يُعَرِّفُ أرسطو المأساوي (أو التراجيدي) بأنه كل ما يستدعي الشفقة أو الرهبة. على هذا المنوال، فباسكال هو أكبر مفكر تراجيدي على الإطلاق ( نعم، أكبر حتى من نيتشه) لأنه يُبَيِّنُ، أفضل من غيره، كم هو رهيب ومرعب الوضع البشري.
شخصيا، أميز بين نوعين من الخوف : الخشية والرَّهبة. الخشية تتعلق بالممكن، مثل الأمل، ولهذا فإن هذين الاثنان لا ينفصلان أبدا : " ما من خشية دون أمل، وما من أمل دون خشية"، كما يقول فرانسوا دو لا روشفوكولد في مأثوراته، أو اسبينوزا في "الإتيقا". هل تخشى المرض؟ هذا معناه أنك تأمل في أن تبقى بصحة جيدة. نلاحظ غيابا تاما للمأساوي في هذه الحالة: كل ما في الأمر هو مخاوف صغيرة، آمال صغيرة، في عمقها طريفة. ما أعنيه بالرهبة هو شيء آخر مُغاير: إنها خوف لا يتعلق بالممكن، كما هو الحال في الخشية، بل بالواقعي، بالضروري أو بما لا مفر منه على الإطلاق. يُضاف إلى ذلك أن الرهبة لا تكون مصحوبة بالأمل (لأن ما نخشاه قد أصبح مؤكدا)، وهذا ربما ما يميزها أفضل: إنها خوف يائس ومُيَئِّس. لم نَعُد هنا بصدد الطُّرفة ! نحن في صلب الموضوع، الذي هو الوضع البشري.
فمثلا، إذا قلت لك : " أنا خائف من الموت بالسرطان"، فستجيبني بما يلي : " إذن فأنت تأمل في الموت بشيء آخر غير السرطان"، وستكون على حق. ما من أمل دون خوف، وما من خوف دون أمل. ولكن إذا قلت لك " أنا خائف من الموت"، فلن يكون بمقدورك إجابتي كما يلي: " إذن فأنت تأمل في عدم الموت..."، طبعا لا، فأنا أعلم تماما بأني سأموت يوما. الخوف من الموت لا يصاحبه أي أمل، على الأقل في المجال المحايث (l’immanence). في قاموسي، لا يتعلق الأمر هنا بخشية، بل برهبة. باسكال، دون استخدام هذا المصطلح الأخير، يُعبر عن الموضوع بطريقة قوية :
" لنتخيل عددا من الأشخاص مكبلين بالسلاسل، ومحكوم عليهم جميعا بالموت، وحيث أن كل واحد منهم يتم قطع رأسه يوميا على مرأى ومسمع من البقية. الذين يستمرون على قيد الحياة يرون وضعهم الخاص في وضع زملائهم الذي يقضون تباعا، وهم يحملقون في وجوه بعضهم البعض بألم ودون أمل، ينتظرون أدوارهم أيضا. إنها صورة الوضع البشري."
فولتير، وخلال قراءته لهذا النص، اعترض قائلا " المصير الطبيعي لشخص ما ليس هو أن يكون مكبلا بالسلاسل أو مذبوحا". لِيَكُن. من هنا الصيغة المجازية لعبارة باسكال. لكن ماذا عَمَّا وراء السطور؟ باختصار، يخبرنا باسكال بما يلي : " كلنا سنموت.." وفولتير يجيبه فيما يشبه هذه الإجابة تقريبا : " مهما يكن من أمر فأنت تبالغ..". في الواقع، هو لا يبالغ، هو فقط يضع يده على مكمن الألم. بوسعنا حذف المجاز الذي لا يعجب فولتير ويجده غير موفق. هل يغير ذلك في لب الموضوع شيئا؟ لا شيء، وهذا ما يُعَبِّر عنه مقطع آخر، بدون أي مجاز هذه المرة، على الأقل فيما يتعلق بالوفاة : " المشهد الأخير دموي، مهما كانت المسرحية جميلة فيما تبقى. نرمي التراب، في الأخير، فوق الرأس وها هو ذا الحال إلى الأبد".
ليس هناك سوى الموت الذي يمكن أن يكون مأساويا أو مصدرا للرهبة، بالمعنى الذي أعطيه للكلمة. فمثلا عندما يكتب باسكال بشكل رائع : " الصمت الأبدي لهذه المساحات اللانهائية يشعرني بالرهبة". هل يأمل من وراء قوله هذا أن تشرع هذه المساحات في محادثته؟ طبعا لا. لا يتعلق الأمر بخشية، بل برهبة. أيضا عندما يكتب، فيما يخص رغبتنا في السعادة : " نحن لا نعيش أبدا، نحن نأمل بأن نعيش"، لدرجة " أنه في دأبنا أن نكون سعداء، لا مفر من ألاَّ نكون كذلك ". هذا "اللا مفر"، فيما لو عدنا إلى التعريف اللغوي نفسه، لا يترك أي مجال للأمل، على الأقل فيما يخص هذه الحياة. نمضي من أمل إلى خيبة أمل، من خيبة أمل إلى أمل جديد، " وهكذا فإن الحاضر لا يرضينا أبدا، التجربة تخدعنا، ومن حزن إلى حزن تحملنا حتى الموت الذي هو ذروته الأبدية."
هذا الهروب المتواصل نحو الممكن (أمل، خشية)، هو حقيقة حياتنا (رهبة، شفقة). هل هكذا يعيش البشر؟ نعم، هكذا يعيشون. هل معنى ذلك أنه علينا أن نأمل في وجود "حياة أخرى"، كما كان يفعل باسكال نفسه، أم علينا أن نأمل في أن يكون باسكال مخطئا، كما يفعل العديد من الناس. هل هذا كل شيء؟ لا. يوجد موقف ثالث ممكن : يمكننا أيضا أن نقبل بكل ما يخبرنا به باسكال حول الوضع البشري، لكن من دون إتباعه في إيمانه، من دون محاولة تعزية أنفسنا أو طمأنتها. فقط عندها نصبح أمام المأساوي في حالته الخام. من هنا انطلقت، حين بدأت أتفلسف...
Philosophie Magazine, hors série : Blaise Pascal, l'homme face à l'infini. 2019
"هكذا انقسمت أحزاب، وتفتّت دول، وأخفقت حركات فكرية واجتماعية وسياسية في الوصول إلى أهدافها، لأن مكوّنات فكرتها – صغيرة كانت أو كبيرة- تتحوّل إلى ما يشبه الدّين؛ فالقبيلة ليست مجرد جزء من مكونات المجتمع، إنها تغدو بمثابة دين! والحركة الاجتماعية ليست فكرة خلاقة لتحسين وضع البشر وتحقيق العدالة، فهي إبادة للآخرين، وبمثابة دين، والحزب يتحوّل إلى دين أيضاً، بحيث يغدو أكبر من الوطن ومن الإنسان..."
Comments