top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

كتب الفنان والكاتب التونسي نعيم بن رحومة 'الميلاد الجديد '


أخفيت يأسي وتوتّري مدّة تقارب السنة لأني لا أحبّ إزعاج الناس بالتشكّي من مشاكلي وبؤسي العميق. كلّما سألني قريب أو صديق عمّا بي وعن مشاكـلـي أجيبُ : لا شيء ! في اللّيل لا أنـام أو أنـام كأني لا أنـام وفي النهار أضغط على نفسي حتى لا أمسّ النّـاس بسـوء. أحزاني تتكاثـر يوما بـعد يوم. في البداية مات أبي ثم مات صديقي ثم صديقي الآخر ثم سرقوا كل أموالي ووثائق الإثبات وكلّ أشعاري. أحسست بتعب لا راحة معه وبقرفٍ شديدٍ من كلّ ما عرفته في حياتي من بشرٍ وأمكنةٍ، حتى أني لم أعد أطيق الحديث مع أحـد ولا النظر إلى أيّ وجه. لكن عندما تركتني زوجتي فقدتُ الإيمان بكلّ شيء. حتى إبني الوحيد الذي أحبّه إلى درجة الجنون، التصق بأمّه وتركني. يا إلاهي ! مـاذا فعلتُ حتّى أستحقّ كلّ هذا الأسى ؟ إن كنتُ انـتهـيـتُ فخبّرني واجعلـني أذهـبُ راشدا إلى نهايـتي. يا إلاهي ! إذا كنتُ حيّا يُرزق فأنت الذي انتهى وليس أنا ! أين أنت ؟ لستُ جاحدا ولا ظالما. ماذا فعلتُ حتى أكون مضروبا ومسحوقا ؟

مرّت عليّ عشرات الأيّام بلياليها وأنا مـنـشـطر لا أقبـل مواسـاة ولا أختلـط بالنّاس، وحتى أصدقـائي نسيتُ من يـكونـوا ! فـقـدتُ طـاقـتي وأصابـني الوهـنُ. صرْتُ أمشي فتؤلمني قدماي وكلّ جسدي. صِرتُ أجلسُ فأحسّ بـألمٍ في عظــام حوض مؤخرتي. ماذا تبقّى لي ؟ لا شيء ! ذات يوم وقد ضِقتُ ذرعا بحيطـان البيتِ وبجيراني ونفسي، خرجتُ أنشُدُ سماء أخرى أو موتا إن كان ذلـك قـدري. بعد زمن لا أعلمُ مدّته رأيتُ البحر. كانت قدماي تطآن رمل الشّاطئ الجاف منـه والمبتلّ، وكنتُ محاذيًا للبحر الهادر. توقّفتُ ونظرتُ خلفي. لم أشاهد شيـئا غـير البحر والشاطئ الرمليّ العريض. فهمتُ أني سـرتُ طويلا مُرافقا البـحر وحـدهُ. أحسستُ بألم ليس بالقويّ ولكنّه ألم حيّ على مستوى النصف الأيمن من رقبتي، وفهمتُ أني كنتُ أسير من زمن ولا ألويها إلاّ ناحية البحر. توقّـفـتُ وتـنـفـسـتُ عميقا هـواء صافيا وفكّرتُ. أنا الآن في بدايـة الشهر الثـانـي من العـام. الـشّـهـر الذي ولدتُ فيـه. ورغم أن الفصل شتاء فإني أحسّ الهـواء دافئ وعابق بـرائحـة اليود. رجعتُ من حيثُ أتيت ونظـرتُ إلى البحرِ فالـتـوى رأسي وعنقي نـاحـيــة اليسارِ. مرّت طيـور النورس قريبا منّي ورأيت أحدها يغطسُ في المـاء مـنـقـضّا على قوته. في لحـظـة ارتطام الطير بالماء سمعت غيثارة دجـيـمـي هـانـدريـكس التي ألِـفـتُ سمـاعـها من زمن في سيارتي. اشتـدّ وقع الموسيقى حتّى انتفـظـتُ. كنت مستلـقـيا علـى الأرض في صالون شقّتي. ورغم عِظـامي التي تُـؤلمـني من فـرط التـعـب الـذي أصاب جسدي النـحـيـل، شـعـرتُ أن نـومي كان أعـمـق من قـبـل وأن تنفسي صار أفـضل. لعلّ البحر كان خير رفيق.

