مؤتمر واقع الأدب العربي المعاصر روما نوفمبر 1961"
في مدينة روما المجاورة لنا في الجغرافيا وفي التاريخ أيضا...
في هذه المدينة، مدينة الموسيقى والنحت والرسم والمعمار والشعر أيضا، بلد فرجيل صاحب الإنياذة انعقد مؤتمر يبدو للسامع مستغربا أومثيرا.
كان هذا في أيام السادس عشر والأيام الموالية له من شهر نوفمبر 1961
والمؤتمر كان بعنوان "واقع الأدب العربي المعاصر" شارك فيه أقطاب من شعراء وروائيين ونقاد ومنظرين، على أيديهم وقع تطوير الأدب العربي وانخرط بواسطتهم في تيار الحداثة.
هؤلاء الشعراء هم: يوسف الخال شاعر ومنظر (سوري لبناني) وعيسى الناعوري (من الأردن) وإبراهيم مدكور (من مصر) وعائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ (من مصر كذلك) ومحي الدين محمد وهو مصري كذلك وجبرا إبراهيم جبرا (من فلسطين) وبدر شاكر السياب (من العراق) ومحمد مزالي (من تونس).
يكفي أن نستقرئ هذه الأسماء الفاعلة في بناء الحداثة الأدبية العربية لنقف على القيمة المعتبرة لما قد يقدّمونه من مادة معرفية ورؤية تحليلية لوضعية الأدب العربي ثم على الاختلاف الواضح في مشاربهم الفكرية.
فجبرا إبراهيم جبرا روائي ومترجم بالأساس ومدرّس لغة انجليزية في الجامعة العراقية لكنه كتب الشعر أيضا...
ويوسف الخال شاعر أنشأ مجلة "شعر" مع عمله في إدارة التحرير وفي العمل الديبلوماسي.
وإبراهيم مدكور عالم لغة ومختص بالفلسفة وجامعي ومصلح اجتماعي وسياسي. رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وعيسى الناعوري أديب وكاتب وباحث عمل جاهداً على تقريب الثقافة الإيطالية من القرّاء العرب بدءاً من ستينات القرن الماضي.
وعائشة بنت الشاطئ باحثة في العلوم الإسلامية ومحقّقة مخطوطات يكفيها أنها حققت رسالة الغفران ثم رسالة الصّاهل والشّاحج ...للمعري.
يعني أنّ هذه المشاركات كانت من مشارب أدبية وفكرية شديدة التباين.
وقدّم المشاركون دراسات قيمة متعلقة بآفاق الأدب العربي راهنا ومستقبلا.
***
قد يتساءل القارئ "لماذا ينعقد مؤتمر للأدب العربي في مدينة غربية
وليس في مدينة عربية؟"
في الحقية لا نملك إجابة واضحة، وما نسوقه في هذا الصّدد مجرد قراءات لأوضاع ممكنة.
ذكرنا صلة النّاقد الأردني عيسى النّاعوري بالآداب الإيطالية فقد كانت صلته وثيقة بالعديد من أعلام الأدب الإيطالي وبالمستشرقين في أنحاء العالم ووقع تكريمه في إيطاليا بمنحه درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة باليرمو عام 1976، وبتعيينه عضوا شرفيا في مركز العلاقات الإيطالية العربية. وترجم كتابين من مختارات الشّعر الإيطالي.
لعل هناك سبابا آخر نابعا من الواقع العربي بالذات جعل هذا المؤتمر ينعقد بجهة محايدة لعلمنا مدى سعي الأنظمة العربية في تلك الفترة للسّيطرة على الثقافة واستغلال المثقفين قصد توجيه الثقافة عموما نحو خدمة الإيديولوجيا المحلية وتمكين سلطة الدولة.
