لم أغيـّـر أقفالي ومفاتيحي..
مازلتُ أحملُ القِفْلَ ذاتَهُ منذ سنين...
فلا داعي لاتّهام الأبواب بالصدإ..
ولا داعي لاتّهام الخشب الأخْرَس
والتباكي على الحظّ المأزوم..
..اعترفي..أنك أضعت مفتاحي..
في كومة المفانيح...
وقلبُ عبارتي..مستغلقٌ..
فقط أمام طواحين الريح..
...عبثا تحاولين
معالجة قِفل بابي بالسكّين...
...
من سخرية الأقدار..
أن بابي ..كان مفنوحا دائما...!
*من ديوان ـ نسّاج الضوء ـ
ـــــــ 1 ــــــ
الشّكوى من الدّهر وسوء الحظ من الدنيا والأسف على فقد الأحبّة والخلّان وذكر تخاذل الأقارب والأصدقاء غرض قديم في مختلف دواوين الشّعر العربي فهذا طرفة بن العبد يقول في معلقته وقد تنكّرت عشيرته له :
* وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
وهذا أبوفراس الحمداني الذي ظلّ أسيرا لدى الروم فتألّم من تناسيه وإهماله وهو الذي كان يذود عن حماهم حيث يقول
متحسّرا ومذكّرا فضائله :
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم *
وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
ومثله المعتمد بن عبّاد الذي كابد هو أيضا الأسر وعرف الخذلان وسوء المُنقلَب بعد عزّ السّلطان حيث يقول شاكيا حاله :
* غَريب بِأَرضِ المغربينِ أَسيرُ
سَيَبكي عَلَيهِ مِنبَرٌ وَسَريرٌ
* وَتَندُبُهُ البيضُ الصَوارِمُ وَالقَنا
وَينهلُّ دَمعٌ بينَهُنَّ غَزيرُ
ـــــ 2 ــــــ
ليس الشّعراء وحدهم قد اِشتكوا من سوء ما تعرضوا له من الغبن والظلم والجحود بل إن الأدباء أيضا قد عبّر بعضهم عن هذه الحالة فوصفوا غربتهم في قومهم حيث صوّر أبو حيان التوحيدي مثلا حالته قائلا :
ـ أمسيتُ غريب الحال، غريب النِحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملا للأذى، يائساً من جميع من ترى ـ
فنلاحظ أنّ التعبير عن معاني غرض الشكوى من سوء المنزلة كان متواترًا بين هؤلاء الشّعراء وقد ورد لديهم في أنساق تعبيرية متقاربة غير أنّ الشّاعر التونسي المنير وسلاتي لئن طرق هذا الموضوع القديم فقد عبّر عنه بأسلوب جديد من خلال إيحاءات مبتكرة بسردية شعرية تتوالى فيها الصّور وتتوالد من ثناياها المعاني فتبدأ القصيدة بالإخبار أنه لم يغيّر أقفاله و مفاتيحه ليؤكد بهذا ثباته على مبادئه رغم تبدّل الظروف فكأنه مُحصّن من غائلات الدّهر وتمضي القصيدة على نفس المسار مُبديا ثقته في نفسه معتزّا بها متحمّلا مسؤوليته في خياراته وحده دون الآخرين حيث يقول :
لم أغير أقفالي ومفاتيح
مازلت أحمل القفل ذاته منذ سنين
فلا داعي لاتّهام الأبواب بالصّدإ
ولا داعي لاتّهام الخشب الأخْرَس
والتباكي على الحظّ المأزوم
ــــــ 3 ــــــ
ثمّ ينعطف اِتّجاه القصيدة إلى مخاطبة اِمراة في صيغة العتاب داعيا إيّاها بالاِعتراف أنّها هي التي أضاعت المفاتيح وعبثا أنها تحاول فتح قفل بابه بالسكّين لأن بابه كان دائما مفتوحا حيث يقول :
...عبثا تحاولين
معالجة قِفل بابي بالسكّين...
...
من سخرية الأقدار..
أن بابي ..كان مفنوحا دائما..
هذا الباب المفتوح لدى الشاعر تعبير عن التفاعل الإيجابي معها ومع الآخرين أيضا رغم ما قُوبل به الشاعر من إيلام وما السكّين إلا رمز لكل المعاني السّلبية الخطيرة لكنّ الشاعر قابل كل ذلك بالمسالمة والأريحية و ـ الباب المفتوح ـ هو رمز لقبول الآخر المختلف بل حتّى العدائي أيضا في دعة ووئام
ــــــ 4 ــــــ
القصيدة متعدّدة الرسائل المشفّرة لمن يعنيه الأمر وهي تعبّر عن الثقة والاِعتداد بالنّفس وتلامس بعض المعاني في القصيدة حدود التحدّي لكنها تنفرج بعد ذلك نحو التعبير عن العتاب لتنتهي عند آخرها بالاِنفتاح الإيجابي
فحركة القصيدة تبدأ منبسطة سلسة ثم تتصاعد شيئا فشيئا إلى أن تصل إلى ذروة التأزّم ثمّ تنزل رويدا رويدا وتنفرج عند الخاتمة اِنفراجا مُفاجئا معاكسا لما سبق.
ذلك هو الإيقاع في هذه القصيدة التي تمثّل شاهدا متميّزا يعبّر عن التجديد الشعري
* سُوف عبيد
رادس 11 ـ 1 ـ 2023
Comments