منقول اليكم فقط عن صفحة الاستاذ ساسي الهمامي مقال للكاتب antoin e jochey
مقالي عن قصائد النثر المجهولة أو المتجاهلة للشاعر العملاق فيديريكو غارسيا لوركا، في مناسبة ترجمتها للمرة الأولى إلى الفرنسية وصدورها عن دار "برونو دوسيه.
"ماذا نعرف عن لوركا؟ ماذا قرأنا له، خارج القصائد الغجرية ومسرحه الذي غالباً ما تختصره برامج المسارح بالنصوص التي تلقي عليه نظرة جامدة؟ ماذا عن المدخل الذي ما زال سرّياً إلى نصوصه الأكثر إزعاجاً وإباحية؟" بهذه الأسئلة تبدأ الباحثة والجامعية الفرنسية كارول فيليير تقديمها للترجمة الفرنسية التي وضعتها لقصائد فيديريكو غارسيا لوركا (1898 ــ 1936) النثرية، وصدرت حديثاً عن دار "برونو دوسيه" الباريسية بعنوان "حمامة قاسية جداً". أسئلة مشروعة بما أن معظمنا يجهل أن للوركا وجهاً آخر غير وجهه "الشمسي، الحيوي، المَرِح والملتزم" الذي نعرفه، وجهاً تسعى فيليير إلى كشفه لنا عبر منحها إيانا في عملها هذا فرصة مشاركته تجربة "الكتابة الأخرى" التي قادها، حين رفض عام 1927 صفة وأسطورة "الشاعر الغجري" اللتين قيّدتاه، وانطلق في استكشاف دربٍ أخرى، درب النثر.
كتابة النثر لم تكن جديدة على لوركا آنذاك، توضح فيليير فوراً لنا، فـ "نصوصه الأقدم نثرية، نصوصه الأكثر ألماً وحميمية وعنفاً". وتضيف: "بالنثر منح جسداً لذلك الصوت الذي سيصدي في قصائده المرصودة لنيويورك، في سونيتاته المعتمة وفي نصوصه المسرحية المعذّبة التي هي عبارة عن صرخات في وجه مجتمع لم يعثر الفنان على مكانه فيه". وبالتالي، "لوركا السعيد هو أيضاً لوركا القاسي في قصائد النثر التي كتبها. لوركا الموسيقي هو أيضاً لوركا الحاد والصارّ في نصوصه الساخرة. وفي الفارق الذي يشكّل هذه النصوص تكمن قوة إبداعه وتمرّده، وعذابه أيضاً. في العام الذي اجتاحت السورّيالية إسبانيا، محمولةً بريشة وقلم دالي، أخيه اللدود، خلال تلك الشهور التي حثّ الإبداع المتقابل للفنانَين فيها كلّ منهما إلى استكشاف لغات جديدة، ابتعد لوركا عن الشعر المقطّع إلى أبيات، لكن من دون أن يختار درب السورّيالية. (...) عن نصوصه النثرية أسرّ لسيباستيا غاش بأنها "تتجاوب مع طريقتي الجديدة، انفعالٌ صافٍ ومحرَّر من سيطرة المنطق، لكنه ذو منطق شعري رهيب".
وبالتالي، لوركا شاعر "بنعمة التقنية والجهد"، كما أشار إلى ذلك بنفسه في قصيدته "شعرية"، وشعره "مصنع لم ينتج فقط أبيات شعرية ولا حتى نصوصاً مكتوبة، فحين فرض النثر نفسه عليه، كان يمارس الرسم، واعتبر رسومه "شعراً صافياً وتشكيلياً في آن". وبالنتيجة، يتّسم عمله الإبداعي بالتعقيد، وفقاً لفيليير، ويتعذّر الإمساك به إلا بواسطة مواشير متعددة. عمل "نادراً ما ذُكِرت ضمنه قصائد النثر التي كتبها أو نصوصه النثرية الشعرية، وحين حصل ذلك، نُظِر إليها كمحاولات سورّيالية أو يانعة، وحُيِّيدت على هذا الأساس، علماً أنها فضاء نثرٍ مرتجف شكّل أرضية اختبار وتهجين وقطيعة، وشيّد لوركا فيه شعرية الارتعاش والانفعال".
