هناكَ طيف واسع من أشكال الكتابة، أقربها إلى نفسي ما يُعرف بـ"المحاولة"، وهي تسمية لم تستقرّ بعد في الثقافة العربية؛ إذ نجد من يسمها بأدب التجريب أو أدب المقالة، والمقصود تلك المنطقة الحدودية ما بين الفكر والأدب، حيث لا حرج في إقحام الصوت الداخلي لقول شيء ما يخصّ العالم أو المعرفة، وهي منطقة مزدهرة في الثقافات الغربية حتى باتت المحاولة ثاني الأجناس جاذبية - للكتّاب والقرّاء - بعد الرواية.
ليس الأمر كذلك في ثقافتنا، حيث يمكن الانتباه إلى صعوبةٍ ملموسة في توطين هذا الشكل الكتابي، نظرياً وعملياً، وهي صعوبة تُخفي خلفها إشكالية تسكنني منذ سنوات، وها إن ذكرى ميلاد من يوصف بـ"أب المحاولة"، الكاتب الفرنسي ميشيل دو مونتاني (وُلد في مثل هذا اليوم من شباط/ فبراير 1533 ورحل عام 1592)، تدفع بها إلى سطح التفكير.
يحضر مونتاني أمامي أيضاً لسبب آخر، وهو غيابه الطويل عن اللسان العربي (خمسة قرون منذ صدور كتابه "المحاولات")، ثم حضوره المفاجئ من خلال ترجمتين ظهرتا في 2021؛ إحداهما لجلال الدين سعيّد والثانية لفريد الزاهي، كذلك صدرت بداية الثمانينيات منتخبات من "المحاولات" نقلها نبيه صقر ضمن ترجمة كتاب "مونتاني" لأندريه كريسون. هكذا أستشعر تعقيدات العلاقة التي تربطنا مع هذا الكاتب، ومع الجنس الأدبي الذي ابتكره. فما الذي وضعه فيه؟
بَحثَ مونتاني من خلال "المحاولات" أن يكون نفسه، أي ألا تتحوّل الكتابة إلى حجاب يفصله عن القارئ. لقد لاحظ أن الكتب قد تحوّلت إلى وسيط بين الإنسان والعالم، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك. وجدها تتحدّث بسُلطوية جازمة، تتّخذ موقعاً بين المقدّسات، وباتت تحضر بأحجام غير بشريّة، لذلك أخذ يجرّب، وهو معنى كامن في التسمية التي اتخذها لما كتبه Essai، والتي تحمل مدلولات متعدّدة من معناها العميق ذي الأصول اللاتينية: الوزن، إلى التجربة والمحاولة وغير ذلك.
ارتاح مونتاني لهذا التعدّد الدلالي الذي يختزنه مصطلح Essai، وخاض تجربة عمرٍ في كتابة محاولاته، يتحدّث فيها عن كل ما يخطر بباله ويذهب في كل مرّة بموضوع إلى أبعد الآفاق؛ مسائلاً، مُقارناً، ممحّصاً، مفكّراً، وقبل كل شيء منغمساً في كل فكرة يتناولها، وبغير هذا الانغماس لن يكون النصّ محاولة في نهاية تحريره.
لم يكتب مونتاني غير المحاولات، بل إنه بقي يشذّب فيها طوال حياته، تاركاً خصومات كبيرة بين محقّقيه؛ فهذا يرجّح صيغة وضعها في صومعته في بيريغور، وذاك يعتمد طبعة بوردو، وثالث يتّجه إلى طبعة صدرت في باريس. ومن وراء ذلك، كان مونتاني قد مرّر فلسفة للكتابة؛ إنها غير مكتملة على الدوام، هناك شيء ما يظلّ قابلاً للتشذيب والتطوير، وربما للحذف والتبديل.
كانت هذه الأريحية غائبة في العصور السابقة. كان من العسير أن يعترف الكاتب بمحدوديته خشية على مصداقيته، وأصبح من الضروري - مع مونتاني - أن يعترف الكاتب بتلك المحدودية كي نصدّقه. هكذا فهم الكاتب الفرنسي ضرورة إسقاط البُعد الصَنميّ للمؤلّف، على هذا الأخير أن يترك نياشينه حيث يلج الحديقة السرية للكتابة.
أفادت هذه الرؤية في إدخال المرَح على تمرين الكتابة الفكرية. يقول لنا مونتاني: بات من الممكن أن نكتب من خارج الثقافة العالمة، يمكن أيّاً كان أن يتناول أي موضوع، بشرط أن يجد زاوية تضعه على محكّ إشكاليّ ليستخرج منها الكامن والباطن مما لا تراه القراءات العابرة.
جرت مياه كثيرة تحت هذا الجسر الذي اخترعه مونتاني، فقد التقط كثيرون الفكرة الأصلية فزادوا وأنقصوا وشذّبوا وطوّروا (بيكون، روسو، أدورنو...)، لتُناسب "المحاولة" كل عصر، لكنهم اتفقوا على بعض الملامح فجعلوها أعمدة، ومنها هذا المرح والاحتفاء الخجول بالذات.
إلى مثل تلك العناصر أصوّب نظري وأتساءل: لماذا تغيّب مونتاني بالذات كل هذه القرون، فلم تصلنا خبرته مع النصوص وأشكال تعامله مع العالم؟ أتخيّل وقد تُرجم منذ القرن التاسع عشر، أي مع إعادة تشغيل العرب لجهاز الترجمة، فباتت أساليبه دارجة في شرايين الكتابة العربية. لكنه لم يحضر في ثقافتنا العربية إلا كنموذج غائب، ومن ورائه جنس المحاولة برمّته. وفي الأثناء لا أدري لماذا حكمنا على أنفسنا بأن نغرق في التمارين المعقّدة للكتابة الفكرية.
Comentarios