اعادني كتاب " مراسلات جورج لوكاتش " الصادر حديثا عن دار المدى ، إلى المرة الاولى التي تعرفت فيها على كتابات هذا الفيلسوف الذي كان يستهويه دوما الجلوس على كرسي الناقد الادبي .. كان ذلك في نهاية السبعينيات عندما وقع بيدي كتاب صغير الحجم بعنوان " معنى الواقعية المعاصرة " تاليف جورج لوكاش – كما مكتوب على الغلاف – ترجمة امين العيوطي .. واتذكر ان المؤلف لم يثير اهتمامي لقراءة الكتاب ، ولكن الغلاف الذي رسمت عليه تخطيات لوجوه كتاب كنت مغرما بهم الاول برتولد بريشت والثاني وليام فوكنر ، اما الثالث فقد كنت اخشى الاقتراب من روايته الكبيرة " البحث عن الزمن المفقود " والتي كانت آنذاك تصدر ترجمتها العربية على اجزاء .. كان كتاب جورج لوكاتش شيئا غريبا بالنسبة لي فللمرة الاولى اجد نفسي قارئ من الدرجة العاشرة ، فالمفاهيم التي يطرحها والاسماء التي تتقافز من صفحات الكتاب ، تثبت بالدليل القاطع انني ما زلت لم اتبين طريق القراءة الحقيقي .. قرأت الكتاب وسجلت بعض الملاحظات ثم ذهبت لاستفسر من استاذي ثامر مهدي والذي كان يُدرس مادة علم الجمال ، عن لوكاش او لوكاتش هذا ، ومن يعرف ثامر مهدي يدرك جيدا لماذا التجأت اليه ، فهو مثقف موسوعي ، تراه مبتسما طوال الوقت يرفع شعار " محو امية العقل " ، وكان شديد الاهتمام
بالكتاب ، وما ان تجلس اليه حتى تشعر انك امام محقق يريد ان يعرف ماذا تقرأ ؟ ولم تنفع معك إلا مرافعة تمنحك امتحان القبول لديه ، ما ان حدثته عن الكتاب الذي قرأته ، والاسئلة التي دونتها في ورقة وضعتها بين صفحات الكتاب ، حتى قال لي وعلى طريقته الخاصة لشرح افكاره : هذا ناقد ادبي عظيم ومنظر في علم الجمال بدرجة فيلسوف .. كان اعتناقه للماركسية يمثل حلا للصراع الذي عاشه في فترة شبابه بين عشقه اللامحدود للفيلسوف الالماني هيغل ، وبين رغبته الملحة ان يجعل الادب والفلسفة في خدمة الناس كما اوصى كارل ماركس .. ولهذا حتى لحظة وفاته عام 1971 لم يجد الحل ، حيث تعرض الى هجوم كبير من جماعة الواقعية الاشتراكية الذين اتهموه بتحريف الماركسية ، وانه اهتم بالذاتية ، واشار لي ثامر مهدي ان لوكاتش كان يقول إن الماركسية الأصلية لا تعني تسليمًا أعمى بنتائج بحث ماركس، ولهذا فهو ماركسي هيغيلي ، اكثر من كونه ماركسي بلشفي ، ساجانب الحقيقة لو اقول انني استوعبت كل ما قاله الاستاذ ثامر مهدي ، فانا ذهبت استفسر عن معلومات واسماء في كتاب يتحدث عن الرواية والمسرح ، فاذا بي اجد نفسي في متاهة فلسفية اطراف الصراع فيها ينقسمون بين مشجعين لهيغل ، ومريدين لماركس ، ورغم هذا
خرجت من اللقاء بثلاثة كتب اعطاني اياها استاذي " ابو لؤي " على سبيل الاعارة ، ومن اجل ان اتعرف بشكل اوسع على منهج جورج لوكاتش سواء كان في النقد الادبي او في الموضوع الفلسفي ، وكانت الكتب والتي لازلت اتذكرها لأنها ساعدتني في فتح مغاليق هذا الفيلسوف هي كتاب دراسات في الواقعية ، وكتاب بلزاك والواقعية الفرنسية ، وكتاب " جورج
لوكاتش الذي كتبه الفرنسي هنري ارفون، وفيه يحاول ان يقدم صورة للخطوط الكبرى لفكر لوكاتش .
