top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

مقتطف من صفحة المفكر التونسي فتحي المسكيني


. الترجمة مسار تاريخي من التمرين الروحي على تأهيل لغتنا للمشاركة في النقاش الكوني حول مستقبل العقل الإنساني، ومستقبل النوع البشري. ولذلك فكلّ جهد ترجمي هو بشرى سارة للعقل في أيّ ثقافة، وذلك مهما كان مستوى تلك الترجمة من الدقة أو الرشاقة أو الأمانة. لكنّ الرداءة ليست قدرًا. وعلينا أن نعمل على تحسين أداء لغتنا في استيعاب المكاسب الروحية والجمالية والعلمية والمدنية الكبرى للإنسانية الحديثة انطلاقًا من أنّ ذلك هو عمل إستراتيجي يتوقّف عليه مستقبل الحرية في أفقنا الأخلاقي والسياسي، وليس مجرّد استجابة تقنية لحاجة المدارس. واقع الترجمة العربية في تحسّن مطّرد وعلينا أن نأمل المزيد من الوعي بأنّ الترجمة عملية تحرير مريرة لعقولنا بواسطة تدريب طريف جدّا للغتنا على تكلّم اللغات العظيمة التي شكّلت وعي الإنسانية الحالية. إنّ الألمانية مثلاً، أو الإنجليزية أو الفرنسية، هي بمثابة أقدار ميتافيزيقية وروحية للإنسان الحديث، وليست مجرد ألسنة قومية لشعوب معزولة. ولذلك علينا امتحان العربية بلا انقطاع حتى تقول الإنسانية الحالية بكل حقائقها وجروحها وأوهامها وتجاربها، بلحمها اللغوي الخاص.

نحن لا نشترط "استيعابًا ناضجًا للنظريات الفلسفية" فهذا أمر أوّلي ومدرسي فقط. فالمترجم الأصيل هو الذي يجرؤ على تعليم الفلاسفة الغربيين كيف يتكلّمون لغة الضاد، ومن غير لكنة ولا عجمة. الترجمة تدرّب على استدعاء العقل الإنساني الكوني إلى داخل لغتنا. فإذا طال هذا بنا وتحسّن كأشدّ ما يكون، صار عندئذ إنتاج العلوم بلغتنا ليس فقط ممكنًا، فهو ممكن دائمًا، بل صادرًا عن عفوية ميتافيزيقية وإبداعية عميقة لثقافتنا، ليس كثقافة محلية أو خاصة، بل كشريك قوي في مؤسسة العقل الإنساني في بعده الكوني. بالترجمة، علينا أن نجرّب على أنفسنا وعلى حواسنا وعلى عقولنا كلّ ما قالته الإنسانية الحديثة على لسان مبدعيها بلغات أخرى.

نحن لا نترجم إلاّ لأنّنا جزء من مساحة الإنسانية، وبالتالي فإنّ أيّ خيانة هي بمثابة حبّ آخر. نحن لا نخون إلاّ ما نحبّ. وهذا الأمر يشبه العلاقة مع الحدود: أنت لن تشعر بوجود حدّ ما إلاّ إذا ما اجتزته. ولذلك يُقال إنّ القوانين وُجدت من أجل اختراقها. والترجمة هي من هذا القبيل: علينا أن نمرّن لغتنا على خيانة اللغات الأخرى حتى تقول نفسها. المطلوب ليس الأمانة المميتة للغة/ الهدف، اللغة التي نترجم إليها، بل الخيانة اللائقة للغة/ المصدر، اللغة التي نترجم عنها، خيانة تليق بإمكانية الإبداع التي يُقدم عليها المترجم حتى يصبح كلام كانط أو هيدغر بالعربية ممكنًا. طبعًا، في بعض الأحيان علينا أن نختار بين "الجميلات الخائنات" (ترجمة تأويلية)، وبين "الوفيات القبيحات" (ترجمة تقنية). لكنّ الاختيار ليس يسيرًا دومًا. وعل كل حال ، كل ترجمة خيانة، ولكن في معنى نبيل: هو التأويل. وفي واقع الأمر كل كلامنا مجاز أو "تعبير" أي نقل للمعاني من مستوى من القول إلى مستوى آخر، وهذا يعني أنّ الترجمة لا تتمّ فقط بين لغة وأخرى، بل أيضًا داخل نفس اللغة. مثلا: من يستطيع اليوم أن يتذوّق معلقة جاهلية دون عمل تداولي نشيط على معانيها حتى تقول لنا شيئًا يليق بعقولنا ما بعد الحديثة؟ من يقرأ اليوم نصوص ابن عربي ويفهم حتى الطبقة التأويلية الأولى منها؟ بل إنّ القرآن نفسه، كما قال أحد مفكّرينا في تونس، هو نصّ لم نبدأ بعدُ في قراءته؟

6 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page