top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

محمود درويش… أخي الفلسطيني* فرانسوا إكزافيي (كاتب فرنسي) ** ترجمة وتقديم عبد المنعم الشنتوف


لم يكن محمود درويش مجرد أيقونة إبداعية لفلسطين شعبا وتاريخا وثقافة وقضية وإنما محطة رئيسة في تاريخ الثقافة العربية. وعلى الرغم من مرور احدى عشرة سنة على رحيله، إلا أن المكتبة العربية ما تفتأ مفتقرة إلى كتب توثق للسيرة الشخصية والإبداعية لدرويش على الرغم من اتصال أسبابها ذاتيا وموضوعيا بفلسطين التي شكلت باطراد القضية الأولى للعرب.غير ان الاستثناء يأتي من خارج العالم العربي، وتحديدا من فرنسا التي أقام فيها الشاعر الراحل طيلة خمس عشرة سنة، إذ خصص الشاعر والكاتب الفرنسي «فرانسوا اكزافيي» كتابين عن الشاعر الفلسطيني هما «محمود درويش والأندلس الجديدة’ الذي اخترنا ترجمة فقرات أحد فصوله، و«محمود درويش في منفى لغته» علاوة على إصدار شعري مزين برسوم ولوحات زيتية بعنوان «محمود درويش هناك».

فرانسوا اكزافيي شاعر ومحرر أدبي في العديد من المجلات الأدبية المتخصصة، ومن بينها أدب وفن ولو ماغ. أصدر العديد من الكتب وضمنها «من الشرق إلى الحب» الذي حاز جائزة الأكاديمية الفرنسية عام 1999 علاوة على كتابه «مخطوطات قانا».

النص

حين تكون بلادك بعيدة يحق لك أن تلوذ بالحنين، وحين تطرد من ديارك بقوة السلاح يحق لك أن تفعل أي شيء كي تعود إليها. أنا ابن الجنوب وحوض المتوسط أولا، وقبل أن أكون فرنسيا وأوروبيا. ذلك أن بداخلي حسا رقيقا ومشبوبا وتوقا إلى الترحال وروحا حية ومجنونة نمت وتورقت وترعرعت داخل منطقة المتوسط، وأميل ما تكون إلى العيش في دعة وبدون عجلة.

لم افهم بشكل مباشر وفوري شرعية القضية الفلسطينية؛ لأنني كنت بدوري ضحية لآلة الدعاية الإسرائيلية، واكتفائي الذاتي بوصفي مراهقا. وكان من جراء ذلك أنني لم أعر اهتماما للأحداث المرتبطة بهذه القضية. في عام 1988 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية أو ثورة الحجارة، وكنت أباغت احيانا بأمي وهي تذرف الدموع قبالة جهاز التلفزيون، وكنت أشاهد بعين لامبالية جرافات الجيش الإسرائيلي وهي تدمر بعض المنازل بحضور حشد من الأشخاص الغاضبين، الذين يشوحون بقبضاتهم. كنت أسمع كلمة إرهابي وأردد في داخلي إن ما يفعله الإسرائيليون عين الصواب. كانت أمي مهندسة معمارية ومفرطة في حساسيتها، وكنت أفكر بأنه من الغباء أن نذرف الدموع في كل مرة يدمر فيه الإسرائيليون منزلا فلسطينيا. كانت لدي انشغالات وهموم بائسة أخرى تتمثل في تكون في سن العشرين في منطقة الكوت دازور في جنوب فرنسا، بما يسببه لك ذلك من مشاكل وجودية جمة. كأن تلم بك الحيرة حين الاختيار بين اقتناء دراجة نارية أو سيارة مكشوفة، لجذب انتباه الفتيات. وكان لزاما عليّ أن انتقل إلى باريس وأن ترتب الفرصة لقاء أثناء عشاء في يخت أحد الأصدقاء بطبيبة نفسانية أوكرانية حملتني على أن أفتح عينيّ على اتساعهما. ولأنني أحسست بالصدمة فقد سلكت الطريق المعاكس بما يقتضيه ذلك من غوص في الكتب واللقاء والإنصات والحديث مع آلاف الأشخاص، كي أكوّن وجهة نظر شخصية. ولم يكن هذا المسار الطويل بسهل على التفكيك. فخلف الخطاب الرسمي لآلة الدعاية أتيح لي أن اكتشف رجالا ونساء ورؤى مثالية وشعارات ومفاهيم ونظريات.

