top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

'منقول إليكم فقط' كتب الشاعر والأديب التونسي منصف الوهايبي



أتابع بانتظام، منذ سنوات ما يصلني من فرنسا، وتحديدا من المجلّة Poesibaoوهي إلكترونيّة تُعنى بشتّى أشكال الكتابة الشعريّة في العالم. وفي أعدادها الأخيرة، استوقفني ملفّها عن الكتابة باللغة الأمّ والكتابة بلغة الآخر أو «الأمّ البديلة» كما أفضّل. فهل الكتابة بالأولى خيارٌ حقيقيّ؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا يتخلّى البعض عنها للغة أخرى؟ وهل يعني ذلك أنّ لغة المهجر هي التي تخيّرته؟

أهو فرار وهروب أم منفى داخل المنفى؟ بل أهو رفض للوطن الأوّل أم قرار سياسيّ؟ هل الكتابة بلغة «الأمّ البديلة» يتوافق مع حركة الهجرة هجرة الكاتب/ الشاعر؟ بل كيف ينشأ هو في رحم هذه «الأمّ»؟ ثمّ يولد ويدرج ويشتدّ عوده، فيكون شخصا آخر؟ وهل الكتابة بهذه صيرورة أخرى؟ وقد اختارت المجلّة أن تطلعنا على مواقف بعض هؤلاء الذين هجروا لغتهم الأمّ، وتخيّروا الفرنسية؟ ولماذا الفرنسيّة تحديدا؟ وهل الكتابة بلغتين نوع من الحضور الآني المشترك في مكانين أو أكثر معا: «أنا/ هنا وهناك وهنالك/ الآن». والأسئلة كثيرة، وهي ما تنفكّ تطرح، لأنّ تاريخ كلّ لغة هو عالم قائم بذاته.

وكأنّ الأمر يتعلّق بعلاج نوع التّرادف في ألفاظ هاتيْن «الأمّين» أو هذين «الرحِميْنّ» على ما بينهما من الفروق الدّقيقة والظلال الخفيّة التي تمّيز كلمة من أخرى. وثمّة دائما علّة لغويّة تكمن وراء ذلك، فاللّفظان الواقعان على معنى واحد في اللغتين أو على مسمّى واحد، يختلف كلّ منهما عن الآخر صوتا وجرسا، فيه معنى ليس في صاحبه. وربّما كان الفرق من الخفاء والدّقّة فيذهب في الظّنّ أنّه مجرّد تعداد أو تنوّع لغويّ ليس إلاّ؛ أو هو «تواطؤ» لغويّ لا أكثر ولا أقلّ.

ليكن، فهذه مغامرة الكتّاب/ الشعراء الذين ولدوا مرّتين، فلنقرأ ماذا يقولون عن هذه الولادة أو هذه «النشأة» الثانية.

تقول مادلين أكتيبي ابنة أثينا، وهي شاعرة وفنانة لها اهتمام خاصّ بالتاريخ والفلسفة والإعلام والنضال النسويّ والبيئيّ؛ إنّها لم تتخلّ قطّ عن لغتها الأمّ، وإنّما هي ترحل معها ميْلا أو عدولا؛ إذ تجدها في تركيب الجملة وفي الكلمات اليونانيّة التي أعيدت صياغتها في الفرنسيّة؛ حتى وإن كانت تلجأ إليها بين الفينة والأخرى، وتكتب بها بجودة أقلّ، وغموض أكثر مما كانت عليه قبل ربع قرن. فاليونانيّة تتبعها وترافقها في كلّ مكان حتى عندما لا تطلب إليها ذلك، بل هي تأبى أن تنسحب، وتخلي مكانها تماما لـ«الأمّ البديلة»؛ حتى عندما شرعت في إسكاتها خلال السنوات الأولى من الإقامة في فرنسا.

فاللغة الأمّ تلاحقنا، وتتلبّس بأجسادنا؛ وتصفرُ في آذاننا صفيرا خفيفا، وتضحك وتنبثق هنا وهناك؛ نبتعد عنها وننأى، لكنّنا نظلّ منشدّين إلى دفء شمس أكتوبر، وعطر أوراق التين وأشجار الزيتون. وتعترف الشاعرة بأنّها بهذا الصنيع، جعلت ذاكرتها في حال من الفوضى، حتى أنّ قصائدها صارت أشبه بقطع معدنيّة متناثرة، لا يمكن تجميعها.

وتستحضر سيسيل أ. هولدبان التي ولدت في شتوتغارت لأب فرنسي وأمّ مجريّة، وهي شاعرة ومترجمة، شهادة حنّه أرندت في مقالها «اللغة الأم لا غير»: «لطالما رفضت بوعي أن أفقد لغتي الأمّ. لكنني حافظت دائما على مسافة محسوبة مع كلّ من الفرنسيّة، التي كنت أتكلّمها جيدا؛ ومع اللغة الإنكليزيّة وهي اللغة التي أكتب بها اليوم». وتقول سيسيل إنّها دون أن تقارن نفسها بأرندت، تدرك جيدًا ما تعنيه بذلك؛ حتى عندما لا تكون هذه المسافة، بإرادة منها، بل هي فطريّة فيها؛ كما لو أنّها تتنقّل بشكل دائم بين نصفي الكرة الأرضيّة اللغويّين، أو كما يقول أبو تمّام في صورة أبلغ:

كأنّ به شوقا إلى كلّ جانبٍ// من الأرض أو ضغنا على كلّ جانبِ.