في الايام الاخيرة من حياته وبالتحديد نهاية منتصف شهر آيار من عام 1971 ، اعترف وهو على سرير المستشفى الذي نقل اليه بعد ان ساءت حالته الصحه انه عاش طيلة حياته صراعا عميقا بين " الفلسفة المثالية ، وبين الاتجاه نحو الفلسفة العلمية " وسيخبرنا ان هذا الصراع لم يجد حله النهائي رغم انتمائه الى الماركسية .
في سيرته الفكرية كثيرا ما اعتبر جورج لوكاتش نفسه نتاج المجتمع والتاريخ الذان عاش فيهما . مارس النقد الذاتي لاعماله واعتبر كتابه الاول " فن الرواية " يحمل افكارا ساذجة :" لم اعلن مطلقا بان هذا الكتاب قد خط من قبل شخص غير موهوب ، لكنه مازال مجرد مزيج بين افكار شاب وكاتب مبتدا " .. في كل مرحلة من حياته نجده يوجه نقدا لافكاره ونظرياته التي يشعر بانه تخطاها .. ولهذا يجد قراء كتبه او سيرته انهم امام مجموعة " لوكاتشات" .. لوكاتش المفكرالمثالي ، ولوكاتش الماركس الثوري المخلص للمنهج الماركسي ، ولوكاتش الذي كان يجد في نفسه القدرة على النهوض بالايديولوجية الماركسية بعد تشويهها من قبل المرحلة الستالينية ، وهناك لوكاتش آخر اتخذ موقف حزبي مساند الى جانب ستالين وبرر ذلك بانه لم يكن مخطئا ، فقد كان هتلر آنذاك يتقدم ، وكان ستالين يحاول ان يوقف المسيرة النازية ..لكن من بين جميع هذه "الوكاتشات "، يبقى لوكاتش الساعي الى السير في طريق ماركس ، وهو ما دفعه ان يضع عنوانا ثانويا ليومياته " طريقي الى ماركس " .. كان لوكاتش يأمل في ان يكون ماركس عصره يكتب في " التاريخ والوعي الطبقي " – ترجمه الى العربية حنا الشاعر - :" لنفترض جدلا ان التحريات الحديثة اظهرت مرة واحدة وللابد بطلان كل اطروحة من اطروحات ماركس الشخصية ، وحتى وان ترتبت البرهنة على هذا ،فكل افكار ماركس قابلة للتجديد .
" العيش في خطر " كان اختيار لوكاتش في معظم سنوات حياته ، في شبابه قرأ عبارة نيتشه : " لكي تجني من الوجود أجمل ما فيه عش في خطر" . " العيش في خطر " لم يكن اختيار رومانسي للوكاتش ، بل حياة اختار فيها الحركة من خلال اللا استقرر في الحياة والهجرة والعمل السري والاخطار التي تعرض لها ، مما ادى به ان يقف وحيدا بنتاجه الفكري الضخم . يقول توماس مان ان لوكاتش كان يعرض حقائقة في اوقات غير مناسبة ، اعتبره المتحجرون عقائديا منحرفا ، ووصفه الماركسيون بالمتحذلق الهيغلي ، وحراس الثقافة البرجوازية وجدوا فيه خائنا لتراث الفكر الالماني فاطلقوا عليه وصف " بولشفيك غوبلز " وكان يرد قائلا :" علقت في حلوقهم ، فلا هم بقادرين على بلعي ، ولا هم بقادرين على بصقي " . وقد اثارت شخصية لوكاتش الروائي توماس مان الذي أعطى الراهب اليسوعي في روايته " جبل السحر " بعضا من صفات لوكاتش ، فراهب توماس مان ، يحظى باحترام كبير عند رجال الكنيسة ، لكنهم في الوقت نفسه يعتبرونه جسما غريبا على مجتمعهم الكهنوتي .
