لأُمِّي
هذا الوجه النورانيّ الخجولْ
لدُخَانٍ يهْدِرُ بالموسيقى،
لزمانٍ يعرِفُ وجهَ طفولَتِنا وعراقةَ هذا الشُبّاكِ
عودي للمطبخِِِ عودي يا طُوباكِ
للنَّكَهاتِ الأولى
للكمُّونَيَّةِ ذاتِ الرائحةِ النفّاذةِ والطَعْمِ الأسطوريِّ،
لأحزانِ "الشطَّةِ" في وجهِ الطفلِ المُتباكِي
ولِأنكّ يا نبعَ الكاكاوِ ويا بِنْتَ النُسَّاكِ
ما زلتِ بعُمرِ اليَنْسونِ
على قمَّةِ هذا العُمْرِ الستِّينيِّ
وتحتفظين برائحةٍ من أعشابِ صِباكِ
عودي يا طُوباكِ
كي نهربَ من نكَهاتِ الفوضى وضخامةِ هذا الهَمِّ
للجنَّةِ باللهِ خُذينا وبِنا اهْتمّي
فالجنَّةُ طعْمُ حِساءٍ من كفِّكِ يا أُمّي
عودي "للعَنْكوليبِ" وللحُبِّ المَسْلوقِ
وللمَرَقِ المَطْهوِّ على مَهَلٍ
في كُلِّ الليلاتِ
ولرائحةِ البصل المحروقِ بأنغامِ المِقْلاةِ
عودي بالنكْهَةِ
فالنَّكْهَةُ أنتِ
ونحنُ توابِلُ ذابتْ في مرَقِ الأوقاتِ
لكنَّ الدنيا مسختنا يا أُمّي
رغماً عنّا
أخذتْنا بين النكهةِ والنكهةِ
منكِ ومنّا
والوَهْمُ يمرُّ سريعاً لا يفتأُ في دُنيا الناسِ
عودي يا بِنْتَ التعَبِ القرَوِيِّ ويا ذاتَ الحُلُمِ الراسي
كي لا يُصبحَ هذا الطينُ النبّاضُ بلا إحساسِ
عودي يا طوباكِ
ونحنُ بعيدون هنا صُبّي في "الحَلَّةِ"
مِنْ ذاك الزيتْ
وأريقي بعضَ الماءِ علينا
كي يصبحَ طلْقاً وجهُ البيتْ
وأعّدِّي وجبةَ إفطارٍ فأنا منذُ سنينٍ لم أُفْطِرْ
جاهزُةٌ ما تعشقُ من أطباقي
بلْ أكثرْ
والإفطارُ مُعَدٌّ مِنْ حَلْوى عينيَّ
فلا تتأخرْ
فأنا فيكَ أشيخُ سريعاً يا ولداهُ
وهذ الجسْمُ المُتهالكُ من مِدْخنةِ الأعمارِ تبَخَّرْ
لا يا أُمّي
لا يا أُمّي
يا زهْوَ المولودِ ويا فخْرَ الوالدْ
بل أنتِ زمانٌ رَحْمانِيٌّ خالدْ
ما هذا الحُزنُ بصوتِك يا أُمّي
وصغاراً كنا نبكي لو نبصرُ لمحَةَ أحزانِكْ
لكِنّا من عشِّكِ طِرنا نحو الوحشَةِ صِرنا
أقسى مما نتصورُ يا أُمّاهُ
ونحن على القسوةِ بعضٌ
من بعضِ نُثارِ حنانِكْ
عودي كي تتفتحَ فينا زهرةُ إنسانِكْ
ما دُمنا نحنُ رهانِكْ
عودي للمطبخِ عودي يا طوباكِ
لدُخَانٍ يهْدِرُ بالموسيقى،
لزمانٍ يعرِفُ وجهَ طفولَتِنا وعراقةَ هذا الشُبّاكِ
بحر الدين عبدلله احمد من السودان
Commentaires