يمشي بحذر، بالكاد يتنفس، يشق طريقه كأسد متربص بفريسته، يحمل بندقية خفيفة وكثيرا من الهموم الثقيلة، هو على هذه الحال منذ فترة، فبالرغم من تمرسه ومقدرته على خوض المعارك الضارية إلا أنه يُهزم بكل بساطة في حضرة دمعة أمه وهي تودعه، يضيق صدره حين يتذكرها، يمرر يده فوق عينيه رافضا انسياب دموعه، تعربد الأفكار في رأسه وتستدرجه بعيدا عن رفاقه. تسارعت الحركات خلفه وتعالت أصواتهم فجأة:
_ رصاص.. رصاص.. احذروا.
لم يعر الأمرا أي اهتمام، كان صوت الرصاص يداعب أذنيه، هو يشبه زغاريد أمه يوم تخرجه لخدمة الوطن، كانت تضع شفتيها قرب أذنه و تطلق الزغاريد، لم تتوقف يومها حتى تأكدت أن زغاريدها نقشت في ذهنه آملة ألا يتركها فلم يبق لها في هذه الحياة سواه، كان يتذكر دمعها الممزوج بالكحل الذي كان يشق خطوطا سوداء على وجنتيها بسبب فراقها لأخيه التوأم "صفوان" فقد اختفى منذ ثلاث سنوات، وزادت كلامات نساء الحي طينها بلة. لقد ترك البلدة وهجّ فارا من هول الفقر، سمعت أنه تزوج أرملة من برّ الشمال، لا بل شقّ البحر والتهمه الحوت هناك، وكثرت الأقاويل وتعددت الروايات. كانت آلام الفراق تشق قلبه وقلب أمه في آن واحد، ترك الفراق مكانا كبيرا في قلبه،الأخ الذي كان يتقاسم معه رحم أمه و كلّ شيء في هذه الحياة هو اليوم بعيد عنه،هو لا يتمنى سوى ملاقاته ومعانقته ولو للحظة و يخبره عن مدى حبه له و عن حياته التي أصبحت مبتورة بدونه، سيخبره أنهما جسد واحد حولته مرآة الحياة اللعينة إلى نصفين،و أنه بريء من تلك المقارنات السخيفة للمجتمع التي صنفته فاشلا أمام نجاح أخيه التوأم في الحياة. سيضمه لصدره حينها و يصرخ: _لم أعد ناجحا منذ فراقك يا صفوان. مازال الرصاص ينهمر كسيل جارف، يتدارك نفسه ويصرخ مخاطبا رفاق السلاح:
__سأنهي هذه المهمة بسلام من أجل أمي، لقد وعدتها أني سأعود وأجد لها ابنها، أخي، صفوان، هيا تقدموا يا رجال. تحول فجأة من جسد هائم في أفكاره الى نار تأكل كل ما يعترضها، كان سلاحه يزمجر و يطلق الرّصاص كالحمم، طلب منه زملاؤه التريث قليلا ورص الصفوف، لكنّه واصل التقدم بمفرده، كان عازما على الانتصار، لم يوقفه شيء ذلك اليوم إلا تلك الرصاصة، توقف الزمن لبرهة، وجد نفسه وجها لوجه مع ذلك الملثم ،أسدل سلاحه و كأن يده قد شلّت و تجمّد الدّم في عروقه، قابله عدوه برصاصة أطلقها باتجاه صدره، رغم خبرته الكبيرة إلاّ أنها أغرب رصاصة رآها فقد كانت تتجه نحوه ببطء شديد، حتى أن صوتا بداخله كان يكلمها:
_توقفي.. لا أريد سوى فرصة، فرصة واحدة لا غير، لي دين برقبتي أريد أن أقضيه، وعدت أمي أنني سأعود وأثلج صدرها بالعثور على أخي قبل أن تفارق الحياة فهي تحبه حدّ الجنون أما أنا فقد وهبت نفسي لهذا الوطن ولو مت سأُبعث من جديد كطائر الفينيق وسأموت وأموت ليحي وطني.
تجاهلته الرصاصة واخترقت صدره، أحس براحة غريبة، ملأت الرصاصة المكان الذي تركه أخوه في قلبه، جثم على ركبتيه مبتسما. أدركه رفاقه بعد أن قتلوا المسلّح الملثم، قرروا الانسحاب لخطورة إصابته، حملوه والجثة معا إلى السيارة، كان ممدّدا ينزف فوق سرير الإسعاف و كانت جثة عدوه بجانبه، مدّ يده و أزال اللّثام عنها، فجأة جحضت عيناه وتوقف الزمن، حاول الصراخ:
_ص.........ص.........صفوا.... سقط من فوق سريره ميتا، التحم جسده بجسد أخيه، تماهی الجسدان وانصهرا وبُعث منهما مخلوق عجيب: نصف ملاك ونصف شيطان.
كتابة وليد طبابي
Comentarios