لَمْ نَكتبْ مُنذُ زمنٍ بَعيد والدُنيا تُغير ظِلالهَا وتُغيرني..
تَقولُ أُمي إنَّني أَخسِرُ توهجي حيالَ الحياة وإنَّ الشَغف الذي كان يسكنُ روحي قد تلاشى كالغُروب.. تَقولُ إن هذه البلادة التي أُعاملُ بها الحياة قد أضحتْ تتبدَّى الآن أكثر من أي وقتٍ سابقٍ حتى رَاحتْ تتركُ أثرها على روحي وعلى جسدي:" ليسَ عبثًا يَغْزُو الشَّيْب رَأسك".. بينما تُجهضُ على فمي إجابات جَمَّة أُخفيها لأنني أخافُ الكلامْ،"الكلامُ طاحونة،والكلاَم إذا بدأ قد يمتدُ إلى آخر اللّيل،إلى آخر حلم جميل[..]!" يقولُ "عبد الرّحمن منيفْ"، غَيرَ أنَّ زمن الأحلامِ قدْ ولَّى الآن، بلْ ولَّى منذُ زمنٍ بعيد، مُذْ تلاشى كل ذاك الشغفْ بالحياةِ..
إنَّهَا اللَّيْلة الأخيرة هُنا..
رُقعةٌ من الخشبِ كانتْ كافية لطيّ مُعلقات الجاهلية وأشعار العرب القُدامى:
قُم "ودَّع هُريرة" وعالمكَ
رُقعة من الخشبِ كانتْ كافية لطيّ أكثر من عَقدٍ ونصف من الزَّمنِ: أَوراقٌ أهلكها الدمعُ والتعبُ وطموحٌ خلتهُ لفرطِ شَغفي به غير زائلٍ. إن بيني وبين هذهِ الأشياء عوالمٌ مُدهشة وذكريات فاتنة، غير أنني أُغَادِرُهَا الآن بقلبٍ أَصّم جرّتهُ الحياة على أوصال الأيامِ وأشواكِهَا و"عركتهُ عرّك الرَّحى بثِفَالها".. ولكن من يدري؟، لعلّي عائدةٌ ذات زمنٍ آتٍ إلى هذهِ العوالم: أحيَا في رُبوعِ جِنانهَا وأُصغي إلى شجي لَحنِهَا..
إنَّها اللَّيْلة الأخيرة هُنا..
كان لِزامًا عليَّ أن أحمل بعض الكتب تَحسبًا لليالي الأرقْ، أو رُبَّما راودني الشَغفُ مرةً أُخرى فأَقرَأُ كما قبلْ أو أكثرْ..
جلتُ بعينيَّ في الكُتب الكثيرة فلمْ أتوقف إلا عندَ "الشّحاذ" وكادتْ دموع كثيرة تَسفحُ إلى جانبي وأنا أفتح الرواية وأُمررُ سبابتي بين سطورها وأتأملُ الجُمل التي قد كنتُ سطرتها بالقلم الأسود: "لا شيء مشترك بينكمَا إلاَّ تاريخ ميتْ.."، أيام البكالوريا آداب والشغف الكبير وأنهار الرغبة وهواجس الوجود والسؤال عن الذاتِ و"ذكرى المغامرات الجهنمية"، كلّها مجرد تواريخ ميتة.. فلماذا يشقُ الدمعُ صدركِ إذًا ؟
ورنوتُ إلى السماء أتأملهَا، وملايينُ النجوم تَهمسُ إليَّ، وخافقي لا يهمسُ سوى للروايةِ في يدي. ولمْ يكن معي في الظلام غيرها: "[..] والنجوم تُومض في القبة، وساءلتها عن أشواقي. وساءلتها متى يتحقق الحلم المنشود. وصرختُ حتى اضطربت لصراخي خلايا السرّو. وعاتبتُ كل شيء ولا شيء..." وتذكرتُ كل هذه الخيبات التي تَقفزُ إلى طريقي منذُ بدأتُ أعي الوجود. وكيف كنتُ أمضي من بينها صامتًا راضيًا. وماكنتُ أُحبُ البكاء. وماكنتُ انشدُ إلاَّ للصلابةِ والشموخ. وماكنتُ أهرعُ إلى صدرِ أحد بعد صدر أبي.
[لمْ آوِ إلى صدرِ أبي منذُ زمنٍ بعيد، والدُنيا تُغير ظلالهَا وتُغيرني..