ولد جورج برنارد بارون لوكاتش في الثالث عشر من نيسان عام 1885 في بودابست لاسرة يهودية غنية ، كان ابوه مديرا لاحدى البنوك الكبرى في المجر ، اراد من ابنه الكبير جورج ان يسير على خطاه في المستقبل ،
ويدرك ان المال هو " عصب الحياة " ، لكن الابن سيقاوم رغبة الاب ، وبقرر ان يسلك طريقا آخر لانه كما قال في واحدة من احاديثه ، يحس في اعماقه منذ صباه المبكر كراهية عميقة للرأسمالية ، اما الأم فكانت ربة بيت تعشق القراءة ، حاولت ان تنقل هذا العشق الى الى اولادها الثلاثة ، فوجد لوكاش الطفل نفسه محاطا بالكتب ، في كل مكان ، يتذكر انه كان يمسك بثوب امه وهي تتمشى في باحة بيتهم الكبير تقرأ بصوت عال احدى قصص تشيخوف او فصل من رواية لديكنز ، وعلى عكس شقيقه وشقيقته ، ابدى الصبي جورج اهتماما بالقراءة . وفي سن التاسعة من عمرة جرب ان يكتب قصة على غرار قصص تشيخوف لكي تقراها والدته . لكنه بعد ذلك يجد نفسه ميالا الى الفلسفة ، وسيكتب في يومياته :" حقا ان الفلسفة هي الحنين . انها الرغبة ان يكون المرء ببيته في كل مكان ، من هنا فان الفلسفة . كشكل من اشكال الوجود .. هي دوما دلالة على الانفصال او دلالة على التفاوت الجوهري بين الأنا والعالم وعلى انعدام التطابق بين الروح والفعل " .، في بودابست يدخل المدرسة الابتدائية ، ويلتحق بالثانوية ، لكنه يقرر ان يدرس في احدى الجامعات الالمانية ، في السابعة عشر من عمره ينضم الى " نادي الطلبة الاشتراكيين " ، لم يكن لوكاتش آنذاك قد تعرف على فكر كارل ماركس جيدا ، قرأ بعض كتابات ماركس وانجلز ، اعتبر ان تاثير ماركس الاقتصادي اهم من تاثيره الفلسفي ، فقد كان يعتقد ان النظرية الكانطية الجديدة في المعرفة قد تخطت نظرية المعرفة الماركسية .كانت الكانطية الجديدة تسعى لإعادة تفسير العلاقة بين رؤية كانط الفلسفية والعلوم الطبيعية في ضوء الاكتشافات العلمية الجديدة، وكانت الكانطية الجديدة آنذاك هي التيار الفلسفي السائد وسط البلدان الناطقة بالالمانية ، وكانت ممثلة في مدرستين : الاولى يمثلها "هيرمان كوهين " و " بول ناتورب " والثانية التي يعبر عن افكارها "وليلم فيندلباند " و" هاينريش ريكرت " ، وقد اتجه لوكاتش صوب المدرسة الثانية التي كانت تهتم بالدرجة الاولى بالقضايا التاريخية والاجتماعية ، حيث قرر السفر الى برلين للدراسة تحت اشراف " هاينريش ريكرت " ، وهناك تعرف على تلميذ سوف يصبح من ابز مفكري عصره وهو " ماكس فيبير " . كان لوكاش قبل سفره الى المانيا قد نشرعدد من المقالات والدراسات عن المسرح ، حيث نشرت اول كتاباته في العشرين من شباط عام 1902 ، كان في السابعة عشر من عمره حين انجذب بقوة الى المسرح ، والمقال كان عن احدى مسرحيات هنريك ابسن ، وبسبب اعجابه بالكاتب المسرحي النرويجي قرر في شهر تموز من عام 1902 السفر الى اوسلو للبحث عن ابسن ،في ايلول من نفس العام يبدأ دراسته الجامعية في كلية الحقوق بجامعة بودابست ، عام 1904 يشارك في تاسيس فرقة تاليا المسرحية ويترجم للفرقة مسرحية ابسن " البطة البرية " ، ينشر سلسلة من المقالات عن الدراما ، والتي ستصدر عام 1908 في كتاب ضخم بعنوان " تاريخ تطور الدراما الحديثة " – ترجمه الى العربية كمال الدين عيد – وفيه يتساءل الشاب البلغ من العمر " 23 " عاما : هل هناك دراما حديثة ؟ واذا كانت هناك مثل هذه الدراما ، فما اسلوبها ؟ شكلها ؟ اين مكان الابداع الادبي والفني فيها ؟ .وسيخصص فصلا كبيرا للحديث عن كاتبه المفضل ابسن يكتب فيه :" ان اهم هدف خصصه ابسن في عصره هو بعث الدراما الاجتماعية الكبيرة التي افرزت تراجيديا المواطنين .. سعى ابسن الى حيث يقف الناس ليرفعهم - معه - الى درجة عليا من التفكير والعلاقات " .
