإعلامية في البلدان العربية.
اتصل الصحافي الشاب بثلة من الكتاب والنقاد الفنيين التشكيليين ليخبرهم بأنه بصدد إعداد ملف عن لوحة تشكيلية اسمها (أمريكا والعالم)، رسمها أمير خليجي ثري بالألوان المائية، ويعتزم عرضها بأحد معارض لندن. وفي هذا الإطار طلب منهم الصحافي تزويده بتحليلاتهم وانتقاداتهم للوحة لتُجمع في كراسة تُرفق معها. وزاد فأطلعهم بأن هناك مكافأة مالية سخية لمن يبدع أكثر في قراءة مكنون اللوحة وسبر أغوارها. فأرسل لكل واحد منهم صورة عنها. وذلك ما كان. تنافس المثقفون والنقاد والأدباء في تحليلهم للوحة (أمريكا والعالم)، وتفننوا في ذلك إلى أن قالوا عنها ما لا يخطر على بال. قال شاعر عنها: "غيوم من الموسيقى والإيقاع اللوني الهادئ..." وقال ناقد: "لا جدال بأن الفنان آثر أن يهجر المكرر والرقيب في الحركة التشكيلية العربية، من أجل إقامة حوار لوني عفوي يستند إلى إحكام البناء وتجانس الدرجات اللونية..." وقال آخر: "تكاد تشتم فيها رائحة الخُزامَى، والفجر، والحلم، والحب، والشمس، والرقة..."! وكتب ناقد آخر: "المطلوب من قارئ اللوحة أن يتسلح بذائقة مختلفة، تبتعد بمسافة غير محسوبة عن أنماط التلقي التقليدي الذي يبنى على حسابات الكتل والمساحات، وقوانين التشريح وكيمياء الألوان..."! وقال كاتب آخر: "لوحةُ (أمريكا والعالم) رفض لوني، أو إدانة ضوئية متوهجة عبر لوحة تجريدية ذات بعد فلسفي عميق..."!
وفي يوم 22 دجنبر من عام 2002 نشر الصحافي صلاح محفوظ ملفه عن لوحة (العالم وأمريكا) في مجلة (الصدى) تحت عنوان لافت: (فضيحة ثقافية "بجلاجل")...!
كانت المفاجأة في منشور الصحافي أن الفنان الذي رسم اللوحة لم يكن سوى قرد من فصيلة الشامبانزي، استعان به لنصب كمينه للنقاد الجهابذة، بعدما وضعه في غرفة ووفر له ألوانا مائية وفرشاة وورقا وكل ما يلزم. وتدرب الصحافي أمام نظر القرد لساعات، ثم تركه لحاله "يلطخ" لوحة (أمريكا والعالم)...! وكان دافعه المباشر إلى التفكير في الموضوع لوحة تجريدية أهديت إليه من صديق فلم يعرف الطريقة الصحيحة لتعليقها. خجل من جهله في البداية، لكنه تشجع وطلب مساعدة زملائه في العمل بمجلة (الصدى)، ثم معارفه من بعدُ، لكنهم لم يوفقوا جميعهم في معرفة الاتجاه الصحيح للوحة، لاسيما أنها كانت بدون توقيع...!
وبعد إفشاء السر وانتشار الخبر كالزلزال بعد نشر التقرير كانت ردود فعل الكتاب المعنيين، صنّاع البهتان الذين انتحلوا صفة النقاد التشكيليين، متباينة ومتفاوتة من كاتب لآخر، كما سيخبرنا فيما بعد الصحافي المشاكس في حوار له: فمنهم من احتج وشكك، ومنهم من نكر واستنكر، ومنهم من هدده بالقتل، ومنهم أيضا من أُدخل على عجل إلى مصحة الأمراض النفسية والعقلية...! لا أريد أن أعلق على هذه القصة، وأترك ذلك للقارئ الكريم. لكنني أود أن أقول: ما أكثر كُتاب البهتان وصناع الأكاذيب ومروجي الأوهام بين المثقفين والفنانين والإعلاميين في بلداننا العربية وفي العالم بأسره. جرت هذه الفضيحة الثقافية المدوية في نهاية عام 2002، وبعدها بأسابيع قليلة جرى غزو العراق بناءً على أكذوبة من نوع آخر...!
نجيب مجذوب
Comments