"في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو".
كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد، في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع، رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل. قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: كأن أدعوك يا مذياع... صنبوري ويا مرآة كرسيّي ويا ألبوم مرآتي ويا سجّاد دولابي ويا دولاب أنت حديقتي " سرّ السنونو" أنت مائدتي ومائدتي هي السجّاد يا كرسيّ أنت منبّهي ومنبّهي ألبوم عائلتي سريري لوحتي صوت المذيعة ضفدعي صحفي سريري الباب نهري جارتي ديكي ... ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.
شبّاكي سلحفاتي نبيذي ببغائي زهرتي قطر الندى الأطفال أسماكي وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء.
كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى السجّاد ثمّ ملأت كأسي ببغاء واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض السرير لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار الطيور فكدت أعطس مثلها وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بلوحتي وفتحت صنبوري فخشخش ضفدعي.
لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من الألبوم عالية وطقطقة من الصنبور خافتة ونهضت وقفت من برد على الدولاب ثمّ سحبت من الحديقة معطفي ونظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.
أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق منبّهي وسحبت سجّادي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب المرآة مائدة فمائدة موائد كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .
وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت الدّيك من غضب يدقّ النّهر وهو يصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا تفعل الأسماك عند الديك قل أم هل أصاب الديك مسّ ؟
غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أثغو:
خذي قطر النّدى هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض الببغاء ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة".
حين يصبح الشّاعر العربيّ صرّارا في حقّة من خشب
"هشاشة الجميــــل"
قراءة في قصيدة"مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا"*
للمنصف الوهايبي
ــــــــــــ حافظ محفوظ
يتّسم المنجز الشعري للمنصف الوهايبي بالتّجريب، وهي سمة لا يعسر على القارئ تتبّعها وتمثّل ملامحها. ومن مظاهر التجريب لديه الاشتغال ضمن مشروع متكامل يظهر على شكل كتاب تتظافر نصوصه لتشكّل وحدة بارزة. هذا النوع من الكتابة يقتضي من الشّاعر التخطيط لما يكتب والبناء الواعي للنّصوص، فهو يصنع قصيدته ويباشرها راسما لها غاية إن صحّت العبارة ويدخلها مسلّحا ببرنامج قوليّ محدّد يعدّل حدسيّا وجماليا. بهذا تكفّ الكتابة الشعريّة عند المنصف الوهايبي عن أن تكون انفعالا أو استجابة وجدانية لمثير خارجيّ، لكنّ ذلك لا يعني الاستجابة لغرض من الأغراض أي الانصياع لفعل النظم بمعناه المسطّح.
إنّه يكتب عالمه إن شئنا، مسخّرا من اجل ذلك ثقافته وذائقته بعيدا عن مستلزمات المشافهة والإنشاد وهو ما يطلق عليه النّاقد حسن البنّا عزّ الدين ( الوعي الكتابيّ )الذي يفترض فيما يفترض وجود استراتيجيا كتابيّة واضحة تقطع مع الشفاهيّة المطلقة التي ما تزال تطبع أغلب الشعر التّونسي والعربيّ عموما، وتسجنه داخل إطار الحضور والزّمانيّة فكأنّما هو شعر مكتوب للإلقاء ينتهي تأثيره بمجرّد نزول الشاعر عن المنصّة فإذا قرأته بعد ذلك وهن تأثيره فلا يحتاج منك إلى جهد لبلوغ معانيه فهي على رؤوس ألفاظه، ولا يستدعي تأويلا لتعرية عنصره وعنصره الأسمى صوت منشده وآداؤه.
أمّا نصوص منصف الوهايبي لاسيّما تلك التي كتبها في العشريّة الأخيرة فإنّها من جنس تلك النّصوص المفتوحة على التّأويل ذات بنى متداخلة ونسيج معقّد تعقيدا يشدّ إلى طرفيه اللّغويّ والدّلالي وتفرض على قارئها اللّطف في النّظر والمغالبة في التحليل والفهم والمجاهدة للوصول إلى الحقيقة فيها. إنها تتطلّب من القارئ أن يكون داخلها لا خارجها وهو الأمر الذي يستدعي قارئا نموذجيّا يعيد صياغة النصّ ويتأوّله تأويلا. يقول الشاعر في مقالة له: " ثمّة دائما شخص آخر هو رفيق غامض يتقدّم فيعلن عن ميلاد قصيدة ثمّ يعقبه آخر فيضخّ فيها دما جديدا."
