top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

منقول إليكم فقط: ــــ كل الأصدقاء لا يعادلون عدوّاً واحداً! إبراهيم نصرالله القدس العربي


الحوار الذي يدور بين أطراف تنتمي إلى جوهر فكرته لأنها تقف على أرضية واحدة، أطراف تريد التوصّل بصدق إلى فكرة أكثر نضوجاً مما توصل إليه كل طرف منها، هو الحوار المثالي، أي أن تأتي حاملاً أفكاراً تتبناها، وحين يطرح الآخر فكرة مقنعة تكون مستعداً بسعادة أن تغيّر هذا الجزء أو ذاك من فكرتك، أي أن الأرضية الأساسية لمثل هذا الأمر هو أن تكون قابلاً لتطوير فكرتك، وبالتالي تطوير ذاتك القابلة لأن تنصتَ باعتبارها ذاتاً متعلِّمة لا مُتعالِمة، رهيفة لا غليظة القلب، ومنفتحة على العالم لا متحصّنة في جُحْرها الذي يتراءى لها أنه قمة الدنيا.

.. وهناك أشكال أخرى من الصعب أن ندعوها حواراً، فهي سجال حيناً، وجدل بيزنطي حيناً، ومعارك دونكيشوتية حيناً، وشتائم حيناً، واستعراض عضلات فكرية تكون ضامرة حيناً، وممتلئة بالهواء حيناً، وقاسية كالحجارة حيناً، وصناعية حيناً، مثل تلك التي يستخدمها ممثلون مصابون بالهزال، ليقوموا بدور هرقل على الشاشة.

لكن أسوأ الحوارات هي تلك التي يمتشق فيها البشر سيوفهم وأفقر ما فيهم من قيم ويتدرّعون برقتهم المراوغة، أو أظافرهم، أو دروعهم الصُّلبة، وكأنهم ذاهبون لخوض حرب.

وهنالك في عالمنا العربي الكثير من هذه الأنماط، ومن أولئك الذين يمكن أن يناصروا كل مفردة يقولها شخص ما، دون أن يكلفوا أنفسهم بسماع ما قاله الذي قبْله، هذه فئة محزنة، لأنها في النهاية لديها موجة واحدة أو تردّد واحد لا يلتقط إلا محطة واحدة، مع أنه قد يكون في التردد السابق أو اللاحق فرصة حقيقية لرؤية العالم بوضوح أكثر. هذا النمط من الشخصيات يشبه كثيراً من الشخصيات التي عبّر عنها الأدب والسينما، حيث تكون النجاة على بعد أمتار، لكنها تموت عطشاً أو عزلة أو جوعاً أو اختناقاً. هذه الشخصيات يمكن أن ندعوها تراجيدية.

بعض هؤلاء أيضاً ينتمون إلى المكوِّن العقلي للعشيرة في أضيق أفكارها، وأكثرها تخلّفاً، حتى وإن قدموا أنفسهم ما فوق العلمانية. ولا يسلم من هذا كثر، وهم من نمط «أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» لأنه غير مستعد لقراءة تتمة هذا الحديث الشريف. هؤلاء يتمتعون بكل ما منحهم العمى من ظلام، أو منحهم القمع من ديمقراطية زائفة، وقد يصبحون نوَّاباً في البرلمان باسم الديموقراطية، وهم يفرحون بهذه الديمقراطية، لكنهم يحرصون قبل مغادرة بيت العائلة متوجّهين إلى بيت الأمة، أن يضعوا رشاشاتهم أو مسدساتهم في صناديق سيارتهم الفخمة التي تليق بمنصبهم، وحينما يحتدم النقاش الذي لا تستوعبه عقولهم، سيخرُج الواحد منهم غاضباً، ويمتشق سلاحه، ويطلق النار تحت قبة حرية الحوار.

في أماكن كثيرة يحدث هذا، وفي قاعات الحوار التي تقام فيها الندوات. ذات مرّة بعد أن انتهى كاتب من تقديم ورقته، وبدأ النقاش، وكان حارًّا، ولا نقول حادًّا، وقفت زوجة الكاتب بغضب وقالت: والله، زوجي يفهم أكثر منكم كلكم!

وفي الصحافة يحضر هذا، لكنه لا ينطلق من براءة تنتمي لبراءة نُصرة تلك الزوجة لزوجها، التي للأسف غير مبنية على المعرفة، بل ينطلق من التعالُم، وفي ظنّي أن التعالم والجهل هما الشيء ذاته، لأنهما لا يريان ما هو خارجهما، وغير مستعدّين للتخلّي عن نظّارتيهما الشمسيتين رغم حلكة الليل.

