فلاش باك في اتجاه سرديّة تشكيليّة مغايرة
ملحمة الهلاليين للفنّان رجب زرمديني
بقلم: الشّاعرة أمامة الزاير
لم يضطلع الفنّ يوما بمهمّة "قول كلّ شيء" بل كان يكفيه شرف "أن يُحلم النّفس بكلّ شيء"، وهو يعجن صلصال المعنى ويحفر ذلك الأثر الذي لا يبلى. قد يكون الفنّ جارحا مرّا بطعم العلقم، وقد يكون مثل رُجَيْفَة لطيفا هادئا، لكنّه يظلّ يلوّح بالضوء في عتمة العاديّ والروتين، منتصرا أبدا إلى قضيّة أو موقف جماليّ وفكريّ وطبقيّ... منتصرا رغم همومه للإنسانيّ الذي يرزح تحت وطأة الحداثة المسخ، أو مثقلا بعواء القديم الأجشّ مثل غول الحكاية.
وأنت تجازف وتعلن انتماءك للفنيّ وتخوض معركتك كأيّ محارب أسطوريّ يدفع الصّخرة العظيمة في اتجاه الأولمب، وأنت تختار جبلك الخاصّ بك بعناية، تختار أيضا صراعك في مجتمع بطريركيّ يؤمن فقط بمقولاته الثنائيّة: السيد والعبد، الرّاعي الوصيّ والرعيّة الخانعة.. هذا المجتمع الذي ينبذ كلّ اختلاف ويزدري نصفه، ويقصم ظهر الحريّات بعصا الأب الغليظة، ويسرف في إغاظتنا بشكل ممنهج، ويصرّ على النّمط الذي كرّسه، ويعلن بعجرفة أنّ كلّ محارقه منذ بدء التاريخ بطولات آلهة ركّعت كلّ من سوّلت له نفسه أن يكون.
هذا ما قد يقفز إلى ذهنك وأنت تقف وجها لوجه أمام لوحات الفنّان التشكيليّ رجب زرمديني المعروضة بالنّادي الثقافيّ الطاهر الحدّاد.
وأنت تتأمّلها تستيقظ كلّ حواسّك دفعة واحدة وتجرّك رغم أنفك إلى حرارة الفكرة والموقف.
ثلاث لوحات وسمها "بالملحمة الهلاليّة"، مستضيفا فيها الجازية الهلالية، معيدا تشكيل ملامح هذه الشخصيّة الأسطوريّة التي ذُكرت كثيرا في تغريدات بني هلال وفي الموروث الشفويّ القَبَليّ.
ثلاث لوحات تنتصر بشكل مطلق للمرأة ضدّ العداء التاريخيّ في المؤسّسة الذكوريّة المسجّل في كتب السِّيَر والأخبار والأحاديث، الذي وَصَم النّساء ونحرهنّ علانيّة.
وأنت تمعن النّظر في هذه اللوحات ستتعثّر حتما بعلامات كثيرة تدلّ عليك في هذا اللّانهائيّ من الأخيلة الممكنة التي تتّقد مثل كومة أحطاب عالية. ستشعر بلهب النّيران الهائلة يلفح وجهك، آكلا كلّ مسلّماتك.
ستسير حتما جنبا إلى جنب في رحلة رجب زرمديني نحو مغامرته الفنيّة، وعدم سكونه إلى قلب الرّحى.
الأحمر يشعل تلك النّيران، الأحمر الغاضب المتمرّد، لمسة الحبّ والاشتهاء، اللّون المشاع في كلّ طقوس العبور(الولادة، الختان، البلوغ، العرس، الموت..). اللّون الذي يمسح به المحاربون جباههم وأذرعهم. لون يقرع كلّ الأجراس فتتحفّز العقول ويخفق القلب سريعا في انتظار ما يمكن أن يكون.
ثمّ يسحبك الأزرق من أصابعك هادئا كحلم. يتراخى نبضك وتهدأ أعصابك، يتغلغل عميقا في أوصالك وروحك ويُشرع أمامك بوّابات الخيال والانتشاء.
فبأيّ طين تعجن هذه العوالم أيّها الرسّام، وأنت تجمّع الأستقصّات بين يديك (الماء والنار) وتستدرج بياض اللّوحة الأديم وتنفخ فيها روحك؟
اللّوحات سيناريو آخر أو مشهديّة مغايرة للموروث الشفويّ والفنيّ لحكاية الجازية. حكاية تبدأ بثلاث نساء. فليكن.. عليك أن تسبّح عناصر الكون الفنيّ ثلاثا. فخمس نساء هن أصابع الفنّان التي تعيد ترتيب الحكاية وتحرّك أحداثها. ثمّ ستّ نساء وسابعهن ماعز جبليّ.
لقد حضر الماعز الجبليّ في هذه اللوحات بتفاوت عدديّ، ليحصره في ماعز واحد راكع عند قدمي امرأة يتعبّدها. هذا الماعز يحمل دلالات أسطوريّة ارتبطت بالإيروتيك من ناحية وبعلاقة أساسيّة بملحمة الهلاليّن الذين ارتحلوا وحاربوا من أجل الكلإ والماء من ناحية أخرى.
أبواق في اللّوحات، قرون وأقمار، أقواس ومناجل.. هي عناصر الرسّام ليكتمل المشهد مرتبطا بالمعتقدات القديمة وطقوسها من بعث وفناء، إعلانا للخصوبة والحياة بمختلف إيقاعاتها.
كنقّاش بارع يرسم منمنمته، كحكّاء مقتدر يستدعي كلّ الأصوات التي تزفر بداخله، ويطوّع موروثه الثقافيّ والفكريّ ليملأ تلك الفراغات ويضيء العتمة، يطلّ علينا رجب زرمديني بلوحاته الثلاث مؤمنا بقدرته على الخلق، وبأنّ الإنسان هو "الكائن الفذّ" الذي يُعلي صرحه الفنيّ في وجه العبث والعدم، صادحا بجرأة أنّ للفنّ وحده سلطة الخلق ونشوة الامتلاء.
Comments