لم أستسلم لغواية الوحدة التي صارت مقيتة وواظبتُ على الاستئنـاس بالبحر كلّ يوم. كانت أياما تذكّرني بطفـولتي حين كنتُ أرافق أبي كلّ يوم في مـكان لـم أره من قبل وأتعرّف عليه لأول مـرة. كـنـتُ أصـمـتُ وأنـدهـشُ بـتـأثـيـر صـور وأصوات لم يسبق لي رؤيتها أو سماعـها. ذات يـوم كـنـتُ أطـاُ رمـال الشـاطئ فرأيتُ رجلا أعرفه. توقفتُ وقد أصابني ألم على مسـتوى القـلـبِ، ثمّ اسـتـدرتُ ورجعتُ من حيثُ أتيت. لم أعُد أسيـر أبـدا على الشـاطئ الطويـل جدا. انـتـهـت علاقتي بالبحر وصوت الموج وهو يتكسّر شيئا فشيئا قبل أن ينبطح على الرّمل. كذلك لم أعد أغيّر ملابسي ولا أغـتـسـل ولا آكـلُ. لم أعُـد أشبه نفسي في شيء. ولم أعد أشبه الناس أيضا. مرّت عليّ ثلاثة أيّام لم أجُع فيها. أحسستُ أني أودّع الدنيا وأن الموت قريب ولعلّي أشتمّ رائحته.

لكن قبل أن أموت فكّرتُ أنه عليّ توديع الدنيا بجولة أخيرة في مكان ما، أرى فيه ما أرى وأسمع ما أسمع وأتنفّـس هـوائي الأخير. وعقدتُ نيّتي على التجـوّل في مقبرة " برج الرأس"، المـكان الذي طـالـما أعجبني كلّـما سرتُ في ثـنـايـاه ودروبه. عندما وصلتُ المقبرة تركتُ سيـارتي بعيـدا ناحيـة البرج وسرتُ على قدميّ ناظرا إلى البحر يمينـا ومتأمّلا الميناء البونيقي، ثمّ بعـد سيري مائــة مـتـر نظرتُ إلى البحر أمامي بشاطئه الصّخريّ. سرتُ قُـدُما ثمّ قلّبـتُ البـصر يسارا فكان البحر هائجا أكثر ومليئا بالزّبد. أحسستُ بشيء من التعب فنظـرتُ حـولي علّني أجد حجرا أجلسُ عليه. لم تقع عيني إلا على القبور. كان المكان فـسـيـحا ورائقـا كما عهدتـه دوما. يرقـدُ الموتى في أعلى عـلّييـن وينبتُ العشبُ والزهور حولهم. حتّى بعض الطيور يكفّ عن طيرانه ويحطّ قليـلا هنا أو هنـاك. نـسـيـتُ تعبي واستغرقـتُ في قـراءة شواهـد القبـور. تـواريـخ المـيـلاد والوفـاة والدعاء بالرّحمةِ. بعض الشواهد يتصدرها بيت شعر. رأيتُ عائلات بأكملـها بـصغـارهـا وكبارها مدفونين في مساحات خاصة بها وكأنها ديار، وكأنهم أحياء. لعلّ المـوت حياة أخرى ببطاقات هويّة أيضا هي الشواهد بالأسماء والألقاب وتواريخ الميلاد والمـوت وهم في مـكان مثـاليّ قد لا يـحـلمـون بالعيش فيـه وهم أحيـاء. مــكان لا يظاهى من ناحية الرفعة والنظافة والعلوّ ونقاوة الهـواء ومحـاذاة البحر من ثلاث جهات.

اختلط صوت البحر بأصوات صبية صغار يلعبون بعيدا عنّي. أغمضتُ عيـنيّ فرأيتُ صديقي المتوفّي يمرّ أمـامي ويشيـر لي بيـده مبتسمـا. فـتـحـتُ عينيّ ولـم أشاهد أحدا. كنت على ثقة أو أكاد بأنه مرّ. بكيتُ وسال دمعي مدرارا. بكيتُ ولم أمسح دمـوعي. بكيتُ بصوت قويّ وصحتُ صيحة ملـيـئـة بالاسى، ثمّ تـنـفّـسـتُ عميقا ونظرتُ إلى السمـاء. كان هنـالـك سربٌ من الطـيـور يحلّق فوقي راسـمــا دائرة. انـدهـشـتُ ممّـا رأيتُ. الطيـور تستمرّ في دورانـها فوقي. تنفّستُ عمـيـقـا وانتعشتُ ورأيتُ نورا وجمالا في كلّ شيء يحيط بي.

رجعـتُ الهوينى إلى أيـن تركـتُ سيـارتي، وكنـتُ أنظـرُ أمـامـي إلى الأرض وأبتسم. طـوال حيـاتي كنتُ أخـاف المـوت، أما الآن فأرى أن الموت لا يُخـيـف. الموت دافئ وساكن بلا عدوانية ولا عجرفة. ما أخافني حقا هي الحياة. الحـيـاة منعت عني الحياة. والآن ! الآن أحسّ أن الموتى أخبروني بذلك. أخبروني بكـلّ شيء ومنحوني طاقة لأعود إلى الحياة. اليوم أُبعثُ من جديد !

نعيم بن رحومة

حقوق التأليف محفوظة

34 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page