top of page
Search
Writer's pictureasmourajaat2016

فنّان لا يعيش خارج نبض الشعب 'لهادي قلّة' *بقلم : جلال المخ



منذ أربعة عقود أو يزيد ارتفع صوت الهادي قلّة الشّجّي ترافقه تلاحينه المتميزة ليعلن انخراطه في تجربة فنية وإنسانية طويلة اختارت لنفسها طريقا مزروعا بالأشواك والألغام وأعلنت عن ثورتها الصّارخة والمدويّة في وجه الطّغيان بأشكاله السياسية والاقتصادية المختلفة وعن ٱنتصارها للمستضعفين والمعذّبين في الأرض وتعبيرها عن هموم الفقراء والكادحين والمقموعين، وتغنّت بأحلامهم في المساواة وتوقهم للعدل والحريّة، وطالبت بحقّ الإنسان في عيش آمن وكريم لا في تونس فحسب بل في كامل أرجاء الوطن العربي وفي كلّ أصقاع الدّنيا، وظلّت تتعالى رخيمة ومدوّية تحمل هموم المواطن التونسي والعربي والكوني وتصرّ على أن تكون صوت من لا صوت له لتقضّ راحة الأنظمة الاستبدادية وتهدّد أمنها وتبشّر بنهايتها ٱلحتمية وبسقوط عروش الطّغاة تحت ضربات إرادة الشعوب وثورتها لانتزاع حقّها في الوجود وحقّها في تقرير مصائرها. وبينما آثر كثير من الفنّانين والمغّنين والموسقيين وأصحاب القلم الارتماء بين أحضان السّلط الحاكمة وةلميع صورة زائفة لها على حساب القضايا العادلة لتغدق عليهم البعض من الفتات، أصرّت هذه التجربة الفذّة على الصّمود في سبيل ما آمنت به من قيم وما سخرت له نفسها من أهداف رغم تضييق الخناق عليها ومحاصرتها ومطاردتها ونفيها ونبذها لترى بعد العشرات من سنوات الجمر أنّها كانت على حقّ وأنّ تمسّكها وإصرارها لم يكونا مجرّد مغامرة نحو المجهول وتمسّك بأحلام طوباوية مجنونة ولترى عروش كثير من المستبدين تتزلزل وأسس أنظمة ديكتاتورية عتيّة تتقوّض ثمّ تنهار مثل قصور من الورق سرعان ما ٱحترقت وأسست أكواما من الرّماد المتلاشي لمّا هبّت الشعوب مستردّة حرّيتها وأتت إرادتها على بنيان الطّغيان وأنظمة الفساد تدكّها وتمحو عهودا من الاستكانة والرّضوخ وتتطلّع إلى مستقبل أفضل انطلاقا من الثورة التونسية يوم 14 جانفي 2011 ومرورا بمصر وليبيا وغيرهما من الدّول العربية لتمتدّ هذه العدوى الايجابية إلى كثير من الدّول الأروبية والإفريقية تجسّم ما ردّدته عقيرة الهادي قلّة الغنائية وتجسّد نبوءات وٱستشرافات كثيرة حفلت بها أغانيه مثل «إذا جعت آكل مغتصبي» و « سيجرفك السيل سيل الدّماء ويأكلك العاصف المشتعل...إلخ. والهادي قلّة صاحب هذه التّجربة الفنيّة المثيرة وذات النفس الملحمي المتميز بالإيمان بقدرة الإنسان على التغيير وقلب الموازين مهما ثبتت من مواليد ضاحية « الدّندان » يوم 24 فيفري 1954. وقد أتمّ دراسته العليا بفرنسا ليتحصّل على شهادة عليا في الترجمة التقنية باللغات الثلاث : العربية والفرنسية والانقليزية. ثمّ ليمارس مهنة الترجمة الفورية في تلك اللّغات. أمّا عن ولعه بالموسيقى وشغفه بالغناء فيعودان إلى والده المرحوم « حسن قلّة » الذي كان من أبرز المنشدين للمقامات التونسية ومن أشهرهم إذ كان ينشد المدائح والأذكار في نهج الطّريقة السّلاميّة نسبة إلى الشيخ «عبد السّلام الفيتوري» إضافة إلى إلمامه بالموسيقى الشرقية ومعرفته الموشحات والأدوار... وهذه الأجواء الموسيقية التي نشأ فيها جعلت الهادي ينطلق منذ الصّغر في تجربته الموسيقية وكان ذلك منذ فترة الدّراسة الثانوية في إطار مجموعات موسيقية للشباب في مدينة تونس، وقد طوّر أثناء ذلك الوقت عزفه على آلة العود. أمّا عن بدايته في التلحين والغناء فقد كانت في بداية السبعينات لمّا كان طالبا بفرنسا. وعنّى لأوّل مرّة في تونس سنة 1977 في سهرة الشعر العربي على ركح مسرح قرطاج الأثري. وقد تميّز هذا العرض بمشاركة الشاعرين الكبيرين الرّاحلين «محمود درويش» و «نزار قبّاني» إلاّ أنّه كان يحيي معظم عروضه الغنائية بمدرجّات الجامعات وفي التظاهرات الطّلابية حتّى ذاع صيته فاهتمّت به كثير من الجمعيّات العربية والفرنسية وأطراف مختلفة من عالم الفنّ والثقافة ليشارك في العشرات