حين كنتُ طفلةً، أصغرُ من العذابِ والشوك، كنتُ أَشحذُ كل الحب من أبي، أَتوسدُ كتفهُ فيُلاعبُ شعري ونتأملُ النجوم سويًا حتى أستغرقُ في نومٍ عميقٍ..
لكن الدُنيا سُرعان ماتضيقُ فتَكبر بنا وتُغير ظلالها وتُغيرنا..]
ذكرياتٌ كثيرة تَجمعني بكل كتابٍ في هذه المكتبة التي أثثتها بدمعي وتعبي، بيدَ أن لرواية الشحاذْ في قلبي ذكرى فريدة وشجية وعاصفة
يَقولُ صديق لي:" لمْ يُؤثر فيك "أفلاطون"، ولمْ تؤثر فيك حتى بُثينة تلك الصبية الحالمة التي تُماثلكِ حُب الحياة والشعرِ، وأثر فيك "عُمر الحمزاوي"؟
ستلتهمكِ فصول القانون الخرساء، لا مكان للشغفِ مرةً أُخرى.. "
ويَسري الموتُ بين ضُلوعي..
مازلتُ أذكرُ يوم سَهرتُ وخمنتُ وفكرتُ وعدلتُ وصوبتُ، يوم كنتُ أركضُ كنارٍ منهمرة بَحثًا عن الحقيقة وحدها..
يوم همستُ لقلبي:"سَيعوضنا هذا الاختيار عن كل ليالي الشَقاء.."
عن أي حقيقةٍ كنتُ أبحث؟ بأي عدالةٍ كنتُ أحلمُ في هذه البلادُ التي تلوي عُنقي دائمًا ياتُرى؟
شُعورٌ بالغرابةِ ينتابني كُلَّما فكرتُ في قراراتي التي صارعتُ من أجلها طويلاً، صارعتُ من أجلها حتى نفسي في سبيل أن أصنع لي وجودًا أفضل ممّا أنا عليه اليوم.
شُعورٌ بالخسارةِ ينتابني كُلَّما فكرتُ أنني أرنو إلى المستحيلِ،كُلَّما تذكرتُ كلام أستاذي، يُؤنبني قائلاً:" ريتا التي تُناقشُ موضوع الفلسفة بكلِ هذه العقلانية، بكل هذهِ الرصانة التي تدحضُ الطُوباوية لا أعرفُ كيف تُنشدُ في واقعها هذه القيم الحالمة بعالمٍ مثالي وعلاقاتٍ مثالية، ريتا التي كنتُ أراها أكثر التلاميذ صلابة وقدرة على المُقاومةِ لا أدري كيف تُكسرها الخيبةُ بهذه البساطة.." وماكنتُ يومًا أشد صلابة من الناسِ بيدَ أنني كنتُ أحملُ جراحي إلى السماء وإلى البحارِ وإلى التُراب وإلى الصخرِ وإلى الجبالِ. وكنتُ كثيرًا ماأُصدمُ من الشُخوصِ، كأننا لمْ نتبادلْ الموسيقى والأُغنيات والأحزان والولاءات، كأننا لم نضحكْ ولم نبكِ سويًا، كأننا لمْ نأكلْ خُبزًا وماءً معًا كانوا يَعبرون ويصرون على مُقابلةِ الوفاءِ بالجفاء، وكنتُ أمضي من بينهم صامتًا راضيًا يَلسعني الصمتُ وانعدامُ العِتابْ. وكانتْ الخيبة تُطوق أيامي وكنتُ أضحك، دائمًا أضحكُ..
شُعورٌ بالمرارةِ ينتابني، كُلَّما تَذكرتُ أنني فرطتُ
في قلبي في سبيلِ العدالةِ التي يُنشدُها ذهني، كُلَّما تذكرتُ أنني راوغتُ نفسي من أجل نفسي، وأنني كسرتُ نفسي من أجل نفسي..:
" آه لماذا علينا أن نكون بشرًا، وإذا نُراوغ القدر نتوقُ إلى القدر؟ لا لأن السعادة حقًا قائمة، ذلك النبي المُتعجلُ بوشيكِ الخسارة.. بل لأن الكينونة هُنا كبيرة[..].."
