top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

من مطار كيب تاون الدوليّ إلى فندق هوليداي إن Holiday Inn للأديبة التونسية صفية قم


من مطار كيب تاون الدوليّ إلى فندق هوليداي إن Holiday Inn

لم يكن يفصلنا عن النزل غير نصف ساعة تقريبا. ما إن غادرنا المطار على متن سيّارة صديقنا الّتي كانت تطوي المسافة طيّا على طريق سيّارة مهيّأة أحسن تهيئة حتّى استقبلنا جبل شامخ، صلدة صخوره، كثيفة أشجاره. أشار إليه مرافقُنا قائلا هذا جبل الطّاولة الشّهير Table Mountain بكيب تاون. بدا لي الاسم غريبا، وهممتُ بالاستفسار، لو لم يسبقني زوجي إلى ذلك. ابتسم الأستاذ وحدّث بالإنقليزيّة حينا وبالعربيّة حينا: " يعتبر منتزه جبل الطاولة الوطنيّ Table Mountain National Park أحد المعالم الأكثر شهرة في مدينة كيب تاون محلّيًا وعالميًّا. ويحتضن المنتزه حوالي 2200 نوع من النباتات، و1470 نوعا من الأزهار النادرة، لذلك تمّ إدراجه ضمن مواقع اليونسكو للتراث العالميّ. ويعتبر من أشهر أماكن السياحة في كيب تاون." ولمّا سألناه عن أصل التسمية ولماذا سُمّي بالطاولة، ضحك وبكلّ تلقائيّة قال: هكذا سُمّي ولا ندري لماذا! إنّه اسمه الّذي عُرف به وكفى!" ضحكنا لضحكه ولما بدا لنا من غرابة التسمية. وواصل الأستاذ حديثه عن هذا الجبل، جبل المائدة أو الطاولة أو المنضدة: "ويتميّز منتزه جبل الطاولة بالتنوّع البيولوجيّ والجيولوجيّ كالجداول والوديان الّتي من النادر أن تجتمع في أماكن أخرى على الأرض. وهذا المتنزَّه من أهمّ الأماكن السياحيّة في جنوب إفريقيا باعتباره إحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة، فهو يستقبل قرابة المليون زائر سنويًا من كافة الأقطار والدول." وأطنب مرافقنا في ذكر محاسن هذا الجبل الفذّ ممّا أغرانا ببرمجة الذّهاب إليه والتمتّع بجماله الخلّاب عن قرب، خاصّة أنّ الطقس جميل وإن كانوا في منتصف فصل الخريف وبقايا أمطار البارحة واضحة للعيان.

ظلّ هذا الجبل مشرفا علينا طيلة الطّريق وظلّت عيناي لا تفارقه، تستجلي مباهجه الجليّة والخفيّة. فجأة لاح لنا مجمّع سكنيّ، بيوته قصديريّة رثّة، متهاوية، فبدا النّشاز صارخا بين ما حدّث به الأستاذ وبين ما ترصده العين! وغير بعيد عن هذا التجمّع البائس اعترضتنا بيوت أخرى أقلّ بؤسا، مبنيّة وملوّنة جدرانها بشتّى الألوان ولكنّها تشي بفقر أصحابها أيضا. ومض في رأسي ما قاله لي الأستاذ ونحن في بهو المطار، حين قلتُ له: "رائع مطاركم، نظيف ومنظّم وسريع الخدمات..." فأجابني مبتسما: "هنا المطار، ولكنّ الحياة في الخارج مختلفة. الحياة الحقيقيّة هناك، خارج المطار!"

لم تلبث هذه البيوت أن اختفت والسيّارة تنهب الطريق نهبا وبدا المشهد يتغيّر تغيّرا ملحوظا كلّما اقتربنا من المدينة: أحياء سكنيّة راقية، ببيوتها المتشابهة المتناسقة، ذات الأسقف القرموديّة الحمراء المائلة، على الطريقة الإنقليزيّة، وعمارات ذات طوابق شاهقة، وحدائق ظليلة، وأضواء منظّمة لحركة المرور بكلّ دقّة... كنّا كلّما قطعت بنا السيّارة شوطا بدا لنا وجه من وجوه المدينة الكثيرة بطرقاتها الممتازة هندسةً وإنشاءً وبقناطرها وأضوائها وجسورها الميسّرة لسير السيّارات المتدفّقة ولمرور الحافلات السياحيّة التي تجوب المدينة بلا انقطاع ولغيرها من وسائل النقل الأخرى.