من المهرجانات المخصّصة للجاليات المهاجرة وفي عدد من المهرجانات الفنيّة والمسارح في فرنسا وإيطاليا وبلجيكيا وألمانيا وغيرها من الدّول... وما من شك في أن تجربة الهادي قلّة وأغانيه التي تزامنت مع أغاني رائد كبير آخر لهذا النمط من الأغنية هو « الشيخ إمام » وحملت هذه المضامين الجديدة والمختلفة ذات البعد النّضالي والمعبّرة عن غليان الشارع التونسي وعن هموم العمّال والعاطلين، وعن القضية الفلسطينية المتخبّطة بين مخالب الصهيونية، كانت ذات أثر غير قليل في ظهور عديد من الأصوات التي انخرطت فيما سمّي بالأغنية الملتزمة والتي يفضّل الهادي قلّة تسميتها اليوم بالأغنية الوطنية التقدّميّة. ومن بين هذه التجارب والأصوات محمّد بحر وتوفيق المستاوي والزّين الصّافي والأزهر الضّاوي وكذلك فرق غنائية كثيرة ٱشتهر بعضها مثل «البحث الموسيقي» و « عشاق الوطن »... وبعد أن غنّى الهادي طيلة أكثر من أربعين سنة للثورة في شتّى أنحاء العلم وخاصّة في تونس فمن البديهي أن يكون لوقع هذه الثورة الشعبية بعد أن تحققت أثر خاصّ في نفسه، وقد تحدّث عنها كثيرا في الصّحف والمجلاّت ليقدّم لنا عديدا من التحاليل تبيّن فلسفته حول هذا الموضوع وتبرز رؤيته المتكاملة لهذا الحدث الذي ٱعتبره مرحلة من مراحل الثورة وليس نهايتها وٱكتمالها : « لم أر بعد ثورة في تونس، أنا رأيت ٱنتفاضة ثورية وهذا شيء مختلف أمّا الثورة فيجب القيام بها الآن وبناء أركانها وحمايتها وذلك بالقضاء على كلّ عناصر الردّة والرجعيّة التي تريد الرجوع بشعبنا إلى الوراء وترمي بهيبة تونسنا وتجعلها تخضع مجدّدا لقوى الهيمنة والاستغلال الامبرياليين، ولن يكون هذا البناء ولن تكون هذه الحماية اللّذان يمثلان المرحلة الموالية من الثورة دون وحدة الشعب وتكاتفه ووعيه بمحاولات تقسيميه وتفريقه لإفشال تطلّعه نحو مجتمع ديمقراطي يوفّر العدالة والحرية والمساواة : «أتمنّى أن يبني شعبنا وحدته الدّائمة التي هي الشرط الأكبر لضمان قوّته وطاقته على التصدّي لأيّة مؤامرة خارجية وداخلية...». إن تجربة الهادي قلّة الفنيّة والإنسانية تنبع من حبّه لبلاده خاصّة وحبّه للإنسان عموما تتغنّى به وتبشّره بعد مشرق ينتزعه من ماض أو حاضر أليم قام على الاستبداد والقهر وحارب القيم والقضايا العادلة وضيّق عليها الخناق. وطبعا لم يسلم هذا الرّجل من شتّى ضروب التضييق والمحاصرة أثناء الأنظمة التونسية السّابقة وٱختار العيش في المنفى وعقله في بلاده يفكّر في أوضاعها القاسية وقلبه في وطنه يخفق لتطلّعات مواطنيه وينبض بآلامهم وأوجاعهم... وفي إطار حملات التضييق والمطاردة هذه لا بدّ من التعريج على قضية شغلت الرأي العام وكانت لها أصداء عديدة على المواقع الاجتماعية الالكترونية وهي قضية سجن أخيه الفنان الملتزم جمال قلّة وعنها يقول : منذ شهر جويلية 2010 وقع في أحواز مدينة تازركة إيقاف أخي جمال قلّة واختلفت له تهمة استهلاك المخدّرات مع نيّة الترويج. ومنذ ذلك الحين بقي شقيقي جمال في سجن المرناقية دون أن يخضع لأيّ تحليل أو تحقيق أو محاكمة... إنّي أعتبر القضية مفبركة وأشعر بالخجل إزاء ذلك. وإذا اعتقد بعضهم أن سجن أخي – وأنا متأكد من أنّه سجن ظلما – من شأنه أن يزعزع من معنويّاتي أو معنويّات أخويّ فإنّهم لن ينالوا ذلك فأنا ابن الشّعب وأعتزّ بذلك ومنه أستمدّ قوّتي... لقد غنّى الهادي قلّة لعديد من الشعراء التونسيين والعرب وبالدّارجة والفصحى إيمانا منه بأنّهما مكوّنان أساسيّان من مكوّنات الإنسان التونسي ونذكر من بينهم : المولدي زليلة وعلي سعيدان وأبي القاسم الشابي وآدم فتحي ومحمّد الصّغير أولاد أحمد من تونس ولمحمود درويش وسميح القاسم من فلسطين ولغيرهم وقد كان في كلّ ذلك وفيّا لمبادئه وقيمه ومثله التي تحمل على الطغيان في كلّ زمان ومكان، وتحلم وتبشر بغد مشرق يعانق فيه الإنسان أخاه الإنسان...



01 مارس 2012

9 views0 comments

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page