في العام 1967 نشر الناقد والمفكر الفرنسي رولان بارت (1915 - 1980) مقالته "موت المؤلف" La Mort De L'auteur ليقلب حال النظرية الأدبية المعاصرة رأسًا على عقب، وليضع بذلك أحد المصطلحات البارزة والمؤثرة في الجماليات والنقد الفني المعاصر. لقد قال بارت "إن النص من الآن فصاعدًا على كافة مستوياته وبجميع أدواته، منذ صناعته وحتى قراءته، يظهر بشكل يغيب فيه المؤلف غيابًا كاملاً". ويدعو بارت إلى أن نحذف من قاموسنا كلمة "مؤلف" لنحل محلها "الكاتب"Le Scripteur. والكاتب – وفقًا لبارت- ليس في داخله "عواطف" ولا "أمزجة" ولا "مشاعر" ولا "انطباعات". لا يوجد لديه إلا ذلك القاموس الضخم الذي يستمد منه كتابة "نشاطًا لفظيًّا" لا يمكن أن ينفد أبدًا "فالحياة لا تعرف شيئًا سوى أن تحاكي الكتب وما الكتب ذاتها إلا مجرد أشياء مصنوعة من العلامات".
العمل الفني، وفقًا لبارت، مستقل تمامًا عن مبدعه. والمؤلف دوره ينتهي بكتابة النص، والعبء يقع بعد ذلك على القارئ في عملية القراءة، عبء اقتناص المعنى في تعدديته واختلافه، وهذا ما يجعل القارئ مشاركًا في عملية إنتاج النص. فدور القارئ لا يقل أهمية عن دور المؤلف، ولا يمكن فصل عملية القراءة عن الكتابة، إذ هما متلازمتان. والقارئ هو الذي يقرر معنى النص من خلال استرشاده بالعلامات التي يستخدمها المؤلف، لكنه لا يتقيد بها، ويمكنه أن ينتصر، من خلال النص، للمعنى الذي تستحضره العلامات في ذهنه، والذي يمكن أن يتغير من يوم لآخر ومن قارئ لآخر.
كان لمقولة بارت، التي باتت الآن معروفة بدرجة كبيرة في الثقافة العربية، تأثير كبير على الجماليات بوجه عام وعلى حركة النقد الأدبي على وجه التحديد، خاصة فيما اصطلح على تسميته بجماليات التلقي. ولعل أهم النتائج التي ترتبت على إعلان بارت موت المؤلف تمثلت في تحرير الفكر النقدي من سلطة الذات ومرجعيتها، وجعل العمل الفني هو المرجعية الوحيدة للناقد، هو المتحدث الأول والأخير.
من بين النتائج العديدة التي نتجت عن إعلان بارت موت المؤلف، والتي كان لها تأثير كبير على نظرية التلقي في نهايات القرن العشرين:
1 - لم يعد العمل الفني موضعًا لتسجيل الحدث أو مجالاً للتعبير أو انعكاسًا وجدانيًّا. لقد أصبح التعبير الجمالي حالة من حالات التمثل الخالص للمتلقي. وهنا يمكن القول أن نظرية المحاكاة الكلاسيكية قد ذهبت بلا رجعة. إذ لم يعد الفن مرآة تعكس ما هو موجود في الحياة سلفًا، كما لم يعد الفن انعكاسًا لحياة الفنان وتجاربه. لقد غدا العمل الفني متحررًا من كل مرجعية سوى مرجعية ذاته. يموت المؤلف ويتحول التاريخ والموروث إلى نصوص متداخلة، ويتم الاحتفال بمولد القارئ.
2 - تحرر العمل الفني من سيطرة التفسير الأحادي الذي كان مسيطرًا على الاتجاهات النقدية الكلاسيكية. فالعمل الفني ليس إطارًا أو شكلاً يملأه الفنان بمعنى ثابت وسرمدي، بل بنية دلالية افتراضية، محققة من طرف المتلقين المتعاقبين عليه. لقد صار العمل الفني ميدانًا للعلامات التي تتفجر إلى ما هو أبعد من المعاني الثابتة، إلى المعاني اللانهائية التي تتحرك منتشرة فوق العمل مخترقة كل الحواجز؛ وهذا ما كان يعنيه بارت بالانتشار Dissemination.