على "قصائد النثر" السبع التي وصلتنا تحت هذا العنوان، تضيف الباحثة في كتابها قصائد نثر غير منجَزة ونصوص تقع في دائرة النثر الشعري وتشكّل باباً آخر لولوج فن النظم لدى هذا العملاق ورمزيته. "نصوص تبدو غير متجانسة في ظاهرها، ويجب عدم الاستخفاف بها أو المبالغة في تفسيرها (...)، أو قراءتها فقط كخطوة نحو إنجازٍ أرفع. نصوص تدعونا إلى فتح "عيننا الروحية" والشعور بحواس الشاعر الخمسة"، وتنتظرنا فيها شخصيات مختلفة تدعونا إلى "البحث عن زهرة تقاطُع الطرق حيث يرتفع نشيد الشاعر": الأميرة بسيشه (Psyché)، والدة شارلو (شارلي شابلن)، القديسة ليريا، دون ألامبرو، فتاة محروقة، عاشق تحوّل إلى فراشة، فارس، مسافر على درب نبّات القمر، تائه في محطة... نصوص "يختلط فيها الضحك بالبكاء، الرقّة بالعنف، ضمن نثرٍ تختلج فيه الشرايين المجزوزة، الأيادي المبتورة، الرؤوس المقطوعة، وترتفع فيه أصوات الحجارة، وتبدو الماء قاتلة لكن خصبة حين يقع رذاذها على جلد الروح. نثر تحلم المقاعد فيه بالسفر، وتتحاور آلة التلغراف مع النجوم".
"حمامة قاسية جداً" يتضمن 26 نصّاً شعرياً منثوراً، فقط 12 منها سبق وتُرجمت إلى الفرنسية على يد أندريه بيلاميش. وسواء في إعادة ترجمتها لهذه النصوص أو في ترجمتها للنصوص الـ 14 الأخرى، تقترح فيليير علينا "تجديداً للنظرة والقراءة"، و"اكتشافاً" مثيراً. وبقيامها بهذه المهمة، سعت إلى "إظهار وحدة بحث لوركا النثري"، وجهدت في "استعادة الطارئ والقسوة" في ثماره، وفي الالتصاق بنفَسه المقطَّع وترقيمه المعذَّب"، ولكن أيضاً بمتعة نظمه الفني، "المعتِم أكثر مما قيل فيه من قبل". مهمة بتحديات كثيرة لوقوف خلف هذه النصوص فنان كبير برع في الحذف (ellipse) والتكثيف، وعشق الكلمات واستثمر بُعدها الصوتي والبصري وصفاتها الانقلابية، ما أوجّب على فيليير بذل جهدٍ جبار في ترجمتها لإسماعنا "الصفعات التي تلقّتها الدجاجات، صياح الديكة، وابل الأجراس، خرير المياه، غناء صراصير الليل، الصفير الحاد لرشق الريح الراقصة بالحجارة، صرير السكاكين، ضحك أطقم الأسنان، وصوت اصطدام العيون بجدار الذكرى".
لكن قيمة هذه النصوص لا تكمن فقط في تجاوز صاحبها داخلها كل الحدود الشكلية والنوعية، وهو "فعل حرّية لديه ووضعية نقدية ساخرة، اجتماعية وجمالية"، بل تكمن أيضاً في تشكيلها "سفراً في قلب تمثّلات يعرفها ويتجاوزها في اتجاه ثورات أخرى يتحاور معها"، تقول الباحثة. وفي هذا السياق، استثمر سرديات القديسين، مفكّكاً إياها ومعيداً ابتكارها بطريقة تمنحها دلالات جديدة. هكذا نجد أليعازر في محطة قطار منتظراً الصوت الذي سيخرجه من ثباته العميق داخل فضاء فارغ، وتحضر قصة الضرير كاستعارة لعمى الكنيسة وسلطتها القاتلة، ويتحوّل مشهد قطع رأس يوحنا المعمدان بطلب من الراقصة سالومي إلى عرضٍ جماهيري يرتفع فيه صراخُ لاعبي كرة قدم فوق صراخه خلال مباراة تنال اهتماماً أكبر من قبل المتفرّجين. أما مذبحة هيرودوس التي ذهب ضحيتها جميع أطفال مدينة بيت لحم، فتأخذ بعداً راهناً في قصيدة لا تتوقف عند فصل إفلات الطفل يسوع من هذه المذبحة، بل تتوق إلى إظهار بشاعة سلطة لا تتردد في قتل أطفال تتردّد أسماؤهم على طول النص، وعموماً، إلى إدانة مجتمع لا يحمي أبرياءه من عنفه القاتل.
