ما جدوى الكتابة الأدبية في أزمنة الخراب؟ طرحت الميادين الثقافية هذا السؤال على شعراء وكُتّاب من دول عربية.. وهذه كانت أجوبتهم.
-----------------------------------------------------------------------
أسعد الجبوري
ومن العراق أيضاً يُفكِّك الروائي والشاعر أسعد الجبوري الحكاية الأدبية العربية اليوم: "يمكن تحويل الشعر إلى طاقة، بمعزل عن تحرير أدوات اللغة، وجعلها أكثر قابلية لتصفية خصوم المُخيّلة. كل ذلك لا يحدث قبل رَدْع التشابُه والاستنساخ وعمليات التحايُل على النصوص الأمّ. فالشعرُ ليس سريراً للنوم، بل هو مجالٌ مغناطيسي لتكوين العلاقات ما بين مُغْرَمي اللعب بكُرات النصوص. كذلك الرواية، فهي لا تعني تراكُم معارِف وتزايُد خبرات في التخيّل، بقَدْر ما على الروائي أن يكون "مكنسيان" يمتلك مجموعة آلات تستطيع التحكّم بتفكيك براغي الأمراض الجوانيّة المُستعصية للوجود البشري. وإذا كانت الكتابة نوعاً من الشَغَف أو الاحتراق الوجداني في أغلب تجلّيات العمل الأدبي، فإنها اليوم لم تعثُرعلى ما يمكن أن تحفر أفكارها عليه، لا وَرَقاً ولا جلوداً ولا صخوراً كما كانت العادة في العصر المسماري. كتابات الساعة الراهِنة مسامير تكاد تُدَقّ بالفراغ، وليس لها من الأصوات إلا ما يؤتمن على ذلك الصوت الذي تنطق به النملة، عِلماً أن الأخيرة تنتظم في طوابير عمل لبناء حياة، مثلما تعتمد أسلوباً أمنياً للحفاظ على ما تؤلِّفه في بيوتها تحت الأرض أو فوق التُراب".
ويُضيف الجبوري: "في كل كتابةٍ خيط دم سواء أكان رفيعاً أمْ سميكاً، ولكنه في كل الأحوال يحمل جينات فكرية أو شعرية أو أدبية فنية أو فلسفية، تجتمعُ فيها الناس وتتفرَّق. تتحابَب أو تتقاتل. تتساكَن أو تتباعَد. فما من لغةٍ إلا ولها شعوب برقميات لتوثيق بنيات المشاعر والأحداث والطقوس والمراثي والعادات والفنون والجِراح واللاهوتيات والغرام، مثلما ما من شعوبٍ إلا ولها لغات تتعاظم فيها الآمال والهواجِس والنظريات والابتكارات والأحلام والمعارِف والآلام والأغاني والخُرافات وأهل الجنّ والجنون. من هنا، فإن حوامِل اللغات من البشر- كتابةً وقراءةً - هم الحقول الخصبة لتفاعُلات النصوص، بهم ترفع المؤلَّفاتُ رؤوسها لتتفاعل مع الهواء الطَلْق، فتكتسب الطاقات لتُعطي القُرَّاء الأوكسجين، أو تُصاب اللغةُ تلك بالضمور والانكماش، فتتصحَّر ولا تمنح الآخر غير الريح والرمال وسِلال المُهْملات".
ويُكْمِل الجبوري: "راهناً، لم تعد الأسئلة النارية أو الحادَّة عن جدوى الآداب والفنون في حياة العامة، تُثير الصَخَب والاهتمام،لا في خلايا الصحافة والإعلام، ولا عند أغلب البشر ممَّن سممَّت الحروب دماءهم أو أفنتْ الأوبئةُ لحومَهم مُضافاً إليها ثعابين الفاقة وذئاب العَوَز وسياط طُغيان السلطات ولا مُبالاتها بطبقات الشعوب التي أصبحت طبقتين: ذهبية وطينية بعد اختفاء الطبقة اللبنية الوسطى. ظروف المجتمعات العربية الآن، جعلت المُفاضلة ما بين مائدتي الأدب والطعام أمراً أوّلياً وحاسِماً إلى حدٍّ ما. مُفاضلة موجِعة وحسَّاسة ما بين أشكال الحروف وحبَّات القمح، وقَدَّمت بالتالي الرغيف على الكتاب كمسألةٍ مفروغٍ منها على صُعُد يوميات تستمد طاقتها من القمح والشمس أولاً ومن الطحين والماء ثانياً ومن الخبزوالهواء قبل أيّ شيء آخر".
ولا ينسى أسعد الجبوري أن يحكي عن الجوائز التي أضعفت الرواية بدل أن تُعزِّز من دورها "إن تفاقُم الأزمات الأدبية قد حصل قبل انهيار وجه الرغيف واحتراقه، وقبل فُقدان كبسولة الدواء وشراب الترياق. وحدث قبل انتشار الديدان في الدورة الدموية، كان على الشعر تحصين جوهره من التسوّس والاستسهال العَبَثي للكتابة الطارئة المجانيّة التي تأتي من دون تكلفة فكرية أو ذائِقة فنية أو هاجس يتعلّق بالنَبَض الحارّ للجماليات. كذلك الرواية، فهي لم تبلغ مرحلة تأمين الخلاص أو الراحة النفسية للمخلوقات في منازل العرب المُهدَّمة أو تلك التي بنصف سقف. الرواية التي صَغُرَت وتصاغَرت أمام الكوارث والحروب حتى أصبحت أمامها حركات الصليب الأحمر وقوات الطوارئ، أكثر أهميَّة من أية نشاطات أدبية يقوم بها الكُتَّابُ والمؤلِّفون من خلال مؤسَّسات ثقافية باهتة واتحادات فارِغة بطابعٍ سياسي مُغبَّر وأيديولوجي مُثلَّج. كان على الرواية أن تنتشل كُتَّابها ومؤلِّفيها من براثن الجوائز الأدبية المُغرية التي جعلت الغالبية العُظمى من الروائيين العرب حريصين على الكتابة بعقلٍ رقمي مُبَرْمَج حسب الطلب المُقتضى من أنظمة بُلدان تلك الجوائز التي تُثير اللُعاب، وتقمع منسوب الحريات غير المُلزمة التي عادة ما تتنافى ورغبات لجان القرار والتحكيم الخليجية بشكلٍ عام. لقد أخذ الدمُ مكان الحبر الآن. مثلما أصبح الرغيف بديلاً عن الورق على صفحات هذا الجحيم الأرضي في حديقتنا الجوراسية"
Comments