عن جريدة المدى فوزي كريم : برزخ العزلة مقابل (الشيوعي الأخير) و (البعثي الأخير)، ستبقى (آخر الغجر).
وداعاً فوزي كريم (1945- 2019)، يوم أمس 17 أيّار 2019، كلّمني وعزّاني بك علي حاكم صالح. كنتُ أتهيّأ لسفر طويل، حينما كنتَ تتهيّأ لسفر أطول. بعدها انهالت عليّ التعازي لتؤكد انتسابنا معاً إلى أفقٍ واحد، أفق الأنسنة. في الثالث من نيسان الماضي، كنتُ أحتضنُ آخرَ وقفةٍ لك في بيتك اللندني مع زهير الجزائري. هجستُ أنه لقاؤنا الأخير؛ فالتقطنا صوراً وسجلتُ صوتك في آخرِ نقاشٍ بيننا. ولن أستفيضَ في توقّدِ ذهنك. كنتَ معلّماً في كتاب الحوار بيننا (إضاءة التوت وعتمة الدفلى)، ولَم تكن في كتابي الآخر (أنسنة الشعر) سوى شاعرٍ مثّل الفرادةَ في الموقف الستيني من الشعر، الموقف الذي حكمته الأيديولوجيا والتيارات الفكرية السائدة في حقبته، تنعاه في كتابك (ثياب الإمبراطور)، تنعى العقائد التي قادت الشعراء إلى المهالك، والمناهج التي قادت النقادَ إلى الإبهام، والحداثة التي وفدت بلا تبيئة. كنتَ موجوداً في الخضمّ وفي العزلة عنه، لأنك أردت محاولة الوجود فيهما معاً، مع الستينيين في حقبتهم وضدّهم في الاتجاه، كانوا على الأغلب مؤدلجين بين القومية والشيوعية، وكنتَ لا تعرف معنى لانتماء الشاعر، وكانوا ثوريين وكنتَ تجفل من لغتهم، فما بالك بالأفعال. لكني لن أزعم براءتك من المزاج الستيني، فكنت منافحاً مثلهم عن عقائدك "المستقلة"، وكنتَ تمسّ حافة العبث بوصفك (آخر العبث) فتلسعك. ألم تقل لي في صباح أردني من العام 2001 إنك خرجتَ يوماً في صباح بغدادي متّجهاً إلى عملك مدرّساً في المحمودية، حاملاً زوّادتك الصغيرة، ثمّ فجأة توقفت وسط الشارع، وخاطبتَ نفسك: إلى أين أنا ذاهب؟ وماذا سأفعل؟ وقفلتَ راجعاً وتركتَ الوظيفة تركاً مبرماً. ألم تغمغم في خطوات ماطرة ذات صباح لندنيّ من العام 2006، ونحن نهبط هضبة بيتك في گرين فورد، أنّ الستينات متهافتة وتنتظر من يعيد التفكير في جعجعتها. فكنتَ أنت المنتظِر المنتظَر، فكتبت (تهافت الستينيين:أهواء المثقف ومخاطر الفعل السياسي). كانوا ينعون عليك استقلاليتك ويسمونها تخلٍّ عن واجب المثقف، وكنتَ تراهم متورطين في مآسينا وإخفاقات حياتنا. كنتَ تنزل في قبو الروح مراكماً خبرتك الروحية، وكانوا يتظاهرون على السطح، يصخبون ويظنون أنهم يغيرون العالم، وقد شهدتَ مآلات تلك الأهواء على الشيوعيين أولاً ومنذ الستينيات، ثمّ على البعثيين طيلة حقبة منفاك الممتدة منذ العام 1969، حتى سحقهم في العام 2003. أما عن الحقبة التي وجّهتها الديكتاتورية البعثية، فلَم تكن تحمل غير الإدانة لانشغالات جيلي الفكرية والنقدية، لأننا كنّا نقدّم النظرية والمنهج الحديث من أجل كتابة نقدية منضبطة، وآمنة من سطوة البعث، فنلهج بالبنيوية والسيميائية والتفكيكية. وكنتَ ترى أن هذا النمط من الكتابة يحيّد الفكر ويُميت فاعليته، وهو مطلب السلطة، فكيف يسعى الكاتب من دون دراية إلى معاضدة السلطة بهذا النمط من الكتابة. ولا تخلو أيُّ كتابة لفوزي من عبارة (الخبرة الروحية) ومن كلمة (الوجدان). في آخر لقاء في لندن نيسان الماضي، قال: "الوجدان يُخيف لأنّ انعكاساته تقع داخل الروح"، كنتُ أحدثه عن موقفه من كتابي (البنى الأسلوبية) عن الشاعر بدر شاكر السياب ، وهو موقف إدانة لنمط كتابته ومنهجيته، ولَم يكن يلتفت إلى أنني سكبتُ روحي في هذا الكتاب حين جعلت حياة السياب ووجدانه ومأساته في صلب التحليل المنهجي لأشعاره. كان فوزي كائناً مُوَسْوِساً، وكانت وسوستُهُ تتعاظمُ ضدّ كلّ ما ينتج من نقد في العالم العربي، وهنا يظهر فوزي ستينياً متصلّباً، وإذا كان مستقلاً أيديولوجياً فإن وسوسته ترتفعُ عقيدةً ينظر بها للآخر الشاعر والناقد. لقد ملأ فوزي مريم الأفقَ كتابةً غزيرةً في الشعر والنقد والتشكيل والموسيقى. وحدها مطولتُهُ (قارات الأوبئة)، بكلا نصّيها العربي وترجمتها إلى الإنجليزية التي نهض بها عباس كاظم، ستقف شاهداً مطلقاً على ما حدث من كارثة على العراق، وستبقى أبداً تشير إلى الفكرة المدمرة، في ثقافتنا. أراك الآن حلمَ يقظة كالحياة نفسها، تجلس أمامنا، زهير الجزائري وأنا، في بيتك الحميم، بخلفية موسيقية، وأنت شاحبٌ، تقول لنا آخر الكلمات، وتنعى نفسك وتقول: "من يتخطى السبعين أخذ حقّه من الحياة".
Comments