ويبقى الفنانون حبيسو الغيتو الثقافي، من نلوذ بهم كي يقوموا بتهدئة الضمير الغربي. وماذا لو كان الفنانون منبع الحل؟ ماذا لو لاحت نذر تقارب ما من خلال الفنانين؟ هل يمكن للكتابة التي تهيمن من بعيد على كل شيء أن ترسم حدود وخطوط السلام لهؤلاء الساسة العميان والصم والمغمورين بالعجرفة والخيلاء، الذين ينتهون بالصراخ في الفراغ؟

يعتبر محمود درويش واحدا من هؤلاء الكتاب والفنانين، ويشتمل على صلابة وشجاعة تفرضان الاحترام حتى على ألد أعدائه. وكم كانت لذيذة وقوية تلك الصدمة التي شعرت بها حين أمسكت بين يدي بأول كتاب لمحمود درويش. يعود الفضل إلى جيروم ليندون ومنشورات مينوي الباريسية، في اطلاعي على القصائد الأولى للشاعر الفلسطيني. وقد أضحى في مقدور القارئ الفرنسي بفضل سلسلة صدرت بدعم من اليونيسكو الإحاطة علما بكتابات الشاعر الكبير.

لنفتح قوسين كي نقدم الخطوط الرئيسية للتاريخ، التي بمعزل عنها لن يكون في مقدورنا أن نفهم بطريقة جيدة محمود درويش ومسيرته ورحلة بحثه عن الوطن الفلسطيني. فعقب الصراع العربي الإسرائيلي الأول عامي 1948 و1949 نظم مؤتمر لوزان. وقد وقعت إسرائيل في غمرة ذلك اتفاقا يقضي بتأكيد مخطط التقسيم وذلك لغاية وحيدة تمثلت في حصولها على عضوية الأمم المتحدة. وما أن تم الحصول على العضوية، حتى جرى إقبار كل شيء بما في ذلك مبادرات السلام العربية ومخطط التقسيم واقتراحات الرئيس السوري حسني الزعيم. ومنذ ذلك التاريخ لم تلتزم اسرائيل بكل الاتفاقات الدولية المبرمة: مدريد أوسلو وواي ريفر. ووحدها وضعية الاحتقار والتصعيد العسكري والمجازر التي تقدمها إسرائيل كجواب للشعب الفلسطيني.

محمود درويش إذن أخي. ولأنه شاعر ومتوسطي وفلسطيني فهو أخي بشكل مضاعف، بفعل كونه سليل مهد الحضارات، وحارسا لأرض الرجال، ومقاتلا قبل اَي شيء من أجل تحقيق العدالة لشعبه وأرضه. طرد محمود درويش من قريته ولما يتجاوز من العمر ست سنوات عام 1948 وقد رافق أسرته إلى لبنان، وتحديدا دمور. كان ذلك أول جرح في سيرته؛ إذ كان أقل خلاف بينه وبين أحد الأتراب يؤدي إلى نعته وتعييره بنعت اللاجئ. وسوف يرافقه هذا النعت بعد عودته إلى فلسطين بعد عامين واستقراره صحبة أسرته في قرية دير الأسد بعيدا عن مسقط راْسه البروة، التي دمرها الجيش الإسرائيلي. ليس من اللازم أن تكون طبيبا نفسانيا كي تحيط علما بأن هذا الطفل الصغير كان عرضة، شأنه في ذلك شأن مئات الآلالف من الآخرين للصدمة والخراب في الجسد والروح. ثمة أكثر من أربعة ملايين لاجئ فلسطيني تتوزعهم منافي العالم. كان مكرها على الفرار وعلى أن يترك خلفه كل شيء، وهو ما مثل طردا جائرا. سوف يعود بعد سنتين إلى وطنه القديم، إن جاز هذا التعبير بطريقة غير شرعية ليحيط علما بأن التساحال أو جيش الدفاع الإسرائيلي قد صير بلدته البروة أثرا بعد عين، وذلك بغاية إنشاء مستوطنتين محلها، خصصت الأولى لمهاجرين من يهود أوروبا فيما خصصت الثانية ليهود اليمن. شكل ذلك صدمة مريعة ثانية له وهو ما يستعصي تخيله على من لم يعش هذه الأحداث.