3 - ليس المعنى هو ذلك المعنى الجاهز المختبئ داخل العمل الفني، بل هو ذلك الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين العمل والمتلقي؛ أي بوصفه عملاً يمكن ممارسته واكتشافه من جديد، وليس موضوعًا يمكن تحديده والتقيد به. وبناء على ذلك، فإن قراءة العمل الفني لا تمثل إعادة وتكرارًا للقراءات السابقة، بل هي تحتضنها وتتجاوزها إلى قراءة إبداعية مغايرة وبديلة.
4 - لا تعيش الأعمال الفنية منعزلة عن بعضها البعض، بل لها عالمها الافتراضي الذي تتقاطع بداخله وتتداخل في علاقات منتجة. إن عالم الفن هو عالم التكرار والاختلاف، وميدانًا للعود الأبدي، عودة المختلف. فالحبكات التي يتحرك فيها الفن هي في النهاية محدودة، وكذا موضوعاته، لكن حركة التقاطعات التي تحدث بين الأعمال الفنية هي التي تنتج أعمالاً لا نهائية.
5 - لقد تم استثمار النتائج السابقة في صياغة نظرية أكثر تطورًا على يد أمبرطو إيكو في نظريته عن العلامات وتطبيقاته على فني الأدب والتصوير، ومن بعده مدرسة كونستانس Konstanz على يد رائديها هانز روبير ياوس (H. Robert Jauss (1921- 1997 وفولفجانج إيزر (W. Izer (1926- 2007، اللذين قاما بالتقريب بين الفينومينولوجيا، وخاصة فينومينولوجيا رومان إنجاردن (R. Ingarden (1893- 1970، ونظرية القراءة، ليكون نتاج ذلك ما أطلقوا عليه جماليات التلقي. وقد فتحت جماليات التلقي أفقًا جديدة في الممارسة الفنية النقدية، بحيث حاولت أن تتخفف من مركزية النص وسلطته التي رسخها بارت، ومن بعده التفكيكيين، لتؤكد على أن عملية القراءة تسير في اتجاهين متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة تفاعلية.
وعلى الرغم من تلك النتائج المهمة التي ترتبت على أطروحة بارت، فقد تعرضت أيضًا لانتقادات عديدة، فالبعض رأى أنها استبدلت سلطة المؤلف بسلطة النص، استبدال مركز بمركز آخر. وقد دفعه هذا الاحتفاء إلى نوع من التقديس الميتافيزيقي للنص "ليس وراء النص فاعل أو مسند إليه (كاتب) وليس أمام النص مفعول به (قارئ)؛ لا فاعل ولا مفعول به، النص يجعل المواقع النحوية غير ذات صلاحية...". والبعض الآخر رأى أن إعلان بارت به نوع من الافتعال غير المبرر، وأنه لا يمكن بحال تجاوز المؤلف، كما لا يمكن إلغاء السياق الثقافي والاجتماعي الذي يدور النص في فلكه. كما أن بارت في تحليلاته اللغوية كانت تسيطر عليه، في بعض الأحيان، نزعة صوفية واضحة تجاه النص، جعلت الكثير من تلك التحليلات يبدو غير مفهومًا، ومواقفه تبدو متناقضة في الكثير من الأحيان.
وعلى الرغم من أن تحليلات بارت بالفعل كان لها الأثر الأهم في أن تخطو الجماليات خطوات متقدمة في نهايات القرن العشرين، خاصة في مجال النقد الأدبي، إلا أن إعلان بارت موت المؤلف لم يكن مقنعًا بالدرجة الكافية، وأسقط النقد الأدبي فيما أطلق عليه بارت حتمية الشكل، والذي ترتب عليه الاهتمام المفرط بالعلامات والدوال المستخدمة، وما تبع ذلك من الإغراق في التجريد، وافتقاد الشاعرية في التحليل، وصعوبة اللغة المستخدمة. إن من مقتضيات تمام العملية الإبداعية أن تكون هناك صلة نفسية ومعرفية بين أطرافها: المؤلف، النص، القارئ وذلك يتيح "حرية للقارئ في إعادة بناء النص، وإذا انتفت المسافة النفسية افتقد القارئ القدرة على ممارسة خبرة الإبداع في تذوق العمل الفني، وأضحى العمل الفني نوعًا من التغييب للقارئ، بينما تتيح المسافة النفسية أن يكون حضور القارئ مساويًا لحضور المؤلف لكي يدير حوارًا معه"، فكيف يحدث ذلك إذا افترضنا موت أحد أطراف عملية الإبداع وهو المؤلف.
