رجع الاعتبارُ إلى المركبات النّحوية في إطار المراجعة الشّاملة للنّحو العربي لا على ضوء المكتسبات اللسانية الحديثة فحسب ولكن بالرّجوع أيضا إلى منجز النّحاة القدامى من القرون الثالث والرّابع والخامس والسّادس والسّابع هجريا. ونحن إذ لا نجد عند هؤلاء النّحاة تعريفا صريحا للمركّب كما نعرفه اليوم فإنّه كان لديهم شعور بإمكانية احتلال ما فوق اللفظ الواحد موقعَ الإعراب واضطلاعه بوظيفة اللفظ في المحلات الإعرابية خاصة لدى المتأخرين منهم كابن هشام.(توفي 761 للهجرة). ومن مظاهر التفطّن إلى أنّ الألفاظ المتعدّدة يمكن أن تتكتّل وتشغل المحلّ الإعرابيّ الواحد ما نجده لدى أبي القاسم الزّمخشري(توفي سنة 538 للهجرة) في كتابه "المفصّل في صنعة الإعراب" حيث يعقد فصلا للمبتدإ واقعا له خبران فصاعدا ويورد تمثيلا على ذلك مركّبا بالعطف : (حلو حامض) أو(وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعّال لما يريد)(البروج 14/15/16) فالظّاهرة إذن وقع الوقوف عليها دون وعي نظريّ بحدودها حتّى القرن السّابع الهجريّ. ولعلّ ضعف الوعي بمفهوم المركّب كما ندركه اليوم راجع إلى عدم التّعريف المضبوط الصّارم لحدّ الجملة ممّا سوف نعود إليه في مبحث الجملة فتوصف هذه المركّبات على أنها جُمل أو شبه جمل حسب ابن هشام الأنصاري في كتابه مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (تحقيق حنا الفاخوري). والعجيب أنّ مبحث الدّلالة أيْ التّجريد العقليّ، في صلة واضحة بعلم الكلام، يطغي على شرح الظاهرة ويجعل مبدأ الإخبار هو جوهر المسألة بأيّ كمّية من الألفاظ كانت، في الوقت الذي هي ظاهرة مادّيّة لغويّة بالأصل، فينتفي بذلك التوجّه الوصفيّ الذي كان أكثر بروزا لدى نحاة سابقين عن القرن السّابع ( من ذلك مثلا تعريف أبي القاسم الزجاجي (توفي سنة 340 للهجرة) حيت قام هذا التعريف على وصف السياق اللغوي مما يمثل نزوعا لاعتبار الشكل في مكونات الحدّ وهو رصد الخصوصيّة السّياقية) فيقول علي بن يعيش (توفي سنة 643 للهجرة) "يجوز أن يكون للمبتدإ الواحد خبران أو أكثر من ذلك كما قد يكون له أوصاف متعدّدة فتقول: "هذا حلو حامض، تريد أن تجمع بين الطعمين كأنك قلت: هذا مَزٌّ. فالخبر وإن كان متعدّدا من جهة اللفظ فهو غير متعدّد من جهة المعنى لأنّ المراد هو جامع الطعمين" (انتهى النّقل عن ابن يعيش/ شرح المفصّل). ولغاية الالتزام بمبحثنا الذي هو المركّبات النّحوية فإنّ النّحاة العرب لم ينظروا إلى المركّبات على أنّها تؤسّس وحدة تركيبيّة مغلقة يمكن عزلها وبالتّالي يمكن أن تقوم عليها وظيفة إعرابيّة. فابن يعيش حين يتناول الإضافة مثلا يبحث العلاقة بين المضاف والمضاف إليه كيف يكون كلّ منهما وما هي طبيعة الاتّصال بينهما. فالنّظر حينئذ موضعيّ داخليّ يحدّد مقولة الإضافة في عنصريها ولا يمتدّ إلى وظيفة المركّب مجتمعا أيْ مكوّنا بُنية، وإلى اشتغاله في إطار أوسع هو الجملة وفي إطار تموقعه في صلب هذه الجملة ( ما نصطلح عليه في اللسانيات بالمظهر التّوزيعيّ ). وينبغي أن ننتظر القرن الثّامن مع ابن هشام في "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لنلمس (على نحو ما) وعيا بالمركّب محتلاّ وظيفة إعرابيّة وذلك في مبحثين منفصلين أوّلهما ما سمّاه ابن هشام "جملة لها محلّ من الإعراب" وثانيهما ما سمّاه "شبه الجملة". ففي خصوص الأوّل تحدّث عمّا نسمّيه اليوم بالمركّب الإسناديّ الفرعيّ تمييزا له عن النّواة الإسناديّة المركزيّة ودعاه "الجملة التي لها محلّ من