(ريلكه- المرثية التاسعة)
شُعورٌ بالتيهِ ينتابني كُلَّما تَذكرتُ أن أبي الذي غرسَ في قلبي ثورةَ الحُلمِ بالوطنِ والانتصار لهُ وحدهُ وثورة السعي في سبيل العدالةِ نصرةً للحقِ ودفاعًا عن المساكين والجياعِ والحُفاةِ من الطُغاةِ ومن هُواةِ الكلامِ، أبي الذي قال لي يومًا:"فلتنمو مخالبكِ -يابُنيتي- فقط من أجل نَهشِ الطُغاةِ، ولتمتدُ يدكِ إلى الوحلِ فقط من أجل إنتشالِ المظلومِ.." أبي الذي علمني ثورة الصُمود والمقاومة، وكان يَحملني زمن الرصاصِ وقنابل الغاز على كتفيه: طفلةً تصرخُ بالحرية، وتهتفُ بالوطن، أبي الذي كان يُرددُ على مسامعي تَعاليمَ المسيحِ :"ليسَ بالخُبزِ وحدهُ يَحيَا الإنسان"، هو أبي الذي أضحتْ الدُموع اليوم تَغزو وجههُ كلَّما بثَّ التلفاز أُغنية وطنية أو مشاهد من زمن الثورة، ليتنهدُ على اثرها ويُردد تلك الآهة التي تَكسرُ قلبي :"آه..ڤداش بنينا أحلامْ.."
شُعورٌ بالفناءِ ينتابني لشدّةِ ماحدقتُ في السرابِ، لشدّةِ ماحلمتُ،كما أبي، بالمستحيلِ، لشدّة ماصارعتُ في سبيلٍ قيمٍ هي كاللاشيء في هذا الزمن الغابر..
شُعورٌ بالفناء ينتابني وأنا أُغادرُ بيتنا الصغير، ومُعلقات الجاهلية وكُتب الفلسفة ورواية الشّحاذِ قد سَكنتْ جميعها صناديقها الخشبية الصغيرة.. وصورُ "درويش"و"أدونيس" و"السيابْ" و"فيروز" و"آزنفور" و"عبد الوهاب" و"مارسيل خليفة" و"بوب ديلان"و"جيل دولوز" و"سارتر" و"إدغار موران".. المُعلقة على الجدارِ تُودعني بحرارةٍ..:
"Paix à vous tous, vieux compagnons d'enfance et de jeunesse, au nom de l'avenir qui commence ! Je vous ai aimés, Oh! oui.. vous avez été mes confidents..nous avons ri et pleuré ensemble.. Mais vous comprenez ? il est préférable que je vous enterre[..]..
Si je vous préservais[..] vous seriez comme des vieillards dans une asile de vieillards !" ......(-Driss Chraïbi-/ -La civilisation ma Mère .!-)
١١/٠٩/١٨
شُعورٌ بالفناء ينتابني وأنا أُغادرُ قلبي المصلوب على أبوابِ القيروانِ إلى مُدن البحرِ.. تَقولُ أُمي:
"للمساءاتِ الحزينةِ بعدَ القيروانِ
وحشتها.. في المساءاتِ الهامدةِ..
حين يُطبق المدى ونَذكر قهوتها.."
شُعورٌ بالفناء ينتابني كُلَّما حان موعدُ قِطافي..
[كُلَّما حان مَوعد قِطافي أتلُو على مسامع أبي أناشيدنا القديمة، وقصائد "لوركا"، وسورة الرَّحمن، وأَغانٍ تُونسية بعيدة، ثم أَغيبُ كنجمةِ آخر الغسق قبل أن أرى وهج دمعة تَغزُو وجههُ كلَّما غنيتُ: "بَنِي وَطَنِي يَا لُيُوثَ الصِّدَامِ وَجُنْدَ الفِدَاءْ
نُريدُ مِنَ الحَرْب فَرْضَ السّلَاِم وَ رَدَّ العِدَاءْ.."
ماكان النهار قد استيقظ بعد، لكنني سرتُ إلى البحرِ. لستُ ابنة بحارٍ. وفي قسوة الأرض،وإلى جانب الزيتون وشُجيرة الصنوبر اليتيمة وُلدَ أبي، وكان الحَبل السرّي القصير يشدُه دومًا إلى رحمِ أرضه بيد أنني عشتُ في رفقتهِ حكايَا "سندباد البحر" حتى فصلها السادس ثم رحلتُ إلى مدن البحر حتى أعيش الفصل الأخير وحدي
يَلْوي أبي عُنق الزمن، وتَلوي حركة المد والجزر، هُنا، عُنقي..]
