1. المطر
من خلال النافذتين أمامي، والنافذتين عن شمالي، والنافذتين عن يميني، أنظرُ، وأسمعُ بأذنيّ المطر يسقط بغزارة. أعتقدُ أنّه ربع ساعة بعد الظهيرة : حواليّ ماءٌ ونور. أغمس قلمي في الدواة، وبينما أنا أتمتع بأمان احتباسي الداخلي، المائي، كحشرة في لبّ فقّاعة هوائية، أكتب هذه القصيدة.
ليس رذاذاً هذا الذي يسقط، ليس مطراً فاتراً ومشتبهاً فيه. الغمام يفاجئ الأرضَ عن قرب، ويهوى عليها بخشونة وشدّة، هجوم ضارّ وعنيف. يا له من برد، أيّتها الضفادع، أننا حتّى نسينا، في تراصّ العشب الندي، البِركة! لا خوف من أن يتوقّفَ المطرُ؛ فهذا وفير، مُرضٍ. فهو جد عطشان، يا أخواني، مَنْ لا تُشفي غليله هذه الكأس المترعة المدهشة. الأرض اختفت، البيتُ انغمرَ، الأشجار الغاطسة تجري، النهر نفسُهُ الذي يحدُّ أفقي كبحر يبدو غريقاً. سَرعانَ ما يمرُّ الوقتُ . وأنا ألقي السمع، لا لانفلات أية ساعة، أتأمّل نغمة المزمور المحايدة والتي لا تُعد.
بيد أن المطرَ توقف في آخر النهار، وبينما الغيم المتراكم يهيئ هجمة أشرّ اكفهراراً، مثل "إيريس" التي تتساقط من قمة السماء نُزُلاً في ميدان الوغى، هاهو عنكبوت أسود معلَّقٌ من دُبُره، ورأسه متدلِّ إلى أسفل، يقف وسط النافذة التي فتحتها، تُشرف على أوراق الحَور، على شمال له لون قشرة الجَوْز. لم يعد ثمة ضوء، لابد من إضاءة المصباح. تكريماً للعواصف أريقُ قطرة الحبر هذه.
2. الأرض مرئية من البحر
قادمةً من الأفق، واجهت سفينتنا "رصيف العالم"، والكوكب الطالع يفتح أمامنا بناءه الجسيم. وأنا أصعد على عبّارة، في الصباح المزيّن بنجمة كبيرة، تجلت في عيني الأرض جد زرقاء. القارة، من أجل الدفاع عن "الشمس" ضد تتبع "المحيط" المتحرك، تقوم بعمل واسع من تحصيناتها؛ الفجوات تنفتح على الريف السعيد. نسير وقتاً طويلاً، وفي عز النهار، طوال حدود العالم الآخر. سفينتنا، وهبوب الرياح تسيّرها، تنطلق وتثب فوق الهوة المطاطة، ضاغطة بكل ثقلها. وقعتُ في فخ اللازورد، وملتصقٌ به كبرميل. مأسورا باللانهاية، معلقاً بتقاطع السماء، أرى من تحتي الأرضَ كلّها مظلمة تنتشر كخريطة، العالمَ مهولاً ومتواضعاً. لا مفر من الانفصال. الأشياء كلها بعيدة عني، الرؤية فقط تربطني بها. ما من أحد أبداً سيمكنني من تثبيت قدمي على الأرض الوطيدة، من بناء مسكنٍ بيدي من الحجارة والخشب، من تناول في وئام الأطعمة المطبوخة في الموقد المنزلي. سندير قريباً حيزومنا حيث ما من شاطئ يعترضه، ولن يكون تقدُّمُنا، بفضل العدة الهائلة من الأشرعة، مُعلَّماً إلا بأضوائنا الجانبية.
3. رسم
فليثبّتوا لي قطعة الحرير هذه من أركانها الأربعة، فلن أرسم فيها السماء أبداً. فلا البحرُ ولا شواطئُه، لا الغابة ولا الجبال ستغوي فيها فنّي. لكن من فوق إلى أسفل، من طرف إلى آخر، سأرسم فيها الأرضَ بيدٍ خشنةٍ. حدود المقاطعات، وتقسيمات الحقول ستكون كلّها مرسومة فيها بالضبط، هذه التي بدأ فيها الحرث سلفاً، وتلك حيث لا يزال فوْجُ حُزمِ القمح منتصباً. لن ينقص الإحصاء شجرةً واحدة، فأصغر بيت سيكون مصوَّرا بمهارة غير متصنّعة. وإنْ ينظر المرءُ بشكل جيد سيميز الناس، فذاك، المظلة في اليد، يعبر جُسراً حجرياّ ذا حنية واحدة، وتلك تغسل ثيابها في البِركة، الكرسي الذي يتقدم محمولا على أكتاف حاملَيْه، وهذا الحارث الصبور الذي يشق، طوال الأخدود، أخدوداً آخر. تخترق اللوحة من ركن إلى آخر طريقٌ طويلةٌ يحفُّ جانبيها صفٌ مزدوج من أشجار الصنوبر، وفي إحدى هذه الخنادق الدائرية حيث، عوضاً عن الماء رقعة لازورد، نرى ثلاثة أرباع قمرٍ أصفر بالكاد.
Commentaires