قصائد الأمس واليوم * بقلم: جلال المخ
- asmourajaat2016
- Jun 16, 2019
- 3 min read

أصدر الشاعر غازي عبروق باللغة الفرنسية مجموعته الشعرية الوحيدة إلى حدّ اليوم وذلك سنة 2011 وقد جاء الكتاب في 75 صفحة من الحجم المتوسّط واحتوى على أربعة وأربعين نصّا...
ورغم مسيرته الدّراسية والمهنية الزّاخرة والجديّة إذ تحصّل على الأستاذية في اللغة والآداب والفرنسية وعلى شهادة الماجستير في علوم التربية واشتغل مدّة بالتدريس قبل أن يصبح مرشدا رئيسا في التوجيه المدرسي والجامعي، فإنّ الهاجس الفنّي ظلّ يسكنه طيلة حياته. وظهر هذا الشغف الفني منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي لمّا انتمى إلى فرقة موسيقية شبابيّة تعزف الموسيقى الغربية وتحمل اسم "فرقة بعل كورنازيس" نسبة إلى الاله ذي القرنين بعل كرنازيس أو بعل قرنييم الذي يمثله جبل بوقرنين في الميتُولوجيا البونيقية واللاّتينية. ورغم بعض النّجاحات التي لقيتها هذه المجموعة الموسيقية فقد وضعت حدّا لنشاطها، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع غازي عبروق من مواصلة تعاطيه لنشاط إبداعي وفني يتمثل في كتابة الشعر باللغة الفرنسية رغم أنّه يقرض الشعر باللّغة العربية من خلال بعض المحاولات والمقطوعات القصيرة.
وعنوان الديوان الذي أصدره غازي هو: Récif absolu poèmes d’hier et d’aujourd’hui... وهو ما يمكن ترجمته بـــ: "الرصيف المطلق، قصائد الأمس واليوم" ولعلّه يعني بذلك أنّه جمع فيه قصائده القديمة التي كتبها منذ ثمانينات القرن العشرين والحديثة التي تمتد إلى حدّ سنة 2011 سنة صدور المجموعة وسنة اندلاع الثورة التونسية التي ألهمته نصّا شعريّا ثوريّا من أطرف ما فيه أن هذه الانتفاضة هي خلاصة لعدّة اعتمالات تاريخية ولعدّة تمخضّات اجتماعية وسياسية وفكرية لذلك جعل بين الحشود الثائرة التي كان تصرخ "ديقاج" أمام وزارة الداخلية التونسية يوم الجمعة 14 جانفي 2011 بشارع الحبيب بورقيبة أعلاما عديدة من رموز الفكر والإبداع التونسيين من بينهم يوغرطة وعلّيسة وحنّبعل والكاهنة والجازية الهلالية وابن خلدون وابن أبي الضّياف وخير الدّين وعلي بن غذاهم وأبو القاسم الشابي ومحمّد علي الحامّي وفرحات حشاد الذين اخترقوا ثلاثة ﺁلاف سنة بالتّمام والكمال ليضربوا موعدا مع هذا الحدث التاريخي الجليل، لذلك كان يتصاعد عبق التاريخ والفكر والإرادة من خضمّ تلك الجموع الهادرة. وإلى أحد هذه الرّموز التاريخية يعود الشاعر في أحد نصوصه وهو ابن خلدون الملتف ببرنسه التونسي من خلال تمثاله الذي يتوسّط العاصمة ويتأمّل السّاعة الحديدية الكبرى ليكون شاهدا على مرور الوقت وعلى كلّ ما تجتازه البلاد والعباد من أحداث يومية عابرة أو تاريخية هامّة تحدّد مصير التونسيين ومستقبلهم... والشاعر في هذه النصوص ملتزم إذن بقضايا شعبه وملتحم التحاما كاملا بماضيه وحاضره ومتطلع معه إلى مستقبل أفضل ويبرز الهمّ السياسيّ لديه المتجسّم في عدّة أوضاع اجتماعية من خلال كثير من النصوص...
وهذا الاهتمام بواقع شعبه الرّاهن وبتاريخ بلاده وبمستقبلها والنابع من التزام سياسيّ واجتماعي لم يجعلاه يغرق في المشاغل السياسية بل فسحا المجال لروحه الفنية المبدعة أن تتناول عدّة مواضيع شعرية أخرى مثل الحبّ وعشق المرأة والتغنّي بالجمال ووصف عدّة مناظر طبيعية لم تنبع من خياله الشعري بل هي رسوم فنييّة لعدّة أمكنة حقيقيّة أو بلدات جميلة زخرت بها تونس مثل قربص ورادس والزّهراء وحمّام الأنف وكذلك بعض أنهج العاصمة التونسيّة التي أنس التجوال فيها أو عبورها.