لقد ألغى إعلان بارت تأثير الذات الإنسانية الفاعلة، والتي هي حصيلة التفاعل العام والشامل مع الوجود، وبذلك أصبح المنظور البنيوي للوجود لا علاقة له بكينونة الإنسان التاريخية والاجتماعية، بل بالعلاقات اللغوية الشكلية التي تعتمد المنهج الجمالي المجرد للأشياء التي تتشكل دلالاتها ذاتيًّا دون فعل الإنسان.
ورغم أن السيميوطيقا قد اعتمدت بصورة كبيرة على الإجراءات التي قدمها بارت إلا أن السميوطيقيون قد أدخلوا تعديلات جوهرية على رؤية بارت تسمح بتجاوز مقولته عن موت المؤلف، وكذا مقولته عن لذة النص:
فالعمل الفني، كما يذهب إلى ذلك موكارفسكي، لا يمكن مساواته بأي شكل من الأشكال بالحالة النفسية لمنشئة ولا حتى للظروف الاجتماعية التي ظهر فيها، العمل الفني مستقل عن ذلك بالفعل. غير أن الشيء الذي يمثل العمل الفني في عالم الواقع يظل قائمًا، وهو متاح لكل فرد كي يدركه بدون قيد أو شرط. فلابد أن تحيل العلامة إلى شيء ما، الفن علامة مستقلة خاصيتها الأساسية قدرتها على أن تستخدم وسيطًا بين أعضاء نفس الجماعة. وبالرغم من أن بعض العلامات لا تحيل إلى شيء معين إلا أنها يمكن قراءتها من خلال السياق الكلي الذي ظهرت فيه، أي الظواهر الإنسانية من فلسفة وسياسة ودين واقتصاد. وهذا هو السبب الذي يجعل الفن أكثر قدرة على تمييز عصر بعينه وتمثيله دون غيره من الظواهر الاجتماعية الأخرى، وهذا يفسر أيضًا السبب وراء اختلاط الفن طوال تاريخه بتاريخ الثقافة، والعكس صحيح أيضًا فقد نحى التاريخ العام إلى استعارة تقسيم تاريخ الفن في تحديد الحقب الزمنية. وبالإضافة إلى ذلك يذهب موكارفسكي إلى رفض النظريات الجمالية المبنية على الفرضية التي تقول إن غاية الفن هي اللذة. فالعمل الفني قد يولد لذة ما تكتسب موضوعية نسبية باعتبارها "دلالة إضافية" كامنة في العمل الفني، ولكن يكون من الخطأ إذا ما تم استخلاص نتيجة من ذلك مفادها أن هذه اللذة تكون جزء لازمًا وضروريًّا من عملية إدراك العمل الفني. فالفن ينزع في بعض مراحل تطوره إلى إثارة اللذة، غير أن هناك مراحل أخرى لا تكترث باللذة كلية بل تنحو إلى محوها وإثارة مشاعر مضادة لها.
وبعيدًا عن السيميوطيقا نجد بيير بورديو (1930 - 2002) Pierre Bourdieu يتخذ موقفًا ناقدًا من هذا الاتجاه، وهو بصدد تحليله لحقل الإنتاج الفني. فقد توصل بورديو في كتابه "قوانين الفن" إلى صيغة معتدلة لا تنجرف وراء التحليلات النفسية والاجتماعية، وفي الوقت ذاته ترفض القراءات الداخلية للأعمال الفنية التي تتجاوز الظروف التاريخية التي أنتجتها. فالعمل الفني ليس مجرد تعبير عن عبقرية الفنان، ولا هو مجرد انعكاس للظروف الاجتماعية والنفسية له، بل يتم إنتاجه من خلال الطابع الثقافي، الذي يعكس الأصل الاجتماعي والمسار الشخصي للفنان، وحقل- فضاء منظم من الاحتمالات- يحوي شتى المذاهب والأساليب المتنافسة كما تتحدد الاحتمالات ذاتها من قبل التطور التاريخي لذلك الحقل، فلا يوجد كاتب (أو فنان) يبتكر ببساطة أسلوبًا فنيًّا من عدم، بل هو يتخذ موقفه بناء على ما هو سائد من أنماط فنية وأساليب متبعة، فإما أن يختار تكرار ما هو موجود، أو أخذ نوع فني قائم ودفعه إلى أقصاه. لذا فإن كل تصريح فني يتضمن نوعًا من "اتخاذ موقف" فيما يتعلق بالأعمال القائمة والمواقف الماثلة في الحقل الفني، وتنوع المواقف التي يستطيع أي فنان أن يتخذها في ضوء التاريخ السابق للحقل. وفي رأي بورديو، أن حقل الإنتاج الفني هو عالم من الثورة الدائمة والتمرد على الأساليب القائمة. وأن تفسير هذه الثورة يحتاج إلى فهم الحقل الثقافي بكافة مكوناته، خاصة أن هناك محددات تمارس تأثيرها على العمل الفني وعلى طرق استقباله لا دخل للفنان بها، ومنها الظروف الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية.