وما إن بلغنا مشارف المدينة حتّى وجدنا أنفسنا بشارع عريض طويل دائبة حركة السير به ومنظَّمة أحسن تنظيم... وقبل أن ينطق مرافقنا ودليلنا باسمه كانت اللّوحة الزرقاء العريضة المعلّقة كفيلة بأن تحدّث بأخباره:BOULEVARD NILSON MONDELA . إلهي، إنّي لا أكاد أصدّق أنّي هنا! إنّي أعبر الشّارع المخلّد لذاك الرّجل المناضل العظيم الّذي خرّت له عروش الطّغاة وزُلزِلت به قواعد العنصريّة وغيّرت به قناعات راسخة وقوانين جائرة... شارع نيلسن مانديلا شريان رئيسيّ يربط مدينة كيب تاون بأحوازها دخولا وخروجا. ظللتُ أبحث له عن صورة أو تمثال، فما وجدت لطلبتي أثرا! عجبتُ لأمر هذا البلد، واتّهمتُ نفسي بالعمى، وظلّت الأسئلة تحيّرني ويضيق بها صدري: أين صور مانديلا؟ أين التمثال الّذي يخلّد نضاله الّذي غدا مضرب الأمثال، عنادا وصمودا وإيمانا بنبل قضيّته ومشروعيّتها...؟ أين الاعتراف بفضله على بلده وعلى العالم بأسره؟! ظلّت الأسئلة تتلجلج بداخلي وتلحّ عليّ إلحاحا، حتّى ما عدتُ أطيق صبرا على غليانها، فقطعتُ حديث الأستاذ عبد القادر مع زوجي، وألقيتها عليه دفعة واحدة، وكلّي استغراب. ابتسم كعادته وقال: "لا، لن تجدي له تمثالا واحدا هنا ولا صورا. هنا، هذا الشّارع يحمل اسمه، لا غير." ولمّا أدرك شديد استغرابي أضاف: "النّضال الحقّ عقيدة راسخة لا يُرجى منها غير إرضاء النفس. والمناضل الصّادق لا يطلب جزاء ولا شكورا. هو قام بما يراه واجبا عليه، وبما يراه حقّا لا بدّ من تحقيقه..."

أصابني قوله بذهول وأحسستُ بقرعات على أمّ رأسي وبسياط تجلد ذاكرتي المكدودة، وإذا بي في وطني حيث النّضال غير النّضال هنا! في وطني وفي مختلف الأوطان العربيّة والإسلاميّة لل"نضال" وجوه عدّة: الإرهاب نضال، والقتل والسحل نضال، والتخريب والحرق نضال، وتجويع العباد وتفقير البلاد نضال، وتزوير التاريخ نضال، ومسخ الهُويّة نضال... ولكلّ هذه النضالات أثمان، أوّلها الكرسيّ اللّاصق الأبديّ، وثانيها نهب أموال البلاد وإفراغ خزينة الدولة، وثالثها تمكين العشيرة وذوي القربى، ورابعها الاستبداد والتحكّم في رقاب النّاس وقمع المناوئين وتشويههم وإذلالهم، وخامسها تهريب الأموال إلى خارج البلاد والاستقواء بالأجنبيّ، وسادسها، وسابعها... وعاشرها... ولا أقلّ ل"مناضلينا" الأبرار العظماء من قصر منيع وجند وحرّاس وسيّارات فارهة وأرصدة بنكيّة هنا وهناك وجوار وإيماء وعبيد يسبّحون بفضلهم آناء الليل وأثناء النّهار، وأبواق مأجورة تدعو لهم وإليهم وتشوّه ما ومن عداهم...

دمعة بالقلب وجوى بالصدر وحريق بالرأس تأتي على الأخضر واليابس فيّ... لحظة من التفكير والتفكّر فارقة هنا في شارع نيلسن منديلا، وإن كانت المقارنة لا تجوز إطلاقا، فالبون شاسع والمفاهيم متباينة، بعضها من صنع الإنسان الذّائد عن الإنسانيّة جمعاء والمبشّر بالعدل والمساواة بين كلّ الأجناس والألوان والأديان... وبعضها من صنع الشيطان السّاكن في الإنسان، لا يُغادره إلّا إليه ولا يعترف بحقٍّ غير حقّه في السيطرة والاستبداد بكلّ سبل الدّمار... بعضُها يبشّر بجنّة، وبعضها ينذر بجحيم.

آهة لا تشفي الغليل، وحسرة لا تنقذ الأوطان من براثن شياطين الإنس، أعداء الحياة. شارع أو صورة أو تمثال ليست إلّا رمزا وتخليدا لمآثر من أجلها عاش ومات... ويستيقظ عقلي من دهشته، وشارع نيلسن منديلا يمتدّ أمامنا مغريا بالتساؤل: هل حقّق نيلسن منديلا حلمه؟ هل غيّر حقّا ما أراد تغييره ومن أجله قبع في السّجن أجمل سنوات عمره؟ هل مات راضيا عن نفسه؟ لماذا لم يترشّح لولاية ثانية لينجز ما من أجله ناضل وسُجن؟

تجثم هذه الأسئلة على صدري وأنا أسترجع مشهد تلك البيوت القصديريّة المربكة على طريق المطار. أهمّ بإلقائها على الأستاذ، ولكنّي أتراجع حتّى لا أثقل عليه، وأأجّلها لقادم الأيّام.

أغادر هواجسي وأعود إلى الأستاذ في حديثه إلى زوجي الجالس حذوه: " قريبا نصل إلى فندق هوليداي إن. أترككما تأخذان نصيبا من الرّاحة ثمّ أعود إليكما، السادسة مساء لنقوم بجولة قصيرة في شوارع المدينة، ثمّ نتعشّى معا، ونضبط برنامج إقامتكم بيننا، إضافة إلى المحاضرات الثلاث المبرمجة، أيّام الأربعاء والخميس والاثنين."

كانت السّاعة ونحن نغادر السيّارة إلى النزل الثالثة ظهرا. لقد دامت الرحلة من بيتنا إلى الفندق سبعا وعشرين ساعة!

من كتابي خربصات في أدب الرحلة، الجزء الثاني: " بوكاب" الصادر عن الثقافيّة 2019

صفيّة قمّ.

2 views0 comments

Komentarji

Ocena 0 od 5 zvezdic.
Ni še ocen

Dodaj oceno
bottom of page