عام 1910 ينشر كتابه " الروح واشكالها " وهو الكتاب الذي سيضع اقدام لوكاتش على اول سلم الفلسفة ، يصف لويس غولدمان كتاب لوكاتش هذا بانه يحاول الاجابة على سؤال مهم هو :" تحت اية شروط يمكن للحياة ان تكون صادقة "، ويضيف غولدمان ان كتاب لوكاتش يمثل خطوة هامة في تطور الوجودية الحديثة . بسبب سوء حالة والده الصحية يعود الى بودابست عام 1909، حيث يسافر مع والده في رحلة علاج الى فرنسا .في عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى يتفرغ لوكاتش لكتابه " " نظرية الرواية – ترجمه الى العربية نزيه الشوقي - وفي هذا الكتاب الذي نشرعام 1916 يتخلى لوكاتش عن افكار " الكانطية الجديدة " لأنه وجد ان مقولاتها الفلسفية لا تضع اعتبار للتاريخ . فالقيم الفلسفية عند اصحاب هذه المدرسة كما يرى لوكاتش كانت متعالية على الزمان والمكان ، وفي هذا الكتاب يخطو باتجاه هيغل ، وقد بنى لوكاتش نظريته في الرواية على فكرة " البطل الاشكالي " الذي يسقط في التيه حين يلتقي بالعالم ، كانت الحرب قد اثرت عليه كثيرا ، فوجد نفسه مثل احد ابطال الروايات يبحث عن قيم اصلية في عالم متدهور . فالعالم يقذف بالانسان الى بحث تائه لا افق له . الكتاب الذي كتبه لوكاتش الذي لم يكن حينها قد بلغ الثلاثين من عمره يكشف لنا عمق الازمة الفكرية التي كان يعيشها ، ويكشف صورة لوكاتش الغريب والمعذب والتائه في دروب الفكر .، لكن بعد سنوات سيتخلى لوكاتش عن الافكار التي طرحها ، ويعتبر الكتاب مرحلة من مراحل تطوره الفكري . ياخذ دارسي الادب على كتاب لوكاتش هذا اصراره على ان دستويفيسكي لم يكتب اعمالا روائية ، وانما اعمالا تنتمي الى الفلسفة وعلم النفس ، كما انه حاول ان يتجاهل روائيين كبار مثل ستندال . لكن برغم ذلك فان الفكرة التي طرحها لوكاتش في الكتاب عن تطور الطبيعة ، ستكون هي الفكرة التي ستشكل فيما احدى افكاره الاساسية عندما كتب موسوعته عن علم الجمال التي يمكل اجزائها الثلاثة في نهاية عام 1914 ، ظل الياس والتشاؤم يغلف فلسفة لوكاتش الجمالية ، فقد كانت ظروف الحرب العالمية الاولى تزيد من حالة اليأس ، حتى انفجرت ثورة اكتوبر عام 1917 في روسيا ، يكتب في احدى رسائله ان طريقا ينفتح امام الجنس البشري للخلاص من البؤس والاستغلال والرأسمالية . ويطرح سؤالا على بعض المقربين منه : هل يمكن تكرار ما حدث في روسيا على ارض المجر ؟، يعود لوكاتش ثانية الى بودابست حيث تمت دعوته للخدمة العسكرية ، لكنه يسرح من الجيش بعد شهرين ، في تشرين من عام 1918 يتم تأسس الحزب الشيوعي المجري ، ينظم لوكاش الى الحزب ، ويصبح عضوا قياديا في اللجنة المركزية ، في 21 من اذار عام 1919 الاعلان عن الجمهورية المجرية الاشتراكية ، يصبح لوكاش عضوا بارزا في قيادة الثورة ، غير ان هذه الحكومة لم تستمر طويلا لتنهار في اب من عام 1919 ، مما اضطر لوكاتش الى اللجوء الى فينا هناك يصدر جريدة بعنوان " الشبيوعي " يراس تحريرها بين عام 1920 و1921 ، وسوف يتحدث عن تجربة هذه بعد اكثر من اربعين عاما ليقول انه ورفاقه ، ما كانوا يملكون في ذلك الوقت إلا معرفة ضئيلة بالنظرية اللينينية للثورة .. كانلوكاتش اثناء الثورة قد طالب باندماج الحزب الاشتراكي الديمقراطي المجري مع الحزب الشيوعي مؤكدا ان هدف الحزبين كان وصول الطبقة العاملة للسلطة ، ولقد تحقق هذا الامر في نظره ، وطالب بوقف ما اسماه العنف الطبقي الغير مبرر ، واحتج على اعتقال البرجوازيين وممثلي الحكومة السابقة .