الإعراب" وفسّر ذلك بالقول: " الجملة التي يُراد بها لفظها تنزلُ منزلة الأسماء المفردة" وتفسير ذلك أنّ الجملة المحتلة محلاّ إعرابيّا إنّما هي إجراء صرفيّ تتحلّل بمقتضاه كثافة المفردة المشتقّة ، فأن تقرأ "ولا تمننْ تستكثر" (المدثّر 6) فكأنك قلت "لا تمنُنْ وأنت مستكثرٌ" وقدّم عن ذلك أمثلة بحسب محلّات الإعراب الثّلاثة: الفاعليّة والمفعوليّة والإضافة. فأنشأ فصلا عن الجملة الواقعة خبرا (محلّ الفاعليّة) وأعربها "في محلّ رفع على الخبريّة" والواقعة حالا (محل المفعولية) في " لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى" في محل نصب على الحاليّة والواقعة مفعولا (محلّ المفعولية أيضا) من جنس" فدعا ربّه إنّي مغلوبٌ" في محل نصب على المفعوليّة... والواقعة مضافا إليه في محلّ الجرّ كما في الآية " وأنذر النّاس يوم يأتيهم العذابُ" (إبراهيم 44) وفيها أبواب مفصّلة في شأن المضاف ليست من شأننا في هذا الفصل. وفي خصوص الثّاني أفرد ابن هشام فصلا في الجزء الثّاني من المُغني عن "أحكام ما يشبه الجملة وهو الظرف والجارّ والمجرور" واشترط " أن يتعلقا بالفعل أو بما أُوِّلَ بما يشبهُه" فأمّا ما تعلُّق بما يؤوّل تأويل الفعل فهو تهويمات تأويليّة تجريديّة لا علاقة لها بالمنزع الوصفيّ للمقاربة اللسانيّة. بيد أنّنا نتوقّف عند المفيد من قوله وهو: " مثال التّعلق بالفعل...قوله تعالى: أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم" (الفاتحة) ف "المغضوب عليهم" حسب ابن هشام شبه جملة جاء في محلّ جرّ مضاف إليه. شبه الجملة هذا وقع تجاوزه في اللسانيات العربيّة الحديثة بعد أن وقع تحديد مفهوم مركزيّ في الكلام وهو الإسناد وهو مفهوم قديم وقع استحياؤه لِما فيه من جدّة ومعاصرة ونجاعة في تحليل الكلام. وما كان ابن هشام يدعوه بشبه الجملة لوجود تعلّق بالفعل هو ما ندعوه في اللسانيات الحديثة بالمركّب شبه الإسناديّ حيث أنّ المتعلقات إنّما تعود على أسم مشتقّ من فعل ويصير ذلك الاسم المشتقّ عاملا عمل الفعل. من ذلك مثلا قول النّابغة الذّبياني: فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي، وإنْ خِلْتُ أنّ المُنتأى عنك واسِعُ. فالمركب شبه الإسنادي : "مدركي" وهو اسم فاعل تضمن الفعل (أدرك) وفاعله (هو) ومفعوله (الضمير المتصل) وكذلك "المنتأى عنك " تضمّن الفعل ومفعوله وهو ما كان ابن هشام يدعوه شبه جملة. ومن القرآن: "إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين" (القصص 7) مثال أشدّ وضوحا وأتمّ تجسيدا. والمركّب شبه الإسناديّ مبحث طريف في اللسانيات العربيّة اليوم لأنّه شديد التّنوّع بقدر الإمكانيات الاشتقاقيّة لها وللطّاقة التّعبيريّة المعوّل عليها في بناء أدبيّة الكلام كما نلاحظ في بيت النّابغة الذّبياني. هذا التّمشّي لآبن هشام إنّما هو ناتج عن مفهوم للجملة غير ما هو سائد اليوم بفضل التّبلور الكاشف لمفهوم البُنية وإمكانيّة عزل البُنى التّركيبيّة بعضها عن بعض واعتبار اكتمال عناصر البُنية تركيبًا وانقطاع صِلتها بما قبلها وما بعدها من جهة التّركيب واكتمال دلالتها محدّدا في بيان حدود الجملة. فما سمّاه ابن هشام جملة واقعة في محلّ إعرابيّ لا يعدو أن يكون إمّا مركّبا إسناديّا فرعيّا أو مركّبا شبه إسناديّ.
top of page
12654504_225396331128191_883311691589806
1080-1-fr-363bc6a16aa0ae0db5eacd885968d1
12654504_225396331128191_883311691589806
1/6
لجميع ابداعاتكم هذا الفضاء الحرّ
bottom of page
Comments