وقراءة التأويل تتبرّم من المنهج معتبرة إيّاه عائقا أمام بلوغ حقيقة النصوص. وكثيرا ما صرّح أصحاب هذا الاتّجاه أنّ المنهج النّقديّ مهما اتّسعت مداراته إنّما يجيب عن أسئلته أكثر ممّا يجيب عن أسئلة النّصوص. والقارئ النّموذجيّ في عرف التّأويل هو البديل المثاليّ للكاتب النّموذجيّ. والأثر المفتوح دعوة لمشاركة المؤلّف كتابة أثره. (L'œuvre ouverte est une invitation à faire l'œuvre avec l'auteur)
"لأنّ النصّ يمكن أن يحتوي نصّا مضمرا أو نصّا تحتيّا sous-texte يندسّ وينزلق بين الكلمات المرئيّة المقروءة ".
يقول الدّكتور عدنان الظاهر: " أقرأ شعر المنصف الوهايبي ... فأجد نفسي وجها لوجه مع وأمام الشاعر. قلّة من الشعراء من يملك هذه القدرة على استحضار القارئ وإفراد المكان الذي يستحقّ في نصوصه. لا أبالغ إذا قلت إنّي أجد نفسي على صفحات الديوان بل وفي كلّ سطر، بل وما بين كلمات السطر الواحد. الفراغ الأبيض يملأه القارئ ضيفا كريما مكرّما على الشاعر. يدعوه الشاعر أن يشاركه فيما يقرأ من تصوّرات وأفكار وانفعالات ومشاعر ومن ثمّ في أن يقف منه موقف الدّارس والمحلّل والنّاقد. لا يدع القارئ أن يمرّ على شعره مرّ الكرام. يرغمه على التّفكير وعلى التّساؤل وأن يقاسمه جميع معاناته. وهذا ضرب جديد من الشّعراء."
من أجل هذا تخيّرنا من مدوّنة الشاعر منصف الوهايبي نصّا له لم يضمّه كتاب من كتبه المنشورة هو قصيدة " مثل عجوز بيتر بيخاسل تقريبا " وقد استمعت إليه في أكثر من مكان وقرأته منشورا في جريدة القدس العربيّ.
النصّ مرتع نصوص:
إنّ أمر هذه القصيدة غريب حقّا، فلو نزعنا عنها لعبة الأسماء التي يغرينا بها الشاعر فإنّنا لا نكاد نعثر منها على شيء غير مذكور في قصائد أخرى بشكل أو بآخر. أعني أنّ جلّ العبارات المكوّنة لهذا النصّ مستدعى من نصوص أخرى وردت في مجاميعه المنشورة أو في قصائد مفردة له اطّلعنا عليها. أتراه يؤكّد قول زهير بن أبي سلمى إذ يقول:
وما أرانا نقول إلاّ معارا أو معادا من قولنا مكرورا
أم أنّ الأمر يتجاوز ذلك ليصعد بهذا النصّ إلى مكانة أثيرة لدى الشاعر فيكون جماع نصوصه وخلاصة بيانه؟
أم أنّ اللعبة لا تقتصر عنده على اللعب بالأسماء كما ورد داخل هذا النصّ بل تتعدّاها إلى اللعب بالنّصوص، لعبا يجبر القارئ لا على تتبّع مقاطع هذا النصّ بالتدقيق والتثبيت فحسب إنّما يجبره على تتبّع القصائد القديمة للشاعر أيضا؟
سنحاول فيما يلي أن نربط بين هذه القصيدة وأخيّات لها سابقات معتمدين في ذلك على أوجه الشبه بينها ( لا نريد أن نستعمل ها هنا مصطلحات نقدية تعني ما نذهب إليه مثل مصطلح التناص أو مصطلح التّطريس، فإنّني في الأصل أحاول الاقتراب شخصيّا من هذا النصّ ولا غاية لي من خلال هذا العمل غير المتعة الذاتية و بلوغ أقصى ما يمكنني من فهم. إضافة إلى أنّ التأويل وإن زعم بعض روّاده، كما زعم أصحاب نظرية التلقّى، ارتكازه على ثوابت يمكن تفصيل القول فيها، يتجرّد من كلّ ما له علاقة بالمنهج لأنّه فعل يعتمد الخبرة القرائيّة والذائقة الفنّية والرّؤية الجماليّة وهي أمور إلى الحريّة أقرب منها إلى القيود.