في هذه الفنرة يكتب لوكاتش واحدا من ابرز كتبه " التاريخ والوعي الطبقي " والذي اتمه عام 1922 ، فهذا الكتاب لا يزال يعتبر قمة من قمم الفلسفة الماركسية في القرن العشرين ، وان كان لوكاتش قد كتب قبل رحيله وهو يمارس النقد الذاتي لمسيرته الفكرية :" ان هذا الكتاب هو التركيبة الفلسفية لاخطاء السنوات الاولى من تمرسي السياسي " .وقد اثار الكتاب الكثير من المناقشات التي لم تخلوا من حملة ضد كاتبه الذي وصف بالبتحريفي حيث اصدر مؤتمر الاممية الثالثة بيانا هاجم فيه لوكاتش واشار اليه باعتباره من :" اولئك الذين يدعون الاخلاص لروح ماركس ، بينما يقولون ان تطور المعرفة المعاصرة يتطلب تعديلات في مضمون الماركسة ، ان محاولة لوكاتش تفسير ماركس عن طريق نبذه انجلز قد قادته الى المثالية الفلسفية . وان لوكاتش قد تخلى عن ديالكتيك الطبيعة "، فيما علق الحزب الشيوعي الالماني من ان نظرة لوكاتش الى الحزب الشيوعي ليست هي النظرة الماركسية اللينينية ، انه كتاب لا يصور الحزب بوصفه اكثر اقسام البروليتاريا تقدما ، وانما يصوره بوصفه تشكيلا من الصفوة الثورية التي تمثل المثقفين الذين يعتقدون انهم وحدهم الذين يملكون الحقيقة .
كان كتاب " التاريخ والوعي الطبقي " قد رسخ قواعد نظرية ماركسية أخرى متأثرة بفلسفات " الذات " الغربية مستلهماً فيها، لا ماركس وحده، وإنما هيغل أيضاً. معيداً الاعتبار للروح الجدلية في الماركسية التي كان ينشدها ماركس في شبابه .
ولم يدخل لوكاتش في نزاع مع منتقديه ، لكنه سيكتب بعد سنوا ت ان اسبابا تكتيكية هي التي كانت وراء الكثير من افكار هذا الكتاب ، واصر لوكاتش انه برغم مراجعته لبعض افكار الكتاب ، إلا انه لا يعتقد ان كل ماجاء فيه كان خاطئا .. ويتذكر ان الخلاف بدا مع الحزب الشيوعي بدأ منذ عام 1920 عندما كتب عددا من المقالات بعنوان " في صدد البرلمانية " والتي اثارت اهتمام لينين فوجه لها نقدا قال فيه ان " ماركسية الرفيق جورج لوكاتش ، ماركسية لفظية فقط " ، وقد لزم لوكاتش الصمت ، وظل لسنوات يمتنع عن كتابة اية دراسة سياسية ، ورفض اعادة طبع الكتاب ، وعندما ظهرت الترجمة الفرنسية عام 1960 احتج بشده مؤكدا ان افكار الكتاب اهملها منذ زمن بعيد ، وانها لا يمكن إلا ان تحدث اضطرابا وتشويشا، بعد ضجة " التاريخ والوعي الطبقي " حاول لوكاتش ان يقلل من نتاجه الفلسفي ، حيث لم ينشر عام 1924 سوى دراسة واحدة عن لينين ، ولكنه يقول عن هذه المرحلة انها قادته بعيدا عن افكاره الاولى حول الاشتراكية ، بعد وفاة لينين سيدخل الحزب الشيوعي المجري في نزاع بين اعضاءه ، وقد وجد لوكاتش نفسه يتخذ جانب المجموعة التي كانت تنادي بالستالينية ، وبدأ لوكاتش بكتابة التقرير السياسي للحزب الذي سوف يعرض على مؤتمر الحزب عام 1929 ، وكانت وجهة نظر لوكاتش ان الاوضاع التي تمر بها الاحزاب الشيوعية لا يمكن ان تقودها مباشرة الى دكتاتورية للبروليتاريا ، وان على هذه الاحزاب ان تجعل من دكتاتورية الطبقات الشعبية وعلى راسها العمال والفلاحين هدفها المباشر ، وبسبب هذا التقرير تعرض لهجمة جديدة حيث وصفه البعض بانه " انتهازي " ولقب بـ " مصفي الشيوعية " ، ووجد نفسة من جديد يقوم بنقد ذاتي لافكاره ، ولم يكن هدف هذا النقد التشكيك في الافكار التي طرحها ، بقدر حرصه البقاء داخل الحزب .
