من مقدمة كتاب (ألن غينسبرغ: أعمال شعرية ونثرية-أشعاره، مقالاته، يومياته، حواراته، رسائله)
منشورات الجمل، ترجمة محمّد مظلوم
*
لم يُقرأ ألن غينسبرغ (1926-1997) بالعربية بشكل حقيقيٍّ! قد تبدو هذه الحقيقة صادمة للوهلة الأولى لمن اعتادوا معرفة كل شيء والحكم على أي شيء من أقلِّ شيء، لا سيَّما مع كل الشهرة التي يتمتَّع بها هذا الشاعر الذي يعدُّ أحد أبرز رموز الثقافة المضادة في أمريكا خلال القرن العشرين، وأحد أهم شعراء ما بعد الحداثة الذي أسهم مع أقرانه من (جيل البيت) في تغيير مسار الشعر الأمريكي بل نمط الحياة الأمريكية بمجملها في الخمسينيات والستينيات، وهي شهرة عالمية أساساً قبل أن تصل إلى أوساط القراء العرب، لكنها بقيت أقرب إلى شهرة شخصية عامة وبدت مجرَّد اختزال نمطي أكثر من كونها معرفة عميقة بالتجربة الفريدة لهذا الشاعر ليمكن وصفها بأنها متحققة فعلياً. كما قد تبدو مثل هذه الحقيقة غير مفهومة للبعض الآخر من القراء والمهتمين، لا سيَّما مع حضور اسم غينسبرغ في العربية منذ أوائل الستينيات من خلال ترجمة توفيق صايغ المبكرة لإحدى قصائده وإنْ كانتْ لا تمثِّله تماماً ولاحقاً من خلال التعريف به وببعض أقرانه من جيل البيت في الملفّ الذي نشره سركون بولص في مجلة (شعر) ثم ترجمته للأجزاء الأساسية من قصيدته الفذَّة (عواء) في مجلة (الكرمل) وصدرت بعد رحيله في كتاب هو الوحيد لغينسبرغ المطبوع بالعربية حتى الآن لكنه لم يتضمَّنْ سوى أربع قصائد من شعر غينسبرغ يعود تاريخ كتابتها جميعاً لعقد الخمسينيات.
لا شكَّ أن ترجمة سركون وتقديمه غينسبرغ للعربية تتمتَّع بميزة الريادة، وستبقى كذلك، إلا أنها ظلَّتْ حجراً مبكراً وصغيراً في تحريك مياه عميقةٍ ولم تعقبها أحجارٌ أخرى تعيد تحريك تلك الأعماق من بعده، ولا شكَّ أيضاً أن تلك الترجمة كانت محكومةً بشيء من الرقابة، لا نعرف حتى الآنَ ما إذا كانت رقابة ذاتية مارسها سركون على ترجمتهِ، أم مورستْ من قبل مجلة (الكرمل) لا سيما وأنها نشرتْ لاحقاً ترجمة مشوَّهة تماماً لنص آخر لغينسبرغ عند رحيله عام 1997.
وهكذا جرى اختزال غينسبرغ في صورة نمطيَّة بقصيدتين تقريباً هما (عواء) و(أمريكا) وكلاهما تعودان للخمسينيات، بينما جرى إغفال مراحل تطوُّر تجربته للعقود الأربعة التالية، وما طرأ عليها من تحولات أساسية وكبرى، شكلاً ومضموناً، على صعيد البناء الفنيِّ لشعره، وعلى فهمه السياسي وفكره الاجتماعي والميتافيزيقي تجاه العالم والكون والحياة والموت والإنسان والمجتمع والسلطة.
ربما كانَ تقديم غينسبرغ الحقيقي بالعربية محفوفاً بمخاطر جمَّة ويصطدم بعوائق عدَّة، فهو يتطلَّب جرأة على أكثر من صعيد، وفي أكثر من جانب: جرأة في الترجمة، وجرأة لدى ناشرٍ يؤمن بالحرية المطلقة في الكتابة. وقد وجدت نفسي شخصياً أمام هذا المأزق في مواضع عدَّة من هذا الكتاب، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في ترجمة قصيدة (أرجوك يا سيِّدي) التي يصفها غينسبرغ نفسه ورغم جرأته المعهودة بأنها (جعلته مُحرَجاً لأنها مُسرفة في المجون حقاً) لكن ما معنى أن تحذف أبياتاً أو تهذِّب ألفاظاً في عمل فني يقوم أساساً على هذه الفجاجة لإحداثِ صدمة في الوعي؟ وهل من جدوى تبقَّتْ لمثل هذه الرقابة على الفن والشعر تحديداً في هذا العصر الذي أصبحت فيه الرقابة فولكلوراً من أوهام سلطات بائدة؟ لذا قرَّرتُ أنْ لا أُخضِع القصيدة لرقابتي (الأخلاقية) الذاتية وميولي الشخصية، فلا أغفل المفردة المحدَّدة في النص لصالح أخرى مواربة أو أهذِّبها بخيارات بديلة من شأنها أن تُفقدَ العمل صراحته وفجاجته الخام وبالتالي تجرِّده من سمته المسرفة في المجون والتي تعدّ أساسية في القصيدة. وعموماً فإن شعر غينسبرغ واجه المنع والرقابة حتى في أمريكا نفسها منذ الخمسينيات أثر المحاكمة الشهيرة التي أعقبتْ نشره ديوان (عواء) في طبعته الأولى عن (أضواء المدينة) وهو نص ظلَّ ينشر حتى وقت قريب في بعض الطبعات وقد طمست بعض كلماته بعلامات حذف، وكذلك طال المنع بث قصائده صوتياً عبر أثير الإذاعات الأمريكية (راجع بيانه عن الرقابة في هذا الكاتب) كما كانت جرأته في طرح آرائه وسلوكياته للتعبير عن حريته المطلقة سبباً في طرده من أكثر من دولة شيوعية (لاتينية وأوربية) رغم تعاطفه السياسي المبدئي معها وهو ما يتعرَّض لتفاصيله أيضاً في فصول هذا الكاتب. وهنا لا بد أن أنوِّه إلى أنه سيكون من العسف الفادح أن تُقرأ قصائد غينسبرغ من زاوية أحادية تركِّز على اختراق شعره للقيم الأخلاقية المحافظة في الثقافة الأمريكية أو في تحريضه الشعاري وتجديفه العقائدي وتهكمه السياسي وإجهاره بمثليَّته وسواها من مضامين نافرة وفجَّة، فهذا الخرق للمحظورات وإن كان من السمات الواضحة في شعر غينسبرغ وسائر زملائه في (جيل البيت) إلا أن تجربته تنطوي أساساً على قيمة فنية عالية وبناء شكلي مُغاير، مِعماريَّاً ومِعياريَّاً، لِما هو سائد في بنية قصيدة الحداثة كما لدى إليوت مثلاً، وهو ما لم يجر الاهتمام به نقدياً في ثقافتنا العربية، وأنى لنا نقد عربي قدير على كشف هذه الاختراقات الشكلية في شعر بلغة أخرى وهو ما زال يلوك مقولات قديمة عن شعر (الرواد) في لغته الأمّ!
Comments