شُعورٌ بالفناء ينتابني وأنا أُحدِقُ بعينينِ غائرتين
في الموجِ يَعلو ويَهبطُ ويُفني بعضه الآخر، في هديل الحمامِ يتألقُ على صوت البحرِ ويُفنيهِ، في الشمسِ: تصَّاعدُ في آخر الأُفقْ وتتخذُ شكل المغيب، في رجفة الزمن؛ يَرتدُّ لوهلةٍ إلى الوراء ثم يستعيدُ حركتهُ مُنجرفًا إلى الأمام صاعقًا ذهني..
لمْ أقرأ منذُ زمن. لمْ أَكتبْ منذُ زمن. لمْ تعدْ الشمسُ تَغفو على صدري و"الشغف الذي كان يَسكنُ رُوحي قد تلاشى كالغروب".. قد تلاشى إلى الأبدْ.. أُمي على حق..
إنهُ الفناء..: "[..]ولأن كل هذا الذي هو هنا، وهو السريع زوالاً، يبدو أنه بحاجةٍ إلينا.. وماأغربُ ما يهمنا نحن أسرعُ الكل زوالاً. مرة فقط، كلُّ شيء مرة واحدة فقط.. مرة لا غير. ونحنُ أيضًا، مرةٌ واحدة. مرة لا عَوْدَ لها أبدًا. ولكنْ هذهِ الكينونة مرةً، ولو واحدة فقط،
هذهِ الكينونة مرةً على الأرضِ هل يُمكن لها أبدًا أن تمحّي؟....." (ريلكه/ المرثية التاسعة) ______________ يوميات 2018
ريتا هلايلي...
..........................................
رواية الشّحاذ لنجيب محفوظ، كان لها تأثير على جيل كامل من القُرّاء....كانت رواية حدثا و ظاهرة، بما طرحته من أسئلة وجوديّة حارقة...عن المعنى العبثّي للنّضال و الثّورة و القيم و الثّوابت...و عن جدوى الحياة برمّتها...كان عمر الحمزاوي، و هو يتحوّل من كائن إلى كائن، يُثيير الشّفقة...و يُثير الإعجاب.. و يُثير الرّغبة في الأفول ...و الرّغبة في الجنون...ما قيمة الثّراء...ما قيمة البذخ...ما قيمة البهرج...ما قيمة النّعيم...ما قيمة السّعادة؟؟؟
ريتا في نصّها هذا أحالتنا إلى الشّحاذ...إلى عمر الحمزاوي و قلقه الوجوديّ المُهلك...و قد استطاعت بذكاء، أن تستلهم نفس الحيرة و نفس التّيه و نفس الأسئلة....ثورة الضّباط الأحرار 56 في مصر و تبعاتها، كان لها صدى في وعي الكاتبة، و تمثّلت لها ثورة الياسمين في تونس....و لم تكن الأنا الرّاوية تتداعى تداعيا حُرّا، و هي تكتب يومياتها، بل سحبت معها شخوصا أخرى، تُقاسمها نفس الهاجس...أدباء...فنّانين...فلاسفة....و كانت الشّخصيّة الأكثر تأثيرا على الذّات الباثّة هي شخصيّة الأب...بما له من حضور فيزيائيّ و سيكولوجيّ مؤثّر...جعل الكاتبة تستثمر ذلك الحضور، و توظّفه توظيفا رائعا في نصّها...
..... كنت قد كتبتُ تدوينة صادقة عن حالة الخواء التي أمرّ بها
"كوليستيرول.... أتفاعل مع التّدوينات المرحة و الخفيفة و السّاخرة...قراءة و كتابة..
سئمت دسامة السّياسة...و دهون الأدب...و زيوت الشّعر المُهدرجة.....الإسترخاء على سطح المعنى، أفضل عندي و أسلم من الغوص في أركيولوجيا الأعماق...
ف . ج" و لكن نصّ ريتا الدّسم مرّ في حلقي بسلاسة و بزئبقيّة لذيذة و مُمتعة..... أحسنت الصّياغة و التّوظيف و تقطيع النّص تقابلا و تقاطعا... و لنا عودة إلى هذا النّص بأكثر إقامة و إدامة....تجريحا و تشريحا فتحي جلاصي
Comments