وحين يستحضر لوركا فصل آلام المسيح، يفعل ذلك لمنح صوت لأولئك الذين يدينهم المجتمع والرأي العام بشكلٍ جائر. وفي هذا السياق، يستثمر معاناة المسيح على طريق الجلجلة بهدف الشهادة على عنف زمننا الراهن ومدّه ببعدٍ محسوس، ويحوّل شخصية شارلي شابلن إلى كائن أُجبِر على ارتداء بنطال كيافا، رئيس الكهنة اليهود الذين حاكموا المسيح، وقبعة من شوكة، وبالتالي إلى مثال على أولئك الذين يُصلبون كل يوم على خشبة المعتقدات وعدم التسامح في جميع أشكاله.
من جهتها، تستخلص الباحثة في الشعر الإسباني الطلائعي، زورايدا كارانديل، في فاتحتها لترجمة فيليير، ثلاثة مراحل في نثر لوركا الشعري. مرحلة تدريب أولى مصبوغة بالرمزية يظهر فيها أثر مواطنه خوان رامون جيمينيز الذي اعتبر أن الفن الأول للشاعر هو النثر، وتشكّل نصوصها "وسيلة بحثٍ عن الذات تأخذ طوعاً شكل تأمّلٍ استبطاني"، كما في "الليلة المئوية" و"جداجد" و"لعبة السيدات" و"رشق الهواء بالحجارة" التي تحضر كشذرات بالكاد منجَزة وتمنحنا الانطباع بسعي للإمساك بوعي شعري في لحظة استيقاظه. مرحلة تأثُّر لوركا فيها بالسورّيالية، في سياق علاقته الخصبة والإشكالية بسلفادور دالي، وأخذ خلالها في عين الاعتبار نصائح صديقه فاستخدم قصيدة النثر لمساءلة بنية نصوصه، وتميّزت كتابته بنبرات متنوّعة، بتراكُب التقليد والتوجّه الطلائعي داخلها، وباستثمار وجوه روحية نسائية كركائز لتأمّل في الفن والشعر والمسرح يضع الميتافيزيقا والنزعة الإنسانية فوق أي مشروع جمالي أو تحديثي بحت.
أما المرحلة الثالثة فتتوافق، وفقاً لكارانديل، مع الأزمة الروحية والجمالية التي عبرها لوركا بين عاميّ 1929 و1930، خلال إقامته في نيويورك، وتتميّز بشعرية هرمسية يصعب سبرها. مرحلة ثار الشاعر فيها على عالمٍ بلا أمل ولا روح، انتصرت فيه ناطحات السحاب على السماء، ولم تعد الحمامة سوى صنمٍ ساطع بعدما خانتها كنيسة فقدت إيمانها، كما في قصيدة "صرخة في اتجاه روما" التي يتطرّق الشاعر فيها إلى إتفاقية "لاتران" المشينة بين موسوليني والبابا بيوس الحادي عشر لفضح تناقضها مع رسالة الإنجيل، أو في قصيدة "عاشقان قتلهما حجلٌ" التي أهداها في البداية للكاتب الفرنسي غي دو موباسان لاعتباره إياه محامي ضحايا المجتمع؛ قصيدة أُدرِجت بعد وفاة لوركا في ديوان "شاعر في نيويورك"، واستقت فيليير منها عنوان "حمامة قاسية جداً" للمختارات التي ترجمتها.
باختصار، منحت قصيدة النثر لوركا، باستقلاليتها وحرّيتها، فضاء تحاورٍ مثالي قارب فيه علاقته بالشعر وأبرز وجوهه الحداثية، ضمن فعلٍ إبداعي لم يعانِ أبداً من حذلقة أو تبجُّح بمعرفة يملكها. ومن هذا المنطلق، تذكّرنا فيليير بأن الشاعر، في عبوره النثر الحداثي، "شرب من بئر جيمينيز السردي الملوَّن، وسبر هرمسية ورمزية الصورة لدى الشعراء الفرنسيين، فتحاور مع الطريقة الروحية الجديدة لبودلير ومع نثر رامبو الماسيّ، والتحق ببحث مالارميه عن شعرٍ جديد، وناقش دالي داخل شذرات" منيرة. وبالنتيجة، شكّلت قصيدة النثر، الهجينة والرحبة، له فضاء خطابٍ شعري في حالة فعلٍ، وإمكانية فريدة للإمساك بطريقة جديدة وعبقرية بالواقع والشعر على حد سواء.
Yorumlar