عام 1930 يزور موسكو ، ليعمل في معهد ماركس وانجلز ، واتاح له ذلك ان يقرأ مخطوطات ماركس التي وضعها عام 1884 .. وتحدث لوكاتش بعد ذلك قائلاً ان قراءة هذه المخطوطات قد طردت من ذهنه والى الابد كل الافكار المسبقة عن الماركسية ، ووجد نفسه يبدأ مرحلة جديدة من حياته الفكرية ، وراح يكتب دراسة موسعة عن " العلاقة بين الاقتصاد والديالكتيك " التي طورها فيما بعد واصدرها بعنوان " هيغل الشاب " عام 1931 . في هذه الفترة قرر لوكاتش اقامة " علم جمال ماركسي " ، وبناء نظرية في الواقعية ، وقد ميزت هذه المرحلة صدور مؤلفات كثيرة في الادب والفن سعى من خلالها الى تحقيق الانسجام الانساني في مواجهة اشكال الاستلاب والاغتراب الروحي ، حيث حاول التوفيق بين فلسفة هيغل وافكار غوته ، وقد اصدر خلال هذه السنوات كتبا عديدة ابرزها " غوته وعصره " و " دراسات في الواقعية الاوربية " والواقعية الروسية " " توماس مان " و" بلزاك والواقعية الفرنسية " ودراسات في الواقعية " و" الرواية التاريخية " ، وكل تلك الاعمال كما هو واضح من عناونها كانت تهتم بنظرية الادب ، وبقضايا علم الجمال والنقد الادبي ، وقد خاض من خلالها – كما يقول – حرب عصابات ضد النظرة السوفيتية الرسمية المتزمة للادب . ولعل الموضوع الرئيسي الذي يجمع هذه الاعمال يتلخص في ان نظرية الرواية كما تتبدى خلال الاعمال الفنية العظيمة ، تعكس ازمة العصر خلال السنوات المئة الأخيرة ، وتصور التشويه الذي اصاب الحياة الانسانية تحت وطأة الراسمالية، ولم يكن لوكاتش يهدف الى أن يكشف عن التوترات الاجتماعية التي اعلنت عن اهمية الاعمال التي قدمها بلزاك وتولستوي والروائيون الكبار ، ولا ان يكشف عن درجة الاحتجاج التي تضمنها هذا التراث الانساني ضد الراسمالية فحسب ، ولكنه يرمي الى ان يصوغ على اساسها علاقات هؤلاء الكتاب الكبار مع الانسانية . مباديء حكم جمالي موضوعي لا ينظر الى الفن بوصفه مجرد شهادة تاريخية ، ولكنه يبحث فيه عن شخصيته الخاصة خلال جدليات الحياة .وفي هذه الكتب يحاول لوكاتش ان يدخل الفلسفة وعلم الاجتماع والاقتصاد في النقدالادبي والجمالي ، حيثيرى ان لهذه القضايا صلة وثيقة بموضوع الرواية .