أنهى محمود درويش مسيرته الدراسية ولَم يلبث أن التحق بموسكو لمتابعة دراساته العليا. عاد بعد ذلك إلى حيفا ليصبح رئيسا لتحرير مجلة «الجديد» ومحررا سياسيا لجريدة الاتحاد. وقد تسببت أنشطته هذه في سجنه مرات عديدة. لجأ إلى القاهرة عام 1970 ثم إلى بيروت عام 1972 حيث أصبح مديرا لمركز الأبحاث الفلسطينية التابع لمنظمة التحرير، ورئيسا لتحرير مجلة «شؤون فلسطينية». وفِي عام 1982 التحق بباريس التي أصبح يقيم فيها بشكل متزامن مع العاصمة تونس لخمس عشرة سنة قبل أن يعود عام 1996 للإقامة في العاصمة الأردنية عمان.

عارض درويش دوما المحتل الصهيوني، بدون أن يسقط في شراك العنصرية. ولأنه يتقن العبرية فقد كان يحلو له أن يردد لمن يود الإصغاء له أن أفضل أساتذته كانوا يهودا، وإن حبه الأول كان امرأة يهودية تدعى ريتا. وقد عبّر جان فيدال ناكي عن ذلك في حديث لجريدة «أوريون لو جور» اللبنانية الناطقة بالفرنسية: ينبغي عدم الخلط بين العداء للسامية ومناهضة إسرائيل. يتعلق الشأن بأمرين مختلفين تماما. وفِي عام 1967 وقبيل أيام قليلة من اندلاع حرب الأيام الستة كتب جان بول سارتر في ختام عدد من مجلة «الأزمنة الحديثة» خصصه للصراع الإسرائيلي الفلسطيني: ينبغي أن نقصد المصادر الحية التي لها تعلق بهذا العنف المنظم والغلوائي للرجال، الذين خلقوا هذا الصراع والذين خلقهم هذا الصراع بدوره.

ثمة دراسات وتحليلات وتعليقات تناسلت في خصوص هذا الموضوع. بيد أن تصوري لا ينخرط في هذا السياق، وإن كنت مرغما على الإشارة إليه؛ لأنه يشكل جزءا لا يتجزأ من سيرة وأعمال محمود درويش. وأجدني أتساءل: ماذا لو كانت هذه الأصوات محجوبة بالخطابات العدائية والنارية لصقور الحرب. بيد أنني أتوق إلى الاعتقاد في الحلم الأندلسي وفِي الأندلس التي كانت، والتي ما يفتأ الكثيرون يشاطرونني الحلم بها. واعترف بأنني متفائل عصي على التغيير. بيد أنه ينبغي لكل الأقنعة أن تسقط والتي بذل محمود درويش قصارى جهده في فضحها بدون لبس. وسوف أسوق مثالا على ذلك يجعلني على صواب ويهم وقائع تصنف خطا في خانة المنوعات التي لا أهمية لها في الظاهر. ولهذا السبب ما أفتأ مؤمنا بها .. في الثالث من يونيو/حزيران عام 2001 لقي شاب فلسطيني في الثانية والثلاثين من عمره مصرعه في القدس الشرقية. وقد ظنت أسرته أن القاتل كان مستوطنا إسرائيليا. بيد أن ذلك لم يمنع الأب من الموافقة على التبرع بأعضاء من جسد ابنه: القلب والكبد والرئتان والبنكرياس والكلى. وفِي ليلة 4 و5 من شهر يونيو حظي بيغال كوهين الشاب الإسرائيلي، الذي كان يعاني من داء اعتلال عضلة القلب في مرحلته النهائية بقلب الشاب الفلسطيني. وبالنسبة للجراح ياكوف لافي فإن عملية الزرع هذه تكتسي طابعا رمزيا. وقد أكد قائلا: نحن من يتوجب علينا إحلال السلام وليس الساسة، قبل أن يتذكر في دعابة العملية التي قام بها. لقد استنتجت بأنني كنت أمسك بقلب مسلم في يد وبقلب يهودي في يد أخرى. وكانا متماثلين تماما وقابلين للتبادل. وقد شعرت بدهشة عاتية حملتني على الابتسام.

يتميز عمل درويش بكونه فريدا ليس فقط لكونه ينخرط في القلق والاضطراب اللذين يسمان التاريخ، وإنما لكونه حابلا بآلاف الثروات من الانفعالات والأحاسيس ذات القيمة السردية النادرة والأسلوب الفريد. وقد جرى تأويلها غالبا بشكل سيئ واستعادتها بوساطة التقليد باطراد. قصيدته بنت الهواء والرياح وهي أشبه ما تكون بالمحبوبة الفريدة والغائبة. ويستحب أن تقرأ مرارا وتكرارا كي ننفذ بعيدا عن الموسيقى، ومن خلل الكلمات إلى المعاني المتعددة وصوت وأغنية فنان اسمه محمود درويش.

* عن (القدس العربي)

60 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page