ذلك أنّ علاقتها باللغة الأمّ، ترتبط ارتباطًا وثيقا بالتاريخ الشخصي والعائلي. على أنّ للتاريخ كلمته، فهو غالبا ما يهوي على اللغة بفأسه العظيمة، ويصيبها؛ إذ كان جدّاها للأمّ فرّا من بودابست من الجيش الأحمر، مع أمّها التي كان عمرها في ذلك الوقت بضعة أشهر، في رحلة مضنية ملحميّة. وكانوا مثل كل هؤلاء المهاجرين الذين يتوقون إلى الاندماج، مشبوهين في نظر الفرنسيين في ذلك الوقت؛ حتّى أنّ هذين الجدّين كانا يتمنّيان لو ماتت أمّها وأختها.

كانت اللغة المجريّة هي اللغة التي يتحدّث بها جدّاها. وحاولت والدتها، في مراهقتها أن تتعلّمها؛ وسعت إلى ذلك بمفردها، وهي تصغي بسمعها وقلبها، إلى حديث والديها، أو بقراءة أعظم وأشهر ما ألّف فيها.

لذلك فإنّ الظاهرة المعاكسة تماما حدثت مع الجيل الثالث الذي تنتمي إليه؛ فوالدتها كانت تتحدّث فقط معها ومع أخواتها باللغة المجريّة تفضيلا منهنّ، وخيارا حميما. وبما أنّها نشأت مع عائلة أمّها، فإنّهم لم يتحدّثوا مع بعضهم البعض بالفرنسيّة. إنّما كانت الفرنسيّة لغة المدرسة، ولغة والدها وعائلته. ثمّ سعت بعد الدراسة بالفرنسيّة، إلى استعادة هذه اللغة الأمّ، فالتحقت بمدرسة ثانويّة في بافاريا تستضيف أطفال الشتات المجري. وكانت هذه السنوات الأجمل في حياتها. أمّا المجر فظلّ موطنًا للحلم، وشغفا وحنينا. ومن ثمّة استشعرت الحاجة إلى إنشاء جسور بين هذين العالمين اللغويّين اللذين يتميّز كلّ منهما برؤيته الخاصّة للعالم، فترجمت إلى الفرنسيّة شعراء مجريّين؛ كانت تعيد اكتشافهم بطريقة مختلفة، في محاولة للتوفيق بين عوالم متباعدة؛ واللغة تكشف وتحجب.

كتبت قصائدها الأولى باللغة المجريّة، ثمّ بالفرنسيّة التي فرضت عليها كما تقول؛ من حيث هي مجرّد إمكان لتسمية العالم. وتخلص سيسيل إلى أنّ الفرنسيّة بالنسبة إليها هي لغة الكتابة، فيما المجريّة هي لغة التحدّث. وهي لا تملك أيّ تفسير لذلك، وقد يكون مردّ الأمر إلى أفراد عائلتها الذين كانوا يغنّون، وينشدون القصائد باللغة المجريّة؛ فالمجرية هي لغة الأذن، فيما الفرنسيّة، وهي اللغة التي تعلّمت القراءة بها لغة العين. ومن هنا منشأ القلق في علاقتها بالعالم.

وتقول فلورا بونفانتي، وهي تحمل إلى جانب جنسيّتها البرازيليّة، الجنسيّة الإيطاليّة؛ وتعيش في فرنسا منذ عام 2014 ونشرت كتابين بالفرنسية، إن اللغة هي أداة نختارها حتى أقل من اختيار الطفل لمزماره؛ وإنّ هزيمة الكاتب الأجنبي الذي يكتب بغير لغته الأمّ، فرصة للغة التي تخرج منتصرة؛ لكنّها ملوّثة بالدماء. وتقول سابين ماشر (ولدت في ألمانيا الغربية وعاشت في فرنسا منذ القرن الماضي. كاتبة ومترجمة ومصورة ومصمّمة رقصات) إنّ الفرنسيّة فسحت لها مجال الحرّيّة، لتقول بها ما كانت تتهيّب قوله باللغة التي تتحدث بها والدتها.

وتقول كاتيا بوشوفا وهي تعيش في فرنسا، إنّها ما زالت تكتب قليلا باللغة الروسيّة، لكن الفرنسيّة صارت بالنسبة إليها مساحة نفسيّة رئيسة بل لغة الحياة؛ وإنّ الروسيّة بدأت تهجرها، وهي تقبل هذا الهجران. لكنّه إذ تعيد قراءة نفسها، تشعر بأنّها لم تعد تعرف كيف تكتب، ولا بأيّة لغة؛ فتقول الجملة بصوت عالٍ لتسمعها، غير أنّ أبسطها يصبح لغزا عندها، بل وحشا.

هي اليوم تدمج اللغة الفرنسية في بعدها الحيوي والغنائي، في خباياها الرطبة والزلقة قليلاً؛ وتنشد اندماجا صوتيّا مخصوصا في حياتها اليوميّة، وتقوم بنسخ المهارات اللغوية لأولئك الذين يأتون إليها أو يعملون أو يعيشون معها؛ حتى أنّها جعلت من نفسها ببّغاء يتكلّم أذ يردّد ما يقوله الآخرون دون تفكير. ومع ذلك لا تخفي أنّها تجد نفسها كليّا أو جزئيّا في الاقتباسات من نمرود وسيوران وكاتب ياسين وصموئيل بيكيت.

لعلّ أبسط ما خرجت به من هذه الفسحة، وأعمقه أنّ «اللغة الأمّ وحدها هي التي تبقى [وترسخ]» كما يقول غونتر غراس.

2 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page