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية يعود الى بلاده ، يشغل عدة مناصب ثقافية وقد اصدر في هذه المرحلة كتابه " وجودية ام ماركسية " – ترجمه الى العربية جورج طرابيشي – حيث يناقش فيه لوكاتش ازمة الفلسفة الوجودية ، متنقلا من الظاهراتية إلى الوجودية ، ويختتم بالحديث عن النظرية اللينينية في المعرفة ومشكلات الفلسفة الحديثة ، وسيسهم ولوكاتش كما قال ميرلوبونتي في المناقشات الفلسفة في العالم الربي . واصدر ايضا كتابه المهم " تحطيم العقل – ترجمه الياس مرقص باربعة اجزاء – وهذا الكتاب يعد ابرز عمل فكري لنقد التراث الفلسفي الألماني، خصوصا الجانب اللاعقلاني فيه، والذي قاد، في النهاية، إلى النازية وما خلّفته من مآس وويلات..في هذا الكتاب يبحث لوكاتش جواب السؤال: إذا كانت الحقيقة يمكن الوصول إليها بوساطة العقل، فلماذا وكيف سادت اللاعقلانية؟ "ولماذا يكون لها في بعض الأحيان قوة لا تربك المفكرين الأفراد فحسب، بل ثقافات بأكملها؟ ، حيث سعى لربط الصراع بين العقلانية واللاعقلانية بالصراع الطبقي. من خلال اسئلة جوهرية يطرحها الكتاب من عينة : : لماذا لم تتحول أوروبا البرجوازية كلها إلى الفاشية؟ وما علاقة محن ألمانيا بموقفها من الثورة الفرنسية؟
العام 1956 سيكون حاسما في تاريخ بلاده المجر وفي حياته ، فبعد صيحات خروشوف في المؤتمر العشرين ، وقف لوكاتش في احدى حلقات الحزب الشيوعي المجري ليعلن ان دوغمائية ستالين اضرت بالماركسية ضررا بالغا ، بعدها قال في حوار صحفي ان التدخل الاداري البيروقراطي في الفكر الماركسي يجب ان يتوقف ، وان النظام الحزبي ينبغي ان يعاد فيه النظر . بعد التدخل السوفيتي في المجر في الرابع من تشرين الثاني عام 1956 يغادر لوكاتش بلاده ليستقر في رومانيا ، ولم يسمح له بالعودة إلا منتصف عام 1957 ، ليجد نفسه مطرودا من الحزب الشيوعي ومن الجامعة ، وظهرت مقالات تهاجمه في المجر والاتحاد السوفيتي جمعت في كتاب بعنوان " تحريفية لوكاتش " ، ولم تتوقف الهجمة ضده حتى عام 1967 حيث اعيدت له عضوية الحزب ، لكن لوكاتش في هذه المرحلة قرر ان يتجنب السياسة ويتفرغ لاعماله الفكرية التي توجها بكتابين اولها " الطبيعة الخاصة لعلم الجمال " الذي ظهر عام 1969 ، والثاني " علم الوجود الاجتماعي " صدر عام 1970 وكان يخطط لاصدار كتاب عن " الاخلاق " قال عنه انه بصدد كتابة اهم مؤلفاته ، لكن الموت لم يمهله طويلا حيث توفي في الرابع من حزيران عام 1971 .
على مدى حياته التي استمرت " 86 " عاما ظل جورج لوكاتش شاغلا للفكر الماركسي الاوربي ، ولم يكن مساره الفكري والفلسفي منفصلا عن مسار حياته ، فالمسافة الفاصلة بين " تاريخ الدراما " 1918 و " تاريخ الوجود الاجتماعي " 1970 ، تجسد عمرا كاملا من التحولات والتطورات ، بدءا من الكانطية الجديدة وفلسفة الحياة ، ومرورا بالماركسية الهيغلية ، والماركسية الصارمة التي طبعت اعماله في الثلاثينيات ، الى اهتمامه بعلم الجمال وتجلياته في الادب والفن ، الى علم الاجتماع ، حيث يتم ادراك الجوهر الانساني في بعديه الاجتماعي والتاريخي . ان تلك المسافة والتحولات تعبير عن الرغبة العميقة لفيلسوف عاش تناقضات عصره ، وحاول البحث عن الجوهر الانساني الذي مسخته الراسمالية والوعي الزائف لبعض الاحزاب الشيوعية .
هزت ماركسية جورج لوكاتش عقولا في العالم ، ففي المانيا قامنت مدرسة فرانكفورتالتي عنيت باطروحات لوكاتش ، ونشرت في مجلتها كتابه " التاريخ والوعي الطبقي " وتاثر به ثيودر ادرنو وهربرت ماركيوز ، وفي فرنسا اثارت كتاباته اهتمام سارتر التي ناقشها في العديد من مقالاته ، كما اثرت بالنقاد الشكليين ، فيما تاثر به روجيه غارودي وهو يضع كتابه " واقعية بلا ضفاف "
ظل لوكاتش يؤمن ان المثقف الحقيقي هو الذي يجب ان يلح على الحقيقة بدلا من ان يلح على حقيقته هو .وكان صادقا عندما تخلى عن نظريات واساليب فكرية بمجرد شعوره بتخطيه لها ، وغالبا ما اطلق عليه اسم " المؤلف المزعج " . في الايام الاخيرة من حياته وهو يعاني من مرض السرطان، كان فيها جسده الضعيف يبدو ضائعا في الفراش يردد عبارة تولستوي التي جاءت في روايته موت إيفان إيليتش :" ان الحياة ذات المعنى هي التي تقترن بموت ذي معنى " .
Comments