وأُريدُ أُن أُحيا …
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟
ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة … /
أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني
الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ
حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … /
فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ،
حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني
بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي على خطوات أَجدادي
ووقع الناي في أَزلي . ولا
تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ
زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت
الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على
التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ
وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ
وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ
الكنائس للكنائس والعرائس /
أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ
حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ .
هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل
تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء
أم تبقى كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ
مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ،
دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ
فُصْحى/
..
.. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ،
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ
مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :
لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ
تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها /
يا موت ! ياظلِّي الذي
سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا
لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ،
يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب
الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ
على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ
تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت
سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ
الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من
نظام الطبّ . أَقوى من جهاز
تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ،
ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي .
فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ
أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب .
كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا
تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في
الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ
الثعالب . كُنْ
فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ
ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى
أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا
أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. /
ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على
الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ
إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ
الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا
لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في
البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ،
النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك
الخُلُودُ …
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ
.................
(*) جزء من قصيدة "جدارية" للشاعر محمود درويش.
Commenti