وفي هذا الاحتفاء بالمكان دلائل عديدة إذ أنّه يعطي فرصة لملكته الفنيّة لإبراز قدراتها على التجسيم الشعري لعدّة لوحات طبيعية خلاّبة كما أنّه دليل ساطع على عشقه لوطنه ككلّ وللطبيعة بصفة عامّة وللإنسانية قاطبة وللحياة التي تتسم بالجمال وتتصف بالحريّة والعدل والمساواة...
إلا أن الاهتمام الأكبر جاء بمدينته ومسقط رأسه حمّام الأنف المدينة التاريخية ذات الأمجاد العريقة الضاربة في القدم والتي شهدت مرور الحضارات البونيقية والرومانية والإسلامية والعثمانية والحسينية وشهدت ازدهارا حضاريا وفنيا كبيرا في بداية القرن العشرين قبل أن ينحدر مستوى العيش فيها إلى الحضيض ويصيب معالمها الخراب ويخيم عليها الإهمال وتعربد فيها الفوضى منذ النصف الثاني من القرن العشرين وذلك لأسباب تستوجب البحث فيها والوقوف عند أسبابها.
وطبعا لا نشكّ في أن تعلّق الشاعر بالموطن هو جزء من التعلّق بالوطن الذي هو بدوره جزء من التعلّق بالحياة والإنسانية قاطبة... واهتمام النصوص بهذه المدينة يتّخذ أوجها عديدة منها ذكرها في غير المواقع المخصّصة لها كترجيعة ثابتة في لا شعوره ومنها نصوص كثيرة خصّصت لها تبرز محاسنها الطبيعية ومعالمها التاريخية ومنها نصوص تبرز تعلّقه بها واحتماءه بطبيعتها الخلاّبة وﺁخرها قصائد خصّصت للتغنّي بالبعض من أعلامها مثل القصيد الذي خصص لأحد أبرز شعرائها المرحوم حمادي بالحاج والذي كتبه غازي عبروق في الذكرى الأولى لوفاته أي سنة 2010...
ونورد هنا أمثلة لشعر غازي عبروق عرّبناها لإعطاء فكرة للقارئ العربي عن أجوائه الشعرية وعوالمه الإبداعية. ففي قصيد بعنوان "تونس العاصمة" يقول الشاعر:
قُبالة الكاتدرانية العتيقة
يلتفّ سوسيولوجيّ طاعن في السنّ
في برنسه القديم
ويتثبّت في السّاعة التي تقضي نحبها
على نافورة الصّبا...
وعند قدميه المشروختين
تربض المدينة العتيقة التي أصابها الضّنى
والشارع العتيق
الموبوء بحثالات قديمة
انتشرت على المقاعد القديمة
والمتعبة...
وفي قصيد "مرّ عام" يقول:
انقضى عام
منذ اختفاء شاعر حمّام الأنف
مرّ عام
لكن الملهمات التائهات
ما فتئن يعبرن
أزقّة مدينتك المفضلة سُدًى
باحثات دون جدوى
عن صورتك الرقيقة
التي تزينها لحية مزهرة
ما انفكّت القوافي الحزينة
تتلاقى دون أن تتبادل القبل
على أرصفة الشارع الشاطئي
وما فتئت المقطوعات والقوافي
والكلمات تتواتر
مثل حبّات مسبحة
تتابع صوتك الرّائع
ذا الصّدى الأبديّ...
مرّ عام
ومازلنا نجتمع
عند سفح هذه الهضاب
التي يتحوّل فيها عبق السيكلامان الشذيّ
إلى أقحوان الموتى.
مازلنا نجتمع
لتنفتح حلوقنا المتيبّسة
وتردّد على مسامعك
تراتيل المجد...
لم يكتب غازي عبروق منذ صدور مجموعته المليئة بالقصائد الجميلة أي طيلة ستّ سنوات سوى قصيدتين أخريين واحدة تتنبّأ بمصرع الشهيد شكري بلعيد والثانية قصيدة عشقية، وهذا دليل ﺁخر على أنّ العمل السياسي والاجتماعي على أهميّته إذا ما استبدّ بالقرائح الفنية فإنّ ذلك يكون دائما على حساب الشعر والفنّ والإبداع...
حمّام الأنف
14 جوان 2017
Comments