الفعل الصادر عن جهل يدعو للحزن والشفقة، لكن الفعل الصادر عن المتعالِم يدعو إلى الرثاء، لأنك تكون شاهداً على ضمور عقل يحمل بذرة تفتّح أصيب بتلف الشبكية مبكراً. وهذا النمط، بسواد شعر صباه أو ببياض شعر شيخوخته، لا يستطيع أن يعيش إلا بوجود أعداء له، فإن لم يجدهم اخترَعهم، وإن لم يجدهم بين مخالفيه حوّل أحد أصدقاء فكرته إلى عدوّ، لأنه لا يستطيع أن يعيش في غياب عدوّ. فوجوده قائم لأن له عدوّاً، لا لأن له الكثير من الأصدقاء، فكل أصدقائه في الحقيقة لا يعادلون عدوّاً واحداً بالنسبة إليه!

لقد أشرتُ إلى ذلك ذات مقالة، حين قلت إنهم يحوّلونك إلى عدوّ لمجرد أنك تختلف معهم بمقدار 5٪ ولا يرون أنك معهم بمقدار 95٪. هكذا انقسمت أحزاب، وتفتّت دول، وأخفقت حركات فكرية واجتماعية وسياسية في الوصول إلى أهدافها، لأن مكوّنات فكرتها – صغيرة كانت أو كبيرة- تتحوّل إلى ما يشبه الدّين؛ فالقبيلة ليست مجرد جزء من مكونات المجتمع، إنها تغدو بمثابة دين! والحركة الاجتماعية ليست فكرة خلاقة لتحسين وضع البشر وتحقيق العدالة، فهي إبادة للآخرين، وبمثابة دين، والحزب يتحوّل إلى دين أيضاً، بحيث يغدو أكبر من الوطن ومن الإنسان، وبهذا يمكن أن يقبل هذا الحزب بدمار الوطن لكنه لا يقبل أن يتزحزح قليلاً ليرى أن هناك بشراً آخرين، وأحزاباً أخرى، كالطغاة تماماً! ولتقريب الأمر، يبدو هذا صورة لمنهج الرئيس الأمريكي ترامب، الذي لا يقبل بأي نتيجة للديمقراطية التي أتت به إلى البيت الأبيض، إنه يريد أن تكون الديمقراطية مودعة في حسابه الشخصي، وهكذا الأمر مع بشر آخرين يريدون أن يُوضع العالم كله في «حساب» فكرتهم الشخصية.

هذا لم يُنجب الانقسامات والشروخ والدمار وإنتاج الأعداء الذي تحدثت عنه وحسب، لكنه أنجب أيضاً الاتجاهات الأكثر تشدداً التي من فرط احتكارها للدين ابتكرت الداعشية، ومن فرط احتكارها للوطن أنجبت الديكتاتورية، ومن فرط احتكارها لجنس أو عرق أنجبت الفاشية والنازية، ومن فرط احتكارها للولاء لفكرتها المقفلة على ذاتها ألغت مكونات اجتماعية، وإنسانية وسياسية وفكرية.

يؤرقني أن مذبحة تقع -وهذه قصة حقيقية- لأن إحدى العائلات ذهب رجالها الصناديد إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة، فوجدوا أن أفراد عائلة أخرى من القرية ذاتها احتلوا الصفّ الأول قبْلهم. وهكذا تحدث مذبحة لأن كل عائلة تريد أن تكون مالكة لذلك الصفّ. الغريب أنهم ينسون، في تلك اللحظات الدامية وما قبلها، أنهم قادمون لأداء صلاة واحدة، لإله واحد، وينتمون لدين واحد، وقرية واحدة ووطن واحد، لكنهم لم يتنازلوا عن فكرة لا بدّ منها ليكون لهم الوجود الذي لن يعيشوا إلا به: أن يكون لهم أعداء وأن ينتصروا عليهم، حتى في أمر كهذا!

إنهم لا يطيقون فكرة وجود آخر حتى وإن كان الآخر هو هم.

ولذا، تشعر في كثير من الأحيان أن من العبث أن تجلس في شرفتك لتحاور عقليّاً نيران ليلة أو أكثر من ليالي القصف العشوائي.

ونعود إلى بداية المقال من جديد، لنعيد: الحوار الذي يدور بين أطراف تنتمي إلى جوهر فكرته، لأنها تقف على أرضية واحدة… إلخ إلخ!

4 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page