ولعلّ المؤتمر الرّابع للأدباء العرب الذي انعقد بالكويت أواخر سنة 1958 حول مسألة البطولة في الأدب العربي قد بيّن مدى الاختلافات وتأثير الحكومات في مجريات المحاضرات والنقاشات (مداخلة محمد مزالي أثارت عديد الرّدود ليس هذا وقت استعراضها) وقد كان لكل قطر عربي بطل يمجّده وأيقونة يقدّسها. ولم يخل الأدب في ذلك الحين من خدمة الدولة القومية من ناحية وخدمة السياسة والقضايا العربية المطروحة في ذلك الوقت. فقد نالت القضية الجزائرية نصيب الأسد من توصيات المؤتمر بهدف دعم الجزائريين في نضالهم.
ولم يخلُ الأدب أيضا من توجّهات فكرية متناقضة ونزاعات كالخصومة بين المحافظة والتجديد والمذاهب الاقتصادية والاجتماعية... فمؤتمر روما كان حينئذ محاولة جادّة للتقريب بين " زعماء الثقافة " للنظر في واقع الأدب العربي وتدارسه وتوجيهه.
***
ومن بين الأسباب التي جعلت هذا الملتقى يعقد بروما وليس في مدينة عربية الرغبة في الاتصال بالمستشرقين حيث نحدس بوجود وسائل ما لترجمة المداخلات إلى اللغات الأوروبية فضلا على أنّ المستشرق ينبغي نظريا أن يكون على إلمام باللغة العربية أو بلغات شرقية أخرى حسب الاختصاص... ونحن نعلم أن الكثير منهم درسوا آدابنا بل عرّفونا بها مثل أنطوان سلفستر دي ساسي الذي حقق «مقامات الحريري» ـ وطبعها لأول مرة على حسابه الخاص 1812سنة ، وزوّدها بشرح بالعربية. وشارل بيلا المتخصص في الجاحظ وفي الفتوحات الإسلامية... والقائمة تطول. إلا أن اهتمام المستشرقين بالأدب العربي ظل حبيس المنجز التراثي دون الاهتمام بالأدب الحديث.
فالاتصال بالمستشرقين ودراسة واقع الأدب العربي في حضورهم هو في اعتبارنا محاولة للخروج بالأدب العربي من حيّزه الجغرافي الضيق ومن الأفق المحلي إلى الأفق العالمي ولفت نظر أدباء العالم إلى منجَزه.
***
هذه الغاية أيْ الخروج من بوتقة المحلي إلى أفق العالم كان موضوع الدراسة التي قدّمها عيسى الناعوري.
أما إبراهيم مدكور فقد تناول الأدب العربي تجاه مشكلتي اللغة والحرف باعتباره لغويا ومجمعيا...
وتحدثت بنت الشاطئ عن مشكلة الأدب النسوي العربي المعاصر محاولة تأصيل الظاهرة مستعرضة تاريخها في الحضارة العربية.
أما محيي الدين محمد وهو عالم لغوي وفقيه غير معروف كفاية لدى أغلب التونسيين فقد ركز في مداخلته على قضية القديم والجديد ولاحظ الانفصام بين حياة الأديب العربي الشاب وبين جذوره الثقافية وذلك بسبب ما تكتبه طائفة من الأدباء قدامى الرّوح ويقدَّم لجيل فاقد للاتجاه.
وناقش بدر شاكر السياب قضيتي الالتزام وعدمه في الأدب العربي الحديث فنظر إلى المسألة أصوليا في البداية ثم درسها من ناحية تاريخية.
وتحدث جبرا إبراهيم جبرا عن الدور الذي تلعبه الأجناس الأدبية المختلفة من رواية وأقصوصة ومسرحية في المجتمع العربي... متّخذا روايتيْ الفتاة اللبنانية ليلى بعلبكي "أنا أحيا" و"الآلهة الممسوخة" منطلَقا لدراسة كيفية التلقي المجتمعي لرواية كتبتها فتاة تقول ما يُسكت عنه عادة كالمجاهرة بالحبّ والرغبة فيه.
***
عبد المجيد يوسفد
Comments