" فتحت شبّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها".
- الحقّ أقول أنا أتلصّص من نافذتي فإذا أبصرت بجارتي تخرج و الكلبة، ناديت على كلبي وخرجنا مثلهما نتنزّه أو نتسكّع في الطرقات.
" لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده".
- فجارتنا لم تخرج هذا اليوم على عادتها والكلبة لم تنبح في هذا الوقت على عادتها.
- ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين عاما.
" وأبعد في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته".
- طفل صغير يستحثّ حصانه... وكان حصانه الهزّاز من ساج قديم.
- لا شيء غير حصانك الهزّاز يا ابني، عاريا بردان، يقبع بانتظارك، غير حسرتي الأخيرة.
" أمّ وطفلاها، السّوالف مثل أجنحة السّنونو".
- كان جناحه المخضوب مرآة لأمّي.
- أين السّنونو في سماء البئر يهوي ثمّ يهوي .
_ كان جناحه المخضوب بالحنّاء منسدلا ...
- اللّيل أجنحة السّنونو...
" و نظرت في الكرسيّ لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما".
- لم تزل عين مطوّقة بزرقتها تشيّعنا.
"وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل " كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها. وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي، قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب...".
- أن يضحك منّي صرّار ذهبيّ أخرجه فتحي النّصري من أحقاق طفولته فيما كان يفكّر في غيلفيك.
يمكن أن نذكر أمثلة أخرى سواء كانت جملا كاملة أو عبارات أو كلمات مفاتيح أو إحالات على أماكن بعينها أو أشخاص... استدعاها المنصف الوهايبي إلى نصّه هذا، بل قل ركّب منها هذا النصّ تركيبا. فماذا يكمن وراء هذا الفعل الواعي؟
هل نضب المعين كما غاض ذاك البئر الذي كان للجارة؟
ما دلالة هذا التّوظيف للقصائد القديمة؟
هل لهذا علاقة بالحقيقة الكامنة داخل النصّ؟ وما هي هذه الحقيقة، حتّى لا نقول ما هو مقصد الشاعر وحتّى لا نقول ما المعنى الذي يريد إيصاله للقارئ؟
محاولة لاكتشاف النصّ:
من الجليّ أنّ الشاعر بنى قصيدته على حكاية ونقصد بذلك تواجد بنية سرديّة واضحة يمكن تحديد مقاطعها أو إن شئت مختلف وظائفها. وهي نزعة درج عليها في أغلب كتاباته في السنّين الأخيرة بل ونجد لها آثارا حتّى في كتابه الأوّل "ألواح" ولا نطمح هنا إلى تبيّن العلاقة بين السّرديّ والشعري في تجربة الوهايبي فقد تناول هذه المسألة غيرنا بكثير من البراعة و بحث في مفهوم توظيف الحكاية وما يتّصل بها من دلالات. حسبنا أن ندرك هذا النصّ في سرديّته كما نفعل حين نريد تلخيص حكاية وتقديم أحداثها بعد القراءة ولكنّنا نرى لغاية تجريد النصّ الأصليّ من لعبة التّسميّة و إعادته إلى أصله كما لو أنّها لم تكن فيه أصلا. على ذلك يكون كما يلي:
في غرفتي في الطّابق العلويّ أشيائي كما خلّفتها: صحف مكدّسة ومذياع ومائدة وكرسيّ ودولاب وسجّاد ومرآة وألبوم لعائلتي التي كانت، ولم أفتحه إلاّ مرّة ( أمّ وطفلاها)، وثمة لوحة فوق السّرير كأنّها "سرّ السّنونو".
