top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

قصيدة "جدارية" للشاعر الفلسطيني محمود درويش


وأُريدُ أُن أُحيا …

فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا

لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من

دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ

عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا

يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟

هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟

ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من

الموتى ليخبرنا الحقيقة … /

أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ،

انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي

حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي

قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي

قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني

الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ

حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … /

فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي

تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ،

حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء

من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين

وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه

الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني

بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي

سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا

صامتين معي على خطوات أَجدادي

ووقع الناي في أَزلي . ولا

تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ

زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت

الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على

التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ

وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ

وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ

الكنائس للكنائس والعرائس /

أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ

حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني

وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ .

هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل

تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء

أم تبقى كما هِي في الخريف وفي

الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي

لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ

مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ،

دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ

فُصْحى/

..

.. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ،

حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع

وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا

يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ

بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ

مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..

ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :

لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ

تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها /

يا موت ! ياظلِّي الذي

سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا

لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ،

يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب

الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ

على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ

تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت

سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ

يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ

الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من

نظام الطبّ . أَقوى من جهاز

تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ،

ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي .

فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ

أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب .

كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا

تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي

الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في

الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ

الثعالب . كُنْ

فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ

ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى

أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا

أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. /

ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على

الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا

تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ

إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ

الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا

اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا

لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار

قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ

شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في

البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /

هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد

الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ،

النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ

وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك

الخُلُودُ …

فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ

.................

(*) جزء من قصيدة "جدارية" للشاعر محمود درويش.

305 views0 comments

Commenti

Valutazione 0 stelle su 5.
Non ci sono ancora valutazioni

Aggiungi una valutazione
bottom of page