فردريك نيتشه (1844 - 1900):
حياته:
فريدريتش نيتشه، هو ابن كاهن لوثري، ترعرع في بيئة بيوريتانية تطهرية (Puritan)، وأظهر، وهو في سن مبكرة، اهتماماً بالفلسفة والموسيقى والأدب، وفي الرابعة والعشرين من عمره صار أستاذاً في جامعة بال (Basel)، وفي عام 1879، أضطر إلى الاستقالة بداعي المرض، وألف كتاباته الفلسفية في أحوال مالية وشخصية صعبة بالسرعة التي سمح بها مرضه بالسل الرئوي من عام 1878 إلى عام 1888.
يقول ول ديورانت : "كان نيتشه طفل "دارون" واخاً "لبسمارك" أو بعبارة أوضح، فقد تأثر إلى مدى واسع بنظرية دارون، وسياسة بسمارك، ولا يهمنا كثيراً سخريته من أتباع التطور في انجلترا وأنصار القومية في المانيا، فقد اعتاد ان يهاجم الذين أثرَّوا عليه أقوى الأثر، لقد كانت هذه طريقته اللاشعورية في تسديد ديونه لمن استمد منهم معظم افكاره وفلسفته"([1]).
في طفولته، "تميز نيتشه بحرصه على الاستمتاع منفرداً في عزلته عن الآخرين، وحرص مع العزلة على قراءة الانجيل لنفسه، وتأثر به لدرجة أنه كَرِهَ أبناء السوء من جيرانه حين كانوا يسرقون الطيور أو يمارسون الكذب، لدرجة أن زملائه في المدرسة أطلقوا عليه اسم القسيس الصغير، لكنه على العكس من ذلك امتلك نفساً غامرة بالكبرياء والفخر، إلى جانب قدرته الفائقة على كبح عواطفه، وعندما بلغ الثامنة عشرة –كما يقول ديورانت- فَقَدَ نيتشه ايمانه في إله آبائه وأمضى بقية حياته في البحث عن إله جديد، واعتقد انه وجده في السوبرمان (الانسان الاعلى)، كما عافت نفسه النساء والخمر والتدخين، واعتقد بعجز المدخنين أو المقبلين على شرب الجعة، عن صفاء الإدراك ووضوح الفكر"([2]).
وفي عام 1865 وقع في يده كتاب شوبنهور "العالم كإرادة وفكرة" ووجد فيه على حد قوله –كما يضيف ديورانت- "مرآة رأيتُ فيها العالم والحياة وطبيعة نفسي مُصَوَّرة في عَظَمة مخيفة، وذهب بهذا الكتاب إلى منزله، وراح يقرأ كل كلمة فيه في جوع ونهم، ويقول "لقد بدا لي ان شوبنهور كان يخاطبني شخصياً ويوجه كلامه لي، فقد شعرت بحماسته وخُيِّلَ لي أنه ماثلاً امامي، وعلى هذا الأساس امضى نيتشه حياته كلها في البحث عن الوسائل الجسدية والعقلية التي تُقَوِّي من نفسه، وتعزز إرادته ومثاليته، فقد أثَّر لون فلسفة شوبنهور الأسود القاتم على افكاره تأثيراً دائماً، ولم يقتصر تأثير هذه الفلسفة على نفسه ايام تحمسه لشوبنهور واعتباره مربياً ومثقفاً، بل لازمه حتى في الايام التي رفض فيها التشاؤم كعامل من عوامل الانحطاط والانحلال، فقد بقي تعيساً في قرارة نفسه، ويبدو ان جهازه العصبي كان مرهفاً إلى درجة كبيرة جعلته قابلاً للتأثر والالم، ولم يكن لينقذه من شوبنهور سوى مطالعته لسبينوزا وجوته، فقد كان ينقصه صفاء ذهن الحكيم وهدوء التوازن العقلي"([3]).
وفي عام 1870، وصلته أخبار اشتعال الحرب بين المانيا وفرنسا، وأثارت فيه كل نوازع الاعجاب بالعسكرية الألمانية، وهنا قفزت إلى رأسه فكرة كانت أساساً فيما بعد لفلسفته كلها، يقول نيتشه: "لقد شعرت للمرة الأولى أن اقوى وأسمى إرادة للحياة لا تجد تعبيراً لها في الصراع البائس من أجل البقاء، ولكن في إرادة الحرب، إرادة القوة، إرادة السيادة"([4]).
عاش نيتشه ثلاثة مراحل متميزة في حياته الفكرية يوردها د. فؤاد زكريا كما يلي([5]):
1. مرحلة فنية رومانتيكية، تمتد من 1869 إلى 1876، وهي المرحلة التي كان نيتشه فيها واقعاً تحت تأثير شوبنهور وفاجنر، وتنتهي بتخلصه منهما.
2. مرحلة وضعية نقدية، وتمتد من 1876 إلى 1882، وفيها تميز تفكير نيتشه بالتأثر بالمنهج العلمي، بعد أن تَخَلَّصَ من المؤثرات الرومانتيكية السابقة، وتلك هي المرحلة التي حرص فيها نيتشه على أن يوجه أعنف نقد إلى مقومات الحياة الإنسانية في العصر الحديث.