من ناحية أخرى، ومن داخل البنيوية ذاتها نجد لوسيان جولدمان، رغم تأثره بأفكار بارت، كان مدركًا لخطورة الموقف الذي يقودهم إليه عزل المؤلف والسياق عن البنية اللغوية المكتفية بذاتها. وقد دعا جولدمان إلى ربط البنية النصية الداخلية بحركة التاريخ الاجتماعي والسياق الثقافي، ودمج بين أقانيم النص الثلاثة؛ الشكل والبنية والسياق، ورأى أن رؤية العالم تشكل مع البنية ذات الدلالة وحدة متكاملة، وذلك يفترض الانتقال من رؤية سكونية يفرضها ثبات البني اللغوية إلى رؤية دينامية شاملة ومتماسكة حتى نستطيع الإحاطة بالنص من جميع زواياه.
إن عزل الخطاب الأدبي عن السياق التاريخي والثقافي للنصوص أدى إلى قصور في النقد البنيوي، ولذلك نظر ميشال فوكو إلى الخطاب الأدبي بوصفه نشاطًا إنسانيًّا إبداعيًّا مركزيًّا، ولا يراه نصًّا عامًا يزخر بالدلالات بمعزل عن السياق التاريخي الذي يقتضي تغيرًا في الخطاب.
ومن منطلق مشابه يشير روبرت هولاب في كتابه نظرية التلقي، إلى أن كلاً من المعنى والبناء ينتجان من تفاعل القارئ مع النص، الذي يقارب العمل الفني بتوقعات دلالية مستمدة من المعارف التراكمية المشتركة والسياقات الثقافية والاجتماعية المتداخلة، أو ما يسمى "أفق التوقعات"، هذا الأفق بمثابة القواسم الدلالية المشتركة بين المؤلف والقارئ وهو الذي يحكم حركة المتناصات "إن التناص كالمؤلف تمامًا لا يكتسب وجوده إلا مع وعي المتلقي به، لنتصور مثلاً ما يحدث على مستوى الأفق الاستبدالي داخل النص من مفردات وصور ليست موجودة داخله، ولكنها بدائل كان من الممكن للمؤلف أن يستخدمها وهي في غيابها حاضرة في تحديدها للوحدات التي استخدمت بالفعل في السياق، وإذا لم يكن القارئ معدًا واعيًا بهذه البدائل على مستوى الاستبدال فلن يكون للنص داخل العمل قيمة ومعنى".
وقد اقترح البعض القيام بعملية إزاحة مؤقتة لسلطان المؤلف عن النص، ثم نعيده ضيفًا عليه "إن مفهوم الموت لا يعني الإزالة والإفناء، ولكنه يعني تمرحل القراءة موضوعيًّا من حال الاستقبال إلى التذوق، ثم إلى التفاعل وإنتاج النص وهذا يتحقق موضوعيًّا بغياب المؤلف، فإذا ما تم إنتاج النص بواسطة القارئ فإنه من الممكن حينئذ أن يعود المؤلف إلى النص ضيفًا عليه". وهذا المعنى نجده عند بارت في أعماله المتأخرة، يقول في مقالة له بعنوان من الأثر إلى النص "لا يعني هذا أن المؤلف لا يمكن أن يعاود الظهور مجددًا في النص، في نصه، لكنه لو عاد سيكون في صورة مدعو".
أخيرًا، إن منح القارئ هذه الأهمية لم يكن يتطلب بالضرورة "تهميش المؤلف" واعتباره "آلة ناسخة للكلمات"، فموت المؤلف هو في الأصل تهميش للإنسان، لوجوده وفاعليته. النص أنتج في غير زمان ومكان ومؤلف. تهميش للإنسان ضد الاحتفاء به في الاتجاه الحداثي "فعندما يتم عزل النسق يتم عزل التاريخ أيضًا، فتغدو الأبنية كلية لا زمنية، أو هي أجزاء اعتباطية من عملية تغيير غير تاريخية ومتحولة أبدًا".
Comments