كان يوما مشمسا ففتحت شيّاكي المطلّ على حديقة جارتي أعني على بلكونها، وهي الوحيدة دائما أو هكذا خمّنت منذ رأيتها في الأزرق الصّوفيّ صحبة كلبها، ونظرت لم أرها كعادتها تقدّم ماءها للزّهر مثـل السامريّة للمسيح( لعلّ بئرا غاض) أو تعطو بعين الديّك نحو قرنفل يحمرّ. لم أرها كعادتها تمسّح كلبها الكانيش إذ يثغو، بأزهار الحواشي أو تهدهده ، وهذا اليوم لا برد ولا قيظ. و أبعد، في الطريق رأيت طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته، ولكنّي عجبت لأنّني ما عدت أسمع، رغم ثقل الصمت دقّات المنبّه أو صياح الطفل. قلت لعلّ شيئا ما تغيّر، أم ترى أذني بها وقر؟ وأشيائي كما الأشياء، أسمائي كما الأسماء، ألبومي هو الألبوم، مرآتي هي المرآة، سجّادي هو السّجاد، دولابي هو الدولاب، قلت إذن أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى: ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشعراء.
وأضحك عاليا وأقول لي حسنا تغيّر كلّ شيء.
كان يوما مشمسا فجلست مبتهجا إلى المائدة ثمّ ملأت كأسي نبيذا واحتسيت كما اشتهيت وكان حلوا حامضا ونظرت في بعض الصّحف لمحت نعيا بائتا وقرأت أخبار النّاس فكدت أعطس مثلهم وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني؟ ثمّ اضطجعت بسريري وفتحت مذياعي فخشخش صوت المذيعة.
لم أدر حقّا كيف نمت وكم؟ سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من نافذتي وكنت نسيتها مفتوحة وسمعت دقّات من المنبّه عالية وطقطقة من المذياع خافتة ونهضت وقفت من برد على السجّاد ثمّ سحبت من الدولاب معطفي ونظرت في المرآة لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما.
أحسست أنّي لم أنم فجلست فوق كرسيّي وسحبت مائدتي إلى ضوء الطريق كعادتي ليلا ورحت أقلّب الألبوم صورة فصورة، صوّر كلّها كانت لنا ( أمّ وطفلاها السّوالف مثل أجنحة السّنونو كنت أبسم حذوها) وذكرت أغنية لنا " قد كان عندي بلبل" كنّا نغنّيها أنا وأخي بصوت صليحة فترنّ ضحكتها .
وقلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد والله تشبهني وتشبه حالتي قد كان عندي صرصر حسنا أترجم إذ أخون وصرصري في حقّة زرقاء من خشب ولا قفص ولا ذهب وأضحك عاليا وأكاد أرقص إذ سمعت جارتي من غضب تدقّ الباب وهي تصيح كفّ ستوقظ الأطفال واستغرقت في ضحكي فماذا يفعل الأطفال عند جارتي قل أم هل أصاب جارتي مسّ؟
غير أنّي قلت معتذرا لها وكأنّني أنبح:
خذي زهرتي هي كلّ ما عندي ولكن لو دخلت لديّ بعض النّبيذ وسريري يحتاج من زمن إلى امرأة تشبه جارتنا العزيزة.
المكان: غرفة في الطّابق العلويّ، بعيدة عن الأرض، خلوة يهرب إليها الشاعر كلّما ثقلت عليه الهموم وحزّ روحه الواقع، وهو مكان لا هو بالأرضيّ ولا هو بالسماويّ هو بين هذا وذاك. عاد إلى غرفته بعد أن خلّفها لمدّة لا نعرفها قد تكون طويلة تفوق العشرين سنة( ثمّة كلب أطلّ من نافذة السيّدة التي كانت تستقبلنا منذ عشرين سنة) وقد تكون قصيرة، يوم واحــد أو بضعة أيّام( قرأت خبرا بائتا...)
الزّمان: بين الظهيرة وساعات الليل.