3. مرحلة صوفية خالصة، تبدأ من كتاب زرادشت في 1883، وتستمر حتى 1888، وفيها يتميز تفكير نيتشه بالاستقلال التام، ويسير في طريقه الخاص، ويتخذ أسلوبه شكل التدفق الصوفي، لا التحليل النقدي.
لم يكن نيتشه يهدف من فكرة "موت الإله" إلا إلى إفساح الطريق امام الإنسان، حتى يمكنه –كما يقول د.فؤاد زكريا- "أن يحقق كل ما تتسع له جهوده، أما إلتجاء كيركجورد إلى الدين، فهو أمر يستطيع نيتشه تفسيره: فمن الناس من يلجأ إلى الدين لأنه سئم غيره من الناس، ورأى حياته عاجزة فسعى إلى ما هو أعلى منها، وهو في هذا يقول: "إن العنصر الديني من أخطاء الطبائع العليا التي تعذبها صورة الإنسان المُنَفِّرةَ". ونيتشه، وإن كان يَنْفُر بدوره من الصورة الحالية للإنسان، فإنه لا يريد أن يكون ذلك النفور من أجل أية حقيقة عليا، بل يريد أن يتجاوز الإنسان ذاته بذاته فحسب، فهو ينظر إلى فكرة الله على أنها تمثل الحد النهائي الذي لا تستطيع قدرة الإنسان الخالقة أن تتعداه، فهي إذن عقبة ينبغي إزالتها، وذلك هو معنى كلمته المشهورة "لو كان هناك إله، فكيف كنت أطيق ألا أكون إلهاً". ففي رأيه أن بين الله والإنسان في الخلق تعارضاً، ولابد لكي يتسع الطريق أمام قوة الإنسان الخالقة من أن تزاح كل العقبات من طريقه.
في كل هذا رأينا تفكير نيتشه يقترب – إذا فُهِمَ على نحو معين – من بعض المبادئ العامة للفلسفة الوجودية، على أن هذا التقارب إذا كان يرتبط بتفسير خاص لتفكير نيتشه الذي يَقْبَل عديداً من التفسيرات، فليس من شك في انه لن يكون حاسماً"([6]).
في حديثه عن نفسه –كما كتب هاشم صالح- يقول نيتشه: "من يعرف كيف يتنفس هواء كتاباتي يعرف أنه هواء الأعالي، هواء لاذع يُعُضّ.. وينبغي على المرء أن يكون مهيئاً له، وإلا فإن الخطر عظيم في أن يصاب بالبرد… الصقيع اقترب، والوحدة مرعبة: ولكن كم تبدو الأشياء فيهما رائعة، وهي تسبح في بحر من الأنوار!… وكم يستطيع المرء أن يتنفس فيهما بحرية! وكم من الأشياء تَشْعُر وكأنها تحتك"([7]).
ثم "يصل نيتشه إلى الفلسفة وكيف يفهمها ويمارسها فيقول: "الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم… إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك، وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة، إنها تعني البحث عن كل ما حُذِف من قِبَلْ الأخلاق التقليدية، لقد اكْتَسَبْتُ تجربةً طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط.. وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى، وعندئذ أيضاً تبدت لي الحياة المخبوءة للفلاسفة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم، واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي للقيم هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية"([8]).
ما الذي يقصده نيتشه بهذا الكلام؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا التعريف الغريب والمفاجئ للفلسفة؟
يجيب هاشم صالح على هذا السؤال بقوله: "في الواقع إن نيتشه سمح لنفسه بأن يَشُكْ في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ، فقد شَكَّ في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي في حين أنها كانت تُقَدِّم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. هذا ما فعله مع الافلاطونية أولاً ثم مع المسيحية ثانياً، هذه المسيحية التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لأن أباه كان كاهناً بروتستانتياً وكذلك جده وربما جد جده، ومعلوم أنه كان يدعوها بأفلاطونية الشعب، أي أفلاطونية سطحية مبتذلة! ومعلوم أيضا أنه أعلن عن موت الإله المسيحي القديم في نص مشهور "موت الإله"، والمقصود بذلك أن التدين المسيحي التقليدي قد انتهى في أوروبا بعد انتصار العلم والصناعة والفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر: أي في عصر نيتشه بالذات"([9]).
بالإضافة إلى تلك السمات، فقد كان نيتشه رافضاً للمسيحية، بل انه دعا إلى اجتثاث كل المعتقدات القديمة والاوهام المقدسة التي اعتبرها –كما يقول يوسف حسين- مصدراً لمكامن الضعف الانساني والخسة والدونيه التي حَوَّلَتْ الانسان إلى مجرد قطيع، فأطلق نيتشهصرخته لإيقاظ البشرية للخلاص من تلك الأوهام، وصولاً إلى الانسان القوي المتصالح مع ذاته ليكون نقيضاً للانسان الضعيف.
([1]) ول ديورانت– قصة الفلسفة – ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م - ص504
([2])المرجع نفسه –ص 508
([3])المرجع نفسه - ص509
([4])المرجع نفسه - ص511
([5]) د. فؤاد زكريا - نوابغ الفكر الغربي "نيتشه" – الطبعة الثانية – دار المعارف - 1966 – ص47
([6])المرجع نفسه - ص 44
([7]) هاشم صالح – عندما يرثي نيتشه نفسه – موقع: الأوان – 8 ديسمبر 2013.
([8])المرجع نفسه
([9])المرجع نفسه
غازي الصوراني
Comments