الأحداث: فتح الشاعر شبّاكه المطلّ على بلكون جارته فلم يرها، تذكّر حديقة جارته القديمة في بيتهم القديم، بيت الطّفولة، تلك الجارة التي كانت تسقيه( تقدّم ماءها للزّهر مثل السامريّة للمسيح). وترعاه وهو يكبر( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ). وتمسّح عليه بيديها ( بأزهار الحواشي). وتهدهده ( الهدهدة للطّفل كي ينام). حين يبكي.
البئر الذي كان مصدرا للماء ( لعلّه جفّ)
قال: لعلّ شيئا ما تغيّر.
هو لم ير جارته بل رأى نفسه حينما كان طفلا يستحثّ حصانه الخشبيّ مأخوذا بلعبته. ولم يعد يسمع صياحه القديم لذلك يقرّر أن يبدّل الأسماء ( أسماء الأشياء الحاضرة أمامه) هو يريد أن يغيّر الواقع، يطلق أسماء جديدة على ما يراه ويسمعه فكان أن انتقى تلك الأسماء الجديدة من قاموس طفولته:
الصنبور، الحديقة، ألبوم عائلته، ضفدع، نهر، ديك، سلحفاة، ببّغاء، أسماك...
عاد إلى طفولته بفضل هذه الأسماء الجديدة فابتهج وشرب نبيذه( استبدل ماء الجارة الذي كان يرويه بالخمرة) "والخمرة هي ماء الحياة في عرف الشعراء، هي بديل لبن فسكر الصّوفي معنويّ ناتج عن الدّهشة والرّغبة في الاتّحاد بالذات الإلهية والخمرة بالنسبة إليه السبيل الوحيد لإظهار الشيء وجلاء الغموض عنه .
تلتقي الخمرة والماء في الإمداد بالحياة فالماء في سيله يسقي الطلل ليعيد إليه حياة سلبها منه الزمن إنّه رواء الأرض الرواء المعادل لحليب الأمّ في فترة الطفولة أمّا الخمرة فهي ما يسقي ذاتية الشاعر بغية الإحساس بمتعة اللحظة على الأصحّ بغية الحياة . لكأنّ الشاعر بلا هذه الخمرة لا يحيا حياته أو لا يوجد في زمنه إنّها حياته وحليبه الذي يرنو ويتطلّع إليه."
شرب إذن خمرته ونام كما لو أنّ جارته سقته وهدهدته وحينما استفاق من نومه استفاق من وهمه( لم أدر كيف نمت وكم). فأراد مواصلة تلك اللذّة الرّوحية لذلك فتح ألبوم العائلة وأخذ يقلّب صوره ( ركّز في النصّ على صورته وهو يبتسم حذو أمّه وأخيه) وهي الصّورة التي ذكّرته بأغنية " قد كان عندي بلبل".
لقد كان الشاعر في الماضي بلبلا في قفص من ذهب وها هو اليوم صرصر في حقّة من خشب.
هذه هي إذن حالة الشّاعر كما يقول ( فقد، والله تشبهني وتشبه حالتي). فيكون ضحكه العالي من حالته تلك ضحك كالبكاء. يحتاج من يسكته ويهدهده ليعود إلى النّوم كما في الطّفولة. لابدّ من الجارة وهي رمز العطاء والحبّ والطمأنينة. لذلك طلب حضورها في الحاضر. وسمع طرقا على باب بيته ولكن... لقد كانت الجارة غاضبة هذه المرّة وعوض أن تمنحه ما يحتاجه فقد صاحت به أن كفّ عن البكاء والتبرّم من الواقع وعن الشكوى من الحاضر لألاّ يستيقظ الأطفال النّائمين أي لألاّ تنتقل شكواك إلى بقيّة الأطفال فيستفيقوا من غفوتهم و يبصروا حقيقة الواقع. وتتحوّل دلالة الجارة ممّا كانت عليه في الماضي إلى رمز للسّلطة القامعة التي تسكت صوت الحريّة.
كلّما قام في البلاد خطيب موقظ شعبه يريد خلاصه
وإذا عدنا إلى الدّيك في الأسطورة العربيّة وجدنا له دلالات أبرزها الديك الكوني وديك العرش أو إن شئنا الأنموذج العلويّ الذي عليه سائر ما على الأرض. والدّيك الكوني ديك أسطوريّ أو ملك بحجم الكون رجلاه في تخوم الأرض السفلى وعنقه مثنية تحت العرش وقد أحاط جناحاه بالأفق مشرقا ومغربا. يقول الكسائي في قصص الأنبياء عن هذا الديك " الدّيوك كلّها من هذا الدّيك" ص 66. وعليه يصبح المطلوب من تسميّة الجارة في هذا النصّ بالدّيك تمثيلها للسلطة التي تريد أن يكون الكلّ على شاكلتها أي تابعا لها وإلاّ فإنّها ستسكت صوته.
ولكنّ الشاعر يواصل الضحك رغم غضب الدّيك( الجارة) ( السلطة) ويتساءل باستغراب واستهزاء " ماذا تفعل الأسماك عند الدّيك؟" أي ماذا يفعل الأطفال عند الجارة وهي الوحيدة دائما؟ كما يقول في بداية النصّ أي ماذا دهى الناس حتّى يناموا ويطمئنّوا لهذا الدّيك أعني لهذه السّلطة؟
هل أصاب الدّيك مسّ؟
هل جنّت هذه السّلطة، فتتصوّر أنّ الأطفال (الشعب) نائم عندها؟
و يواصل الشاعر استهزاءه فيعتذر من الجارة بمدلولها الذي ذكرنا ويهديها زهرته "وهي لسلاسة بنائها ورقّتها وتنوّع ألوانها وظهورها في فصل الرّبيع قد أصبحت في الأعراف رمزا واستعارة ومجازا وصورة للطّراوة والشّباب وصورة للأناقة الأنثويّة" هي كلّ ما يملكه الشاعر (؟؟؟) ويعرض عليها خمرته لعلّها إذا شربت عادت مثله إلى صورتها القديمة التي في خيال الشاعر والتي يحتاج إليها أي يحلم بها من زمن تلك الصّورة المثالية لعالم يسود فيه العدل والحرية والخير. ولوحتي تحتاج من زمن إلى ديك كجارتنا العزيزة. وجارتنا هنا ليست صاحبة البلكون بل هي صاحبة الحديقة وليست صاحبة الكانيش بل صاحبة الكلب الحارس وليست تلك التي تريد إسكات غنائه بل تلك التي تقدّم له ماءها مثل السّامريّة للمسيح. جاء في إنجيل يوحنّا أنّ المسيح غادر أورشليم منطلقا إلى الجليل وكانت طريقه تمرّ عبر مدينة السّامرة. وكان قد أرسل تلاميذه إليها ليبتاعوا طعاما، وفي غيابهم توقّف عند بئر يبدو أنّها كانت تخصّ يعقوبا، أحد أجداد الشعب اليهودي. فصادف هناك امرأة سامريّة وطلب منها أن تعطيه بعض الماء ليشرب، فتحيّرت المرأة، كيف أنّه وهو اليهوديّ، يطلب أن يشرب من سامريّة، ذلك أنّ الشعبين كانا يتبادلان ضغينة دينيّة وقوميّة منعتهما من إقامة أية علاقة بينهما فأجابها المسيح:
" لو كنت تعرفين مبادئي لما حكمت عليّ بحسب القاعدة الشائعة بين اليهود ولما كابدت في ذاتك أيّ تردّد في أن تطلبيها منّي ولكنت فتحت أمامك نبعا آخر للماء الحيّ الذي يطفىء عطشك إذا غرفت منه، فهو الماء الذي ينبجس منه نهر يقود إلى الحياة الأبديّة ".
يطلب الشاعر وهو النبيّ أن يتعرّف الآخر الممثّل هنا بالسلطة مبادئه قبل أن يحكم عليه بحسب ما يشاع أي دون علم بالحقيقة التي يحملها داخله. إنّه يطلب من الآخر أن يسمعه ويتواصل معه تواصلا يؤدّي إلى التّساقي فالشاعر يؤمن أنّه قادر على أن يفتح أمام الآخر نبعا للماء الحيّ الذي يطفىء عطشه إذا ما أعدم كبرياءه و فتح بابا للحوار الحرّ.
يهوذا خان المسيح، فصلب. ولكنّ كلماته الدّاعية إلى الحبّ بقيت في الأرض ولم تمحها سلطة بيلاطس. كذلك الشعر الجيّد الصّادق، يبقى في النّاس ...
نقرأ في قصيدة يوميات برجوازي صغير للمنصف الوهايبي:
"يا صديقي ما الذي نفعله في زمن
تحكمه أجهزة القمع وسيف الخونه
ما الذي نفعله في زمن
مارسوا فيه دروب القتل والزّيف
وغسل الأدمغه
غير أن نكتب شعرا
فيه شيء من خيوط الأمل
ربّما يقرأ شعري عامل في منجم
يفتح في الصّخر طريقا
ربّما يهتف في أصحابه كان رفيقا."
على شاكلة السيموزيز :
يمكن أن نواصل قراءتنا لهذا النصّ بتحديد الثغرات الموجودة فيه أو بالبحث عن مستويات أخرى للتأويل ( التأويل المضاعف ) على حدّ عبارة أمبرتو إيكو في كتابه الأثر المفتوح . كأن نتّجه إلى الألوان المستعملة داخل النصّ فنلاحظ طغيان الأزرق فقد ذكر في ثلاثة مواضع، بينما لم يذكر الأحمر إلاّ في موضع واحد( تعطو بعين الدّيك نحو قرنفل يحمرّ ) وكذلك الأصفر ( سوى أنّي لمحت الضوء أصفر من سلحفاتي ) في حين غاب اللّون الأسود ( وهذه الألوان هي الألوان الأساسيةالأربعة).
" منذ رأيتها في الأزرق الصّوفي"
" لم ألمح سوى عيني مطوّقة بزرقتها كما هي دائما"
"وصرصري في حقّة زرقاء من خشب"
نلاحظ في هذه الاستعمالات أنّ الشاعر جعل اللّون الأزرق فيما يحيط أي في الغلاف والغشاء ففي الموضع الأوّل هو للثّوب الذي يحيط بالجسد، جسد الجارة ( ولما كانت الجارة كما ذهبنا إلى ذلك صورة للسّلطة ) فنفهم أنّ السّلطة مغلّفة بالزرقة. وفي الموضع الثاني هو للموجودات التي تحيط بالعين أي كلّ ما يمكن أن تبصره وهو الواقع الماثل أمام العين. أمّا في الموضع الثالث فهو للحقّة التي يعيش داخلها الصرصر أي الشاعر وهي عالمه كاملا .
ولمّا كان الأزرق دلالة على التعفّن والفساد ( هذه الأرض زرقاء كبرتقالة) أي متعفّنة وفاسدة . فإنّ الفساد والتعفّن سيطال بالتّالي السّلطة والواقع والعالم، وهي قمّة التشاؤم والسوداوية التي عليها الشاعر. ولعلّ اللّون الأسود الغائب هو لون دواخل الشاعر.
أمّا إذا ما وجّهنا النّظر إلى العناصر الأولى للحياة وهي الماء والهواء والتّراب والنّار فسنلاحظ حضورا مكثّفا للماء يأتي بعد ذلك التّراب والهواء في حين تغيب النّار كما غاب اللون الأسود في الألوان. فلا نكاد نعثر على ما يحيل إليه إلاّ في دلالة الحمّى التي في قول الشاعر" وأقول زائرتي كأنّ بها حياء أم ستزورني" ويحيل هذا القول على قصيدة للمتنبّى هي قصيدة الحمّى ومنها:
وزائرتي كأنّ بها حيـــاء فليس تزور إلاّ في المنــام
فرشت لها المطارف والحشايا فعافتها ونامت في عظـامي
فالنّار إذن تسكن دواخل الشّاعر كما سكنها اللّون الأسود. ومن دلالات النّار العذاب والحرقة والحيرة والخوف وضع ما شئت من الدلالات فهي كثيرة ولا ريب.
أمّا في خصوص لعبة التّسمية التي انبنى عليها النصّ، بل لعلّى لا أجانب الصّواب إذا قلت ركّب حوله نصّ هو في الحقيقة شذرات من نصوص أخرى للشاعر فإنّنا يمكن أن نقسّمها إلى ثلاثة أقسام:
1) تغيير أسماء الأشياء الموجودة داخل الغرفة تغييرا بينيّا فيأخذ هذا الشيء اسم الشيء الآخر ( الصّحف/ السرير، المائدة/السجّاد، السجّاد/الدّولاب، المرآة/الكرسيّ....) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر أبدّل هذه الأسماء، ألعب لعبتي الأولى.
2) إطلاق أسماء حيوانات على الأشياء ( شبّاكي سلحفاتي، الأطفال أسماكي، نبيذي ببّغائي، صوت المذيعة ضفدعي) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشّاعر ورحت أبدّل الأسماء أسمائي وألعب لعبة الشّعراء.
ففي القسم الأوّل يقول الشاعر ( أبدّل هذه الأسماء) أمّا في القسم الثاني فيقول ( أبدّل أسمائي).
ويقول في القسم الأوّل ( ألعب لعبتي ) أمّا في القسم الثاني فيقول ( ألعب لعبة الشعراء ).
فما دلالة ذلك؟
3) تغيير جملة كاملة هي طالع أنشودة حفظناها في طفولتنا ( قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب) ب: ( قد كان عندي صرصر في حقّة من خشب) هذا القسم يشار إليه داخل النصّ بقول الشاعر قلت إذن أترجمها إلى لغتي فقد، والله، تشبهني وتشبه حالتي.
هل تغيّر اللعب في هذا القسم إلى جدّ وإذا كان الأمر كذلك فهل نفهم أنّ اللعبة التي انخرط فيها الشاعر وهو في وحيد في غرفته قد قادته من تسميّة الأشياء حوله إلى تسمية ذاته فلم يجد اسما يطلقه على نفسه إلاّ الصّرصر أو هو صَرَّارُ اللّيل أي الجدجد وهو حشرة كالجراد يصوّت في الليل وهو أكبر من الجندب وبعض العرب يسميّه الصّدى.
فهل الشاعر هنا مجرّد صدى وهو الصوت الذي يجيبك بمثل صوتك في الجبال وغيرها أي أنّه لا يفعل إلاّ ترديد ما يقوله الآخرون وما يشعرون به فيكون بذلك لسان قومه وها هنا مماثلة جوهريّة، الشاعر باعتباره صورة مصغّرة لمجتمعه.
أم يكون الصّدى بمعنى العطش. تقول العرب صَدِيَ الرّجل فهو صَدٍ وصادٍ والمرأة صَدْيَا.
فإذا كان الشاعر عطشان فإنّه يطلب الرِّوى، أي يطلب الماء كما فعل المسيح مع السّامرية. فهو إذ يطلب الماء يطلب الحياة.
أمام ما سبق إذن، يمكن أن نجيب عن السؤال الذي طرحناه في البداية، فنقول إنّ اللعبة لا تقتصر عند الشاعر على اللعب بالأسماء من أجل اللعب بل تتعدّاه إلى اللعب بالنّصوص أي أنّه يعود إلى نصوصه القديمة كما عاد إلى حياته القديمة، إلى أمّه وأخيه وجارته وأناشيده وغرفته وغيرها..
فكما عاد إلى كلّ ذلك ليأخذ منه ما به يواجه واقعه المرّ، عاد إلى قصائده القديمة ومن لحمها شكّل جسد قصيدته الجديدة.
فماذا نطلب من شاعر يبوح لك بأنّه مجرّد صرصر في حقّة سوداء لا يرى شيئا ممّا حوله إلاّ أن يغوص عميقا في ذاكرته يبحث فيها عن قطرات من الضوء والأمل؟؟؟
وحال شاعرنا هي حال أغلب الشعراء العرب المقيمين في أوطانهم. فهل علينا أن نطرد الشعراء العرب من أوطانهم ليعودوا إلى طبيعتهم بلابل مغرّدة للحبّ والأمل والحريّة أم نتركهم، فيظلّوا صراصير في حقق زرقاء من خشب؟
أين اسم كاتب